منذ أن أقامت الحركةُ الصهيونية العالمية، وبمساعدة دول استعمارية قديمة وحديثة، دولةَ إسرائيل في 14 مايو 1948، على أرض فلسطينية عربية، والمنطقة تعيش حالة من التنازع الطويل، يدفع ثمنَه المدنيّون الفلسطينيون قتلًا وتهجيرًا وطمس هوية بذراع شتى؛ منها ما هو قائم على أباطيل سياسية مفضوحة، ومنها ما هو قائم أيضًا على ادعاءات تاريخية وأساطير زائفة تسوقها ماكينات الإعلام الصهيونية المؤثرة.
وجّهت حكومات الغرب بخلفياتها الاستعمارية وعلى مدى 75 عامًا كل إمكانياتها السياسية والعسكرية والمالية، للحفاظ على بقاء دولة الاحتلال العنصري في قلب المنطقة العربية لأسباب اقتصادية وأمنية لم تعد خافية على أحد، وفي الوقت ذاته حافظت على استمرار أنظمة عربية استبدادية في المحيط، تنفق الأموال المهولة في بناء منظومات عسكرية وأمنية لقمع شعوبها.
على مدى خمسة عقود، وتحديدًا منذ مرحلة ما بعد أكتوبر 1973، عملت هذه الأنظمة على تفكيك بنية القضية الفلسطينية لصالح مشاريع استسلامية تحت لافتات السلام، التي لم تستفِد منها غير دولة الاحتلال، فبدلًا من استثمار نتائج حرب أكتوبر والمضيّ في نصر كامل يُمكّنها من استعادة كل الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد يونيو/ حزيران 1967 وما قبل يونيو، سعت إلى تقديم تنازلات شتى في الأراضي والمواقف، وتسهيل تصفية الرموز الفلسطينية الفاعلة في العواصم العربية بتخادمات استخباراتية فاضحة.
مرّت القضية الفلسطينية بمنعطفات خطيرة، ابتداءً من حرب التطهير الأولى في العام 1948، وما رافقها من مجازر وتهجير للسكان، ومرورًا بنتائج حرب حزيران واحتلال بقية المناطق الفلسطينية والجولان والضفة وسيناء، ثم ضرب المعسكرات الفلسطينية في الأردن أو ما عرف في الأدبيات بأيلول الأسود في 1970، ثم وجودها في نسق الحرب الأهلية اللبنانية؛ ابتداءً من منتصف السبعينيات، التي توجت بإخراج مقاتلي الفصائل الفلسطينية من لبنان في صيف 1982، وصولًا إلى أخطر تلك المنعطفات؛ وهو الذهاب إلى تسوية سياسية مع دولة الاحتلال في العام 1993 (اتفاق أوسلو)، ولم تجنِ منها القضية غير الخيبات، خصوصًا بعد أن بدا العالم أعرجَ بعد التحولات العاصفة بسقوط المعسكر الاشتراكي مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى قائد فعليّ للعالم، فسهّلت أمريكا لدولة الاحتلال قضم المزيد من الأراضي، وبناء المستوطنات، واستزراع جدران العزل العنصري، والتنصّل من التزاماتها السياسية، دون أن يجرؤ أحدٌ على محاسبتها.
الانقسام السياسي الفلسطيني وتوظيف الجماعات الفلسطينية (السياسية والعسكرية) من الأنظمة العربية والإقليمية لأهداف تخدم مشاريعها البرجماتية، كان واحدًا من معضلات المشكلة الفلسطينية، وأُضعِفت الحوامل المتعددة لمسارات النضال لإقامة الدولة الفلسطينية على قاعدة حل الدوليتين المتوافق عليه قسرًا.
تنوّعت أساليب التنكيل التي اتبعتها دولةُ الاحتلال بحق أصحاب الأرض، طيلة سنوات احتلالها، ووصلت ذروتها مع حرب غزة الأخيرة، منذ السابع من أكتوبر 2023، من عمليات إبادة وتطهير في شمال القطاع ووسطه وجنوبه.
آلة القتل الصهيونية تفتك بأرواح الفلسطينيين وتدمر مساكنهم ومنشآتهم الحيوية أمام أعين حكومات العالم المنافق، بما فيها الحكومات العربية، منذ قرابة خمسة أشهر دون أن تحرّك، هذه الحكومات، ساكنًا، بل وتعمل دبلوماسياتها على إنتاج تبريرات لا أخلاقية لهذا الفعل الدموي البشع، الذي وصل مؤخرًا، إلى حدّ الاعتداءات والانتهاكات الجنسية بحق المعتقلات والأسيرات الفلسطينيات.
حرب إبادة بشعة يَستثمر فيها سياسيًّا، اليمينُ الصهيوني المتطرف داخل سلطة الاحتلال الذي يخشى المحاسبة، وأنظمة وسلطات استبدادية في الإقليم والمنطقة لاستدامة حضورها داخل المشهد، على حساب القضية وأصحابها الفعليين، وتستثمر فيها الحملاتُ الانتخابية للحزبين الرئيسَين في الولايات المتحدة.
لكنها في الوقت ذاته استطاعت تحريك ضمائر نقية لعديدٍ من الحكومات في العالم، في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، اكتوت سابقًا بنيران الاستعمار والاستبداد، ودفعت دولة مثل جنوب إفريقيا إلى أن تتقدم بدعوة قضائية ضد دولة الاحتلال لارتكابها جرائم حرب يُطلق عليها رسميًّا تطبيق اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها في قطاع غزة أمام محكمة العدل الدوليّة، في 29 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
ومع قاعدة "رُبَّ ضارة نافعة"، يستوي القول إنّها حرب بشعة استخدم فيها جيش الاحتلال الصهيوني كل أنواع الأسلحة الفتَّاكة والمحرمة دوليًّا، وراح ضحية عملياته العنصرية 25 ألف مدني، حتى يوم 20 فبراير 2024، وتدمير مئات المساكن ومعظم البنية التحتية لقطاع غزّة، لكنها أعادت القضيةَ الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني إلى الواجهة، بعد سنوات طويلة من المحاولات الصهيونية وماكيناتها المؤثرة لمحوها من الخارطة السياسية في المحافل الدولية، وبرزت معها حالة تعاطف كبيرة من شعوب الغرب الأوروبي، بتنظيم مظاهرات ومسيرات ووقفات احتجاج مساندةً لمظلومية الشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته تدين الغطرسة الإسرائيلية ودموية جيشها، في عواصم ومدن شتى.
في هذا الملف، مجموعة من المواد الصحفية والمقاربات التحليلية التي نُشرت خلال الأشهر الماضية، وتخوض في جوانب مختلفة من الموضوع الفلسطيني، ليس فقط على خلفية حرب غزة الأخيرة، وسنوات الصراع العربي الصهيوني، بل امتدت لمعاينة جذور القضية وحمولاتها الثقافية والسياسية.