فلسطين في وجدان وذاكرة "عدن"

ذَهَبْنَا إِلَيها قَبْلَ تَارِيخنَا، فَوَجَدْنَا اليَمَن
فؤاد مسعد
May 30, 2024

فلسطين في وجدان وذاكرة "عدن"

ذَهَبْنَا إِلَيها قَبْلَ تَارِيخنَا، فَوَجَدْنَا اليَمَن
فؤاد مسعد
May 30, 2024
.

شاءت الأقدار أن تربط بين القضية الفلسطينية ورموزها وأعلامها وأحداثها وبين الذاكرة والوجدان الجَمْعي لمدينة عدن، كبرى محافظات الجنوب اليمني، ولقد تزامن نشوء العلاقة بينهما منذ العام 1967، العام الذي شهد نكسة الخامس من حزيران/ يونيو، في فلسطين، وفي أواخره تم إعلان الاستقلال الوطني لجنوب اليمن وتحريره من الاحتلال البريطاني الذي ظلّ جاثمًا عليه 129 سنة.

_______________________________ 

ذَهَبْنَا إلَى (عَدَنٍ) قَبْلَ أَحْلاَمِنَا، فَوَجَدْنَا القَمَرْ

يُضِيءُ جَنَاحَ الغُرابِ

التَفَتْنَا إِلَى البَحْرِ، قُلْنَا: لِمَنْ

لِمَنْ يَرْفَعُ البَحْرُ أَجْرَاسَهُ،

 أَلِنَسْمَعَ إِيقَاعَنا المُنْتَظَرْ؟

ذَهَبْنَا إِلَى (عَدَنٍ) قَبْلَ تَارِيخنَا، فَوَجَدْنَا اليَمَنْ

حَزِينًا عَلَى امْرئِ القَيْسِ، يَمْضَغُ قاتًا، وَيَمْحُو الصُّوَرْ

(محمود درويش)

في مدينة عدن يُطلق اسم الشهيد الفلسطيني (غسان كنفاني) على واحدٍ من أقدم الأحياء السكنية شمال المدينة، وسُمّيت أشهر وأهم قاعة للاحتفالات الرسمية في عدن بـ(قاعة فلسطين)، وفي منطقة (الشيخ عثمان) الواقعة شمال عدن يوجد (شارع غزة)، كما تسمّى إحدى حارات عدن في منطقة (المنصورة) بـ"وديع حداد"، القيادي البارز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان يأتي عدن في سبعينيات القرن الماضي ويستقر فيها بين فترة وأخرى.

شاءت الأقدار أن تربط بين القضية الفلسطينية ورموزها وأعلامها وأحداثها وبين الذاكرة والوجدان الجَمْعي لمدينة عدن، كبرى محافظات الجنوب اليمني، ولقد تزامن نشوء العلاقة بينهما منذ العام 1967، العام الذي شهد نكسة الخامس من حزيران/ يونيو، في فلسطين، وفي أواخره تم إعلان الاستقلال الوطني لجنوب اليمن وتحريره من الاحتلال البريطاني الذي ظلّ جاثمًا عليه 129 سنة.

عزّز الاحتلال الإسرائيلي وجوده ووسّع رقعة السيطرة على الأراضي الفلسطينية في أعقاب هزيمة حزيران 1967، إلى جانب احتلاله مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة وأجزاء واسعة من سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، فيما باتت عدن وبقية مناطق جنوب اليمن مستقلة تحكمها "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن"، الفرع اليمني لحركة القوميين العرب، الحركة التي شارك في تأسيسها طلابُ الجامعة الأمريكية في بيروت، أمثال: محسن إبراهيم، هاني الهندي، أحمد الخطيب، جورج حبش، والأخير أسس بعد ذلك الفرعَ الفلسطيني لحركة القوميين العرب، ثم أسس مع قيادات فلسطينية أخرى (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وسيغدو أحد القادة السياسيين الذين ارتبطوا بعدن وحكّامها فترة طويلة من الزمن.

حين كانت حركة القوميين العرب تعيش تبعات هزيمة القومية العربية في حرب العام 67، كان فرعها في اليمن يضع اللمسات الأخيرة لإنجاز الاستقلال الوطني عن بريطانيا- الداعم الأبرز للاحتلال الإسرائيلي، بدءًا بوعد بلفور المشؤوم في نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، ومرورًا بالتسهيلات المستمرة للعصابات اليهودية وتمكينها من احتلال أرض فلسطين إبان الانتداب البريطاني لفلسطين، وليس انتهاء بتسليم فلسطين لتلك العصابات التي جرى تجميعها من مختلف دول العالم.

أواخر ستينيات القرن العشرين، أصبح التوجه الماركسي هو المسيطر على حركة القوميين العرب، وكذلك الحال في الفرع اليمني الحاكم في عدن: الجبهة القومية، ومن هنا بدأت العلاقات تتعزّز بين النظام الحاكم في عدن من جهة، والقيادات الفلسطينية واللبنانية في حركة القوميين العرب بشكل عام، ومختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص الفصائل ذات التوجه اليساري، وفي مقدّمتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة جورج حبش، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بزعامة نايف حواتمة. 

عندما كانت الأنظمة العربية تضيق الخناق على المقاومين الفلسطينيين، كانت عدن تستقبلهم وتوفر لهم المأوى والمسكن، بل وأنشأت لهم المعسكرات في عدن وفي المناطق المجاورة، ومنها محافظة أبين (شرق عدن) التي كان يوجد فيها معسكر للجبهة الشعبية الذي طالما استقبل عناصر العمليات النوعية، وهم في الغالب من مختلف الجنسيات، يجمعهم الانتماء للعمل الفدائي، حيث كان بينهم يابانيون ينتمون لـ(الجيش الأحمر).

خلال عقدَي السبعينيات والثمانينيات، صارت عدن قِبلة لقادة الفصائل اليسارية عامة والفلسطينية منها على وجه الخصوص، وتوافد الفلسطينيون إلى عدن واستقروا فيها سنوات طويلة، لا سيما بعد خروج الفصائل الفلسطينية من بيروت بعد صيف 1982، ومن هنا أصبح للفدائيين الفلسطينيين مكانهم المميز في عدن، عاصمة اليمن الجنوبي- الدولة الوحيدة ذات التوجهات الماركسية.

ولم تقتصر العلاقات بين الفلسطينيين وعدن على الزيارات العابرة والإقامة الدائمة للمئات منهم، بل شمل ذلك التنسيق والدعم والتعاون، وكان نظام الحكم في عدن خير سند للعمليات الفلسطينية التي كانت تقوم بها الفصائل الفلسطينية، خاصة الفصائل اليسارية بقيادة جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد الذي استقرت أسرته في عدن فترة من الزمن.

عندما كانت الأنظمة العربية تضيق الخناق على المقاومين الفلسطينيين، كانت عدن تستقبلهم وتوفر لهم المأوى والمسكن، بل وأنشأت لهم المعسكرات في عدن وفي المناطق المجاو.رة، ومنها محافظة أبين (شرق عدن) التي كان يوجد فيها معسكر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- الجناح الخارجي، وهو المعسكر الذي طالما استقبل عناصر العمليات النوعية التي كانت تنفذها الجبهة الشعبية، وهم في الغالب من مختلف الجنسيات، يجمعهم الانتماء للعمل الفدائي، حيث كان بينهم يابانيون ينتمون لـ(الجيش الأحمر الياباني).

ولأهمية هذا المعسكر ودوره في الإعداد والتدريب على العمل الفدائي الخارجي، هدّدت إسرائيل بمهاجمته، ممّا اضطر عناصر المعسكر للمرابطة 15 يومًا متواصلة في الحقول خارج المعسكر، قبل أن تتعرض تل أبيب للتهديد من الصين والاتحاد السوفيتي، حسب مصادر فلسطينية. 

عندما بدأت أولى عربات قطار التطبيع العربي تتحرك وتعلن عن نفسها من خلال اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل والسادات (1978)، ائتلفت حكومة عدن ضمن (جبهة الصمود والتصدي) التي شكّلتها الدول العربية المناهضة للمفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي، وضمّت الجبهة إلى جانب اليمن الجنوبي: سوريا والعراق (انسحبت فيما بعد) والجزائر وليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينية. 

كانت عدن المأوى المناسب لرموز الحركة اليسارية من مقاومين ومعارضين وكتّاب وشعراء وفنانين، وفي مقدمتهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي وثّق بقصائده الارتباط بعدن ومعها، ولا يزال كثيرون من أبناء عدن يتذكرون زيارات درويش لمدينتهم، كما يتذكر بعضهم الطابورَ الصباحي في مدارسهم حينما يكون مصحوبًا بالأغاني الثورية لمارسيل خليفة الذي طالما غنَّى في صباحات عدن وأشعل مساءاتها بأناشيد الثورة وأغاني المقاومة. كما أنهم يتذكرون الفلسطينيين والفلسطينيات الذين كان لهم دورٌ بارز في المدارس، وكذلك في التدريبات في عدد من المعسكرات الصيفية وغيرها.

وكل ذلك يظلّ شاهدًا على فترة زمنية جمعت بين القضية الفلسطينية والوجدان اليمني في أبرز وأجمل مدنه (عدن)، التي لا تزال الأسماء الفلسطينية (غسان كنفاني) و(وديع حداد) و(قاعة. فلسطين)، تزيّن كثيرًا من مناطقها.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English