الوعي بتاريخ الأغنية الحضرمية وخصائصها الفنية

يكون تأثيرها أعمق إذا تم الاستماع لها مباشرة من فم المغني (2-2)
د. عبده بن بدر
April 10, 2025

الوعي بتاريخ الأغنية الحضرمية وخصائصها الفنية

يكون تأثيرها أعمق إذا تم الاستماع لها مباشرة من فم المغني (2-2)
د. عبده بن بدر
April 10, 2025

وتوضيحاً لمسألة الخصوصية في المقامات يمكن للاختصاصي الموسيقي أن يلاحظ الآتي:

فمقام (حجاز اليمن) يختلف في قيم نغماته عن (الحجاز العربي) وفي طريقة عزف (السي والمي).

الأغنية في حضرموت مثلها مثل الأغنية العربية والشرقية يكون تأثيرها أعمق إذا تم الاستماع لها مباشرة من فم المغني من دون وسائط تسجيل، لأن الفنان يستكمل بحضوره المباشر النواحي التعبيرية الجمالية المتجسدة في لحن الأغنية، عن طريق الحركات والإيماءات الصادرة من المطرب في أثناء عملية أداء الأغنية، وربما يرتجل بعض اللمسات الفنية التي تزيد من اشتعال جمال الأغنية، وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الأغنية اليمنية والشرقية فهو لا ينطبق على الأغنية الغربية. وربما بعض القراء لا يوافقون على فكرة أن المؤدي الغنائي في الأغنية الغربية لا يستخدم أطراف جسده للتعبير عن مضامين الأغنية التي يصدح بها، بل هو لا يكف عن التعبير بوجهه وأطراف جسده، إذا رأى أن ذلك يفيد في إخراج التعبير الموسيقي من أعماق الأغنية.

والجمل الموسيقية في الاغنية بسيطة مثل تركيبها اللحني المعتمد على الخط الواحد، ولعل تداولها المستمر مكنها من الرسوخ في الذاكرة الغنائية بسبب خفة تركيبها، وبقيت تتردد في وديان الزمن، ولم تغير موضوعاتها المختلفة من بقاء الألحان نفسها، وقد ضمن لها ذلك الاستمرار، ولا يستبعد أن بعضها اندثر بسبب النقل الشفاهي للألحان، وغياب التسجيل الصوتي لها بوساطة أجهزة التسجيل.

اللحن في هذه الأغاني يأتي من فم المغني الذي لا يجيد العزف في الغالب، وبخاصة في الأغاني الشعبية المرسلة التي لا تستخدم فيها الآلات وتعتمد على الصوت المجرد.

الأغاني المنسوبة للبادية تعتمد على الصوت البشري المجرد، وفي بعض الحالات تجد أن صوت المؤدي يشع بالموسيقى إذ يتحول فمه إلى أداة موسيقية تشبه الناي إذا لم يتفوق عليها في بعض الأحيان كما هو الحال في (فن الكرّام)

محاكاة اللحن الشفوي

إن أغاني الرقص، والغناء الصوفي لا تصنع لحنها المستقل الخاص بوساطة الآلات، بل كل ما تفعله هو محاكاة اللحن الشفوي الصادر من فم المغني، والدليل على ذلك أن اللحن في الزربادي الذي يرافقه صوت الناي الذي يسبق عزفه صوت المغني أو المنشد لا يرى العيدروس أن صوت الناي يسعف المستمع لمعرفة اللحن، فالمستمع لا يعرف اللحن ولا يتضح له تماماً إلا عندما يصل إلى أذنه صوت المغني حينها يميز المستمع اللحن. ومعنى ذلك أن دخول الآلات الموسيقية لم يغير من اللحن، وظل اللحن صامداً على مر الزمن.

بالنسبة للأغاني المنسوبة للبادية نجدها تعتمد على الصوت البشري المجرد، وفي بعض الحالات تجد أن صوت المؤدي يشع بالموسيقى إذ يتحول فمه إلى أداة موسيقية تشبه الناي إذا لم يتفوق عليها في بعض الأحيان كما هو الحال في (فن الكرّام). والآلات المستخدمة في هذه الأغاني أحياناً هي الناي، والمدروف المحلي ذو الخمس فتحات، وهذا النوع لم يعد متداولا في الوقت الحاضر. ويقلب العيدروس صفحات الأغنية الحضرمية، ويحاول أن يتحسس ويتلمس مزايا آلاتها وأنواعها، وطريقة العزف، ومدى التقارب والتباعد بين اللحن ومحاكاة الآلة له، فيرصد لنا صورة عن هذا المشهد على النحو الآتي:

الآلات المستخدمة محدودة وبدائية مثل القمبوس، ثم استبدل بالعود، والعود يختلف في مساحته التعبيرية ودقته في تجسيد الأنغام عن القمبوس.

طريقة العفق (وضع أصابع اليد في أماكن معينة، في عنق العود) تختلف عنه في القمبوس، وهذه الطريقة تؤثر على طبيعة اللحن.

نجد مواضع ثقوب في الناي المحلي توضع بطريقة غير مدروسة، ولا يراعي فيها الصانع قانون التناغم الموسيقي فهي ثقوب غير دقيقة لا في أماكنها ولافي المسافات التي بينها لكن الأذن الحضرمية تآلفت معها، وما يصدر من هذه الآلة من نغمات أعطى صبغة خاصة للمقامات. وقد ظلت المقامات على وفق صيغتها القديمة لم تتغير، حتى بعد دخول الآلات الحديثة، ولم يغير من مقاماتها دخول العود ذي الأوتار الستة المزدوجة. فالصوت البشري هو الأساس في الغناء، أما دور الآلة فثانوي ولا يراعى دقة محاكاة الآلة الموسيقية للصوت. 

حدثت قفزة في دخول الآلات الحديثة، إذ حاول محمد جمعه خان أن يدخل في فرقته آلة (الكلارنيت) ويعد ذلك خطوة جريئة ضد الحرس القديم في الطرب الذين يرون أن دخول مثل هذه الآلات يمثل تعدياً وتهديداً للهوية والأصالة الطربية المحلية

الآت غير مرحب بها

ظلت الآلات التقليدية هي المتسيدة في الغناء والطرب مثل الناي والقمبوس والإيقاعات بأنواعها، أما الآلات الحديثة لم يكن مرحباً بها على الدوام، فالحرس القديم رفض دخول الآلات الحديثة بحسب ما ذكر العيدروس، أما النأي بوصفه آلة قديمة ظل يحتفظ بمكانته في تشكيلة العزف إلى جانب القمبوس ذي السطح الجلدي بالإضافة إلى آلة الإيقاع بأنواعها فهي آلة محورية وتنوعها تمثّل في المراويس والدفوف و(المَتَن)، وحضرموت واليمن تحسب من الشعوب الإيقاعية، ويمثل الإيقاع الشكل الأولي الموسيقي الذي عرفته الشعوب ومعروف بتركيبه البسيط ( تك دم) لكن بساطته لا تلغي أهميته للغناء والطرب ففي حضرموت هناك من يزعم بأن الإيقاعات ثرية بتعدد أصواتها وبالتعبير الموسيقي (بوليفونية). والقمبوس مع مر الزمن تم استبداله بالعود في تخت العزف، ويقال إن مدينة شبام كانت مركزاً تجارياً على مر التاريخ، وعرفت صناعة القمبوس، ومن المعلومات التي ذكرها العيدروس أن المطرب (محمد جمعة خان) اشترى العود الذي عزف به من الفنان (علي التوي) الذي جلبه معه من عدن في 1946م، بعدها عرفت حضرموت العود المصري، وذكر هذا العود مع سيرة الفنان (جمال الليل) وآلة العود هذه ذات تجويف كبير، وعنق أسود ونقش عليه اسمه بالصدف. وبغض النظر عن هذه المعلومة المهمة إلا أن النقش عل سطح العود بالصدف أو بالحفر أو بغيره عادة سيئة جداً تضر بتقنية العود، وتضعف من رنينه ونغماته وتعبيره اللحني. وتكاثر إدخال آلة الكمنجة أو الكمان في السبعينات من القرن العشرين ثم حدثت قفزة في دخول الآلات الحديثة، إذ حاول محمد جمعه خان أن يدخل في فرقته آلة (الكلارنيت) وعازفه (عمر علي الصيعري) في أغنية يتيمة وهي (قال الشريف الهاشمي) ويعد ذلك خطوة جريئة ضد الحرس القديم في الطرب الذين يرون أن دخول مثل هذه الآلات يمثل تعدياً وتهديداً للهوية والأصالة الطربية المحلية. لكن هذه الخطوة لم تتوقف إذ استمر في هذه الخطوة الحرس الجديد من أمثال المؤلف نفسه عمر عبد الرحمن العيدروس، وأحمد محمد الحبشي، وأحمد مفتاح سعد الله، وفيصل سالم بن سعدون، وزين عبدن، وقائدهم الجميل غالب عوض اليزيدي، وهم جميعا ناصروا بحماس إدخال الآلات الحديثة مثل الأكورديون والقيثار ة والأورغ وهؤلاء أنفسهم هم من أسسوا فرقة بلقيس التي خرجت عن النمط الغنائي القديم في تشكيلتها الموسيقية الحديثة، ولم يتردد الفنان (كرامة مرسال) من إدخال آلة القانون في فرقته وكان عازفها (أحمد بن غودل) ثم تم الاستعاضة عنها بعد أن عطبت بآلة الأكورديون، وتشجعت فرقة الأنوار وأدخلت آلة القانون ، وكان عازفها (يسر بن سنكر) الذي يجيد العزف على الكمان.

يرى العيدروس أن المطرب والمغني القديم ظل متحيزاً لتقليديته في طريقة الأداء في أسلوب العزف، ومثّل المطرب المشهور (عاشور أمان) صورة جلية لهذا التحيز وكان يتضايق كثيراٍ من الأساليب الأكاديمية إلى درجة الحنق

تلحين بالفطرة والخبرة

 على الرغم أنها حبيسة الخط اللحني الواحد إلا إنها ظلت على ارتباط بالمقامات العربية مثل (مقام الراست) (البيات) (السيكا) (العجم) (والحجاز كار) لكن هذه المقامات في صورتها الأصلية لم تسلم من التكيفات المحلية المرتبطة بثقافة حضرموت ولهجتها وتراثها ونظامها الصوتي اللغوي، وهذه المقامات تستمد نظامها من السلم السباعي. فطن العيدروس إلى أن الاغنية تنحاز إلى اللحن بشدة أكثر من المقام، ويعد اللحن هو الأساس في تركيبها النغمي، والسبب أن الملحن في السابق كان لا يمتلك أي معرفة نظرية للمقامات، بل يلحن بالفطرة والخبرة، وحاول من امتلك معرفة نظرية بالمقامات أن يلحن، لكنه لم يشتهر مثلما اشتهر الملحن التقليدي، والعيدروس أرجع سبب شهرة الملحن التقليدي إلى قدرته على التعبير نغمياً وموسيقياً عن مضمون الشعر المغنى، وفوق هذا كله فإن ألحانه نابعة من أعماق وجدانه وصدق احساسه وإخلاصه لفنه. ورغم أن وجهة النظر هذه تحترم لكن المعرفة النظرية والأكاديمية للمقامات الموسيقية في غاية الأهمية، ولا يجوز التقليل منها والتخلي عنها فلا تطور لصالح الإبداع بدون هذه المعرفة، فهي حاجة فنية ضرورية وليست مسألة مزاجية تأتي وتذهب.

أدرك العيدروس أهمية اللزمات الموسيقية للأغنية فهي مظهر موسيقي جمالي تنظم بوساطتها طريقة أداء العزف وتبين مسار اللحن وضبطه من البداية إلى النهاية والإعلان عن نهايته بأداء نغمي معين.

يرى أن اللزمات غير واضحة في الأغنية الحضرمية لتداخلها مع اللحن إلى درجة الاندغام فيه وظلت هذه السمة مصاحبة لها، فالمستمع لا يستطيع أن يتوقع أماكنها، وهذا الشعور يتصاعد بداخله ولا يتوقف على مدار الأغنية إلى النهاية.

يرى العيدروس أن المطرب والمغني القديم ظل متحيزاً لتقليديته في طريقة الأداء في أسلوب العزف، ومثّل المطرب المشهور (عاشور أمان) صورة جلية لهذا التحيز وكان يتضايق كثيراٍ من الأساليب الأكاديمية إلى درجة الحنق. والمطرب شيخ البار في نظر العيدروس هو من أوائل من خرج عن هذا التحيز للتقليد في العزف وطريقة الأداء، وأتى بعده الفنان محمد جمعة خان فغادرت الأغنية الحضرمية بهما طريقة الاختتام القديمة في الأغنية، فصنع لها طريقة اختتام جديدة تختلف عن الطريقة التقليدية وأمكن تكثيفها على النحو الآتي:

تكرار البيت الأول 

لا تكون الخاتمة سريعة ولا ترتبط بإيقاع متصاعد شديد الصوت، بل تنتهي بصورة هادئة، ويتمثل الهدوء بمط الكلمة الأخيرة حتى تتلاشى صورتها الصوتية اللحنية.

يتم اللجوء احياناً إلى العود بإحداث ضربة قوية بالريشة على جميع أوتار العود للإعلان عن اختتام الأغنية وهذا الأسلوب مازال سائداً لليوم.

سمات الإيقاع الحضرمي

الحضارمة مثلهم مثل الشعب اليمني يطربون كثيرا للإيقاعات والعيدروس يرى أن أغلب الإيقاعات شرحية راقصة، ومن ضمن عناصر منظومتها الإيقاعية الإيقاع الشحري ويقال له عوادي ويزعم أهل الطرب أن هذا النوع معقد وصعب للغاية وكل من يتقنه تصفق له الأيادي ويدرج ضمن لوحة الشرف. والعيدروس من واقع تجربته الموسيقية يرى أن من يلحن الأغاني يكف عن مواصلة مهمته عندما يضع الإطار العام للحن ثم يترك الأمر بعد ذلك للمطرب والعازفين في الفرقة لتتولى بث الروح في هذا الإطار وتجتهد بقدر ما تستطيع بإضافة تفاصيل مبتكرة إلى اللحن، لان العزف لا يتم بطريقة نمطية بل بطريقة تفاعلية حية فكل من يعزف يرتجل ويمنح اللحن بعداً جمالياً من عنده ويتوقف ذلك على براعته وإحساسه الفائق باللحن، وفي كل مرة تعزف فيها الأغنية لا تتكر النسخة الأولى للحن بل تختلف، ولا يعني اختلافها تشويهها بل إضفاء جرعات جمالية إليها، ولعل هذا الاختلاف يُصعب على كل من تطلع إلى تدوين الأغنية بصورة دقيقة لأنه في كل مرة يسمع نسخة تختلف في الأداء عن النسخة السابقة، والعيدروس يتألم كثيراً عندما يرى أن نجاح الأغنية تنسب للمطرب وحده، وتتم التضحية بكل جهود العازفين معه ويتوارى كل إبداعهم إلى الظل.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English