الوعي بتاريخ الأغنية الحضرمية وخصائصها الفنية

ظاهرة ثقافية وإنسانية ولا يمكن تنسيبها إلى قوى ما فوق طبيعية
د. عبده بن بدر
March 20, 2025

الوعي بتاريخ الأغنية الحضرمية وخصائصها الفنية

ظاهرة ثقافية وإنسانية ولا يمكن تنسيبها إلى قوى ما فوق طبيعية
د. عبده بن بدر
March 20, 2025

(1-2)

 كتاب (عمر عبدالرحمن العيدروس) الذي وضع له عنوانا أصغر قيمة واستحقاقاً معرفياً مما احتواه في متنه، إذ ارتضى أن يسميه بـ (مقدمات في الأغنية الحضرمية) وهو بهذه التسمية أراد أن يتغيا  رسالة مهمة وهي أن كتابه لا يمثل القول الفصل، بل مجرد بدايات أولية لبحوث يمكن أن تذهب إلى التوسع والتعمق في تاريخ الأغنية الحضرمية. وكتابه تجاوز طريقة التسجيل والتدوين التي تشبه جرد المواد في المستودعات، ومال في بعض صفحاته إلى التحليل والتمحيص، واختلف مع حزمة من التصورات النمطية والانطباعية عن الأغنية ورموزها في حضرموت، التي لم تكن من منظوره سوى صيحات ترويجية صحفية، لا علاقة لها بالرؤى الفنية والمعرفية الدقيقة.  

الكتاب كشف عن حس فني ونقدي، بل عن ثقافة فنية وموسيقية من داخل عالم الموسيقى والفن وصلت إلى درجة الوعي بالتفريق بين الأغنية الشعبية والتقليدية، وأن لا مساواة بين الغناء المجاني الرخيص الذي يرمي إلى التسلية والطرب الذي يتسم بالطابع الجمالي، وهو يلح على مفهوم الطرب ولا يميل إلى مفهوم الغناء، وعلى وعي بالاختلاف بين المقام واللحن، وأدرك أهمية إدخال الآلات الحديثة في الطرب ودورها في تجويده وتوسيعه وتجديد نغماته وتكاملها الجمالي والخروج بها من المناطق النمطية، ويناصر دخول الآلات الجديدة في الطرب ولا يرى فيها تهديدا للهوية المحلية الفنية.

الأغنية دراما ذاتية مثقلة بالعذوبة والعذاب، يحياها الإنسان بكل عنفوانها وهدوئها وسحرها، لكنها في الأخير ظاهرة إنسانية نابعة من داخل الإنسان، ولا يمكن تنسيبها إلى قوى ما فوق طبيعية فمثل هذا التنسيب يخرجها عن حدودها الإنسانية

إن الأغنية في نظره ليست صيحات من النغمات تطلق في الفضاء، بل هي ظاهرة ثقافية وروحية تثري وجدان المتلقي وتؤثر فيه، وتوسع مداركه، وهي وسيلة جمالية لمقاومة القبح في حياتنا بطريقة ناعمة. ولعل القارئ الذي لا يعرف شيئا عن العيدروس، قد يثير تساؤلا عن مصدر هذه الثقافة الفنية والموسيقية التي امتلكها! لمثل هذا القارئ نقول إن عمر العيدروس وجد في أسرة لا تمقت الغناء والطرب قبل وبعد عودته من المهجر الإندونيسي، فوالده كان محبا للغناء والطرب، وهو لم يتحرج من أن يعتلي منصات المخادر عازفاً بـ (الكمان) مع أكثر من فنان في المكلا وخارجها مرات لا تعد ولا تحصى وكان بارعا في العزف عليه، وتنوعت خبرته بالآلات الموسيقية النحاسية، وسمحت له هذه الخبرة بأن يؤسس أول فرقة نحاسية مدرسية في ثانوية المكلا 1965 وأسهم في تـأسيس الفرقة التي أسمت نفسها (فرقة بلقيس) مثلما أسهم في تأسيس (فرقة أروى) الموسيقية. وتراكمت تجربته الموسيقية وأفضت به إلى أن يلج منطقة التلحين والإبداع الموسيقي، وقال الشعر الغنائي، ومن الأغاني التي كتب كلماتها ولحنها بنفسه أغنية (ابتدينا خطأ) (بلينا بك) وغيرها...

إن العيدروس يقر بأن الأغنية دراما ذاتية مثقلة بالعذوبة والعذاب، يحياها الإنسان بكل عنفوانها وهدوئها وسحرها، لكنها في الأخير ظاهرة إنسانية نابعة من داخل الإنسان، ولا يمكن تنسيبها إلى قوى ما فوق طبيعية فمثل هذا التنسيب يخرجها عن حدودها الإنسانية.

شحة المصادر والمراجع الكتابية

من الصعب تتبع تاريخ الأغنية بدقة بحضرموت، فالباحث يضطر أن يسقط مراحل تاريخية من عمر هذه الأغنية، بسبب شحة المصادر والمراجع الكتابية، فضلاً عن غياب المرجعيات التسجيلية في صورتها السمعية (الجرامفون) وغيره من آلات التسجيل التي لم تدخل إلى عالم الغنا والطرب في حضرموت إلا في زمن متأخر جداً، فضلاً عن غياب التدوين الموسيقي للأغاني، وهذه المسألة مازالت حاضرة بقوة إلى اليوم. والعيدروس تحسس حجم المشكلة تماماً بشأن العثور على معلومات عن تاريخ الأغنية في حضرموت، وعبّر عن شحة المصادر بقوله " وهي نادرة وقلّ أن يجد فيها الباحث ما يبل ظمأه ... وهي عبارة عن تسجيلات وانطباعات وعموميات... رغم أهميتها إلا أنها تهتم بالجانب الوصفي والأدبي... ولا تلتفت في الغالب إلى الجوانب الأكاديمية في الغناء الحضرمي لا في درجة أنغامه، ولا في دراسة مقاماته، ولا تحليل ألحانه وإيقاعاته، ولا في التعرف على مدارسه وأساليبها في الأداء وغيرها من عناصر الأغنية الحضرمية ومميزاتها، ولا في التعرف على مراحل تطورها وازدهارها وركودها".

إن الثقافة في حضرموت غلبت عليها الشفاهية وبالتحديد في الشعر الشعبي والغناء مثل الدان وغيره، وقد ظل هذان المجالان رهيني الشفاهية إلى وقت قريب، وعمقت النظرة الاجتماعية الدونية للغناء والموسيقى من غياب الكتابات في هذا الميدان الجمالي الضروري للحياة الروحية، وضاعف من عمق غيابها نبرة التحريم الصادرة من بعض الفقهاء في حضرموت. ولهذه الأسباب يقر العيدروس بأن تاريخ الأغنية الحضرمية يلفه الغموض في بداياته، إذ لا توجد مصادر ولا مراجع ولا معلومات عن نشأته. وتحت ضغط غياب المصادر اضطر العيدروس أن يسقط مراحل زمنية طويلة من تاريخ الأغنية في حضرموت، وبدأ من ذلك الشكل الغنائي الجاهز المنسوب الى(زين العابدين بن عبدالله العلوي الحداد) ويلقب بـ (خو علوي) و(علي بن زامل باجري الكثيري) وغيرهم من المحسوبين على أواخر القرن الثامن عشر، وعرف هذا الغناء في صورته الشفاهية بوساطة نسخ منقولة بأصوات الفنانات الشعبيات اللاتي يرددن هذه الأغاني في الأعراس والمناسبات على إيقاعات الحفة والراضة، وتسمع عبر الأصوات الرجالية، فضلاً عن ما جادت به قريحة (علي بن محمد الحبشي) المتمثل في السماع الصوفي، وفي رقصات الموزعي والزربادي في القرن العاشر الميلادي. وحينما دخلت هذه المادة التراثية الغنائية إلى عالم الطرب، لم تنتقل مثلما هي عليه في صورتها الأولى التي ارتضت بها... بل تحررت من صورتها الغنائية الخاصة، وأدخلت عليها الآلات مثل آلة القمبوس وغيرها فتحولت من مادة تراثية إلى مادة طربية، بعد أن تلقفها الفنان والشاعر الغنائي (محمد باحسن) الذي حافظ في أغانيه على استمرار دقات النبض الصوفي في اللحن والأداء، ومثل حلقة ارتباط بـ (شيخ البار) الذي دار مع هذه الحلقة وأفتتن بنغماتها وجدد فيها، ولم تكف هذه الحلقة عن الدوران بالغناء والطرب بمجيئ (محمد جمعة خان) الذي أعطاها الكثير من طاقات إبداع وحسه الطربي الرفيع، وكان أول تسجيل له في منتصف لقرن العشرين، وانبثق من كل هذه المادة الغناسيقية الثرية مدرسة (حسين أبو بكر المحضار) في النصف الثاني من القرن نفسه بعدها زهت الأغنية في حضرموت في الستينيات فاشتد عودها وكبرت، وتدلت ثمارها الزاهية في الثمانينيات، وتفتحت وانفتحت على مدارات إبداعية وتوافرت لها شروط التأليف المعبر، والتلحين المتجذر في الإبداع والأداء الحديث المتناغم مع روح العصر. لكن عصريته لم تنفك عن الموروث الغنائي ولا عن منظومة المقامات العربية.

 خصائص الأغنية الحضرمية

من الصعب فصل الموسيقى عن الشعر الغنائي، فالموسيقى كانت وما زالت تابعة للشعر إلى هذا اليوم ولم تستطع أن تستقل بنفسها عنه في الوطن العربي ونحن جزء منه، وبغض النظر عن تبعية الموسيقى للشعر الغنائي فإن تاريخ الأغنية في حضرموت رسخ هذا التقليد إذ ارتبطت عناقيد الشعر بالموسيقى، وما كان لشجرة الغناء أن تنمو دون أن ترتبط بالشعر في صورته العامية، وهي الغالبة وصورته الفصحى وهي الأقل. وتلحين الشعر الفصيح أصعب وأعقد من تلحين الشعر الغنائي المكتوب بالعامية. وعرفت حضرموت شعراء لامعين زينوا سماء الغناء بلمعان نجومهم من أمثال المعلم عبد الحق، وعبد الصمد باكثير، وحداد بن حسن الكاف، ومستور حمادي، وسالم بن عبدالقادر العيدروس، ومن بعدهم حسين أبوبكر المحضار، وعبدالرحمن المفلحي، وسالم بامطرف، محفوظ باحشوان ، وجيلاني عبدالقادر الكاف، والكالف، وغردت بلابل الغناء الحضرمي بشعر هؤلاء.

وحاول العيدروس أن يضع يده على بعض سمات هذا الطرب وليس بالضرورة أن تكون هذه السمات هي كل ما تميزت به فلربما يأتي من يضيف أو يعدل في هذه السمات فهي لا يمكن أن تسري جميعها بلا استثناء على مشهد الطرب في حضرموت إلى يوم الناس هذا، فبعضها ارتهن بكيفية طريقة الأداء والغناء وبعضها الآخر بدخول الآلات الحديثة، وغيرها من العوامل المؤثرة في الطرب بحسب اللحظة التاريخية. وربما يحتاج المشهد الطربي إلى اختصاصي أكاديمي يقول كلمته في هذا المشهد حتى يؤكد ما بقي منها وما استحدث موسيقيا بسبب دخول الآلات الحديثة ودخول قوالب موسيقية جديدة على الأغنية الحضرمية.

بساطة ألحانها لم يمح غرابتها في نظر من يستمع إليها من موقع الاختصاص الأكاديمي في الموسيقى، فهي تتضمن نغمات غير معروفة في السلالم الموسيقية الأخرى، ثم إنها تحتوي على نغمات تحسب على أرباع التون، وهي خصوصية لا تتوافق مع تصميم الآلات الموسيقية الغربية.

ويحسب للعيدروس أنه اجتهد وقال كلمته في الغناء والطرب، وهي قابلة للنقاش والأخذ والرد.

إن السمة الغالبة على الأغنية التقليدية في نظر العيدروس أنها بسيطة في تركيبها اللحني، ومن السهل أن يتفاعل معها المتلقي، فهي لا تحتاج إلى مجهود أو خلفية موسيقية لفهمها مثلما هو الحال مع السمفونية، وهذه الأغنية لم تحرم نفسها من إدخال الآلات الموسيقية ضمن طاقمها الموسيقي مثل آلة القمبوس والعود، ومع مرور الزمن تمكنت من أن تحرر نفسها من الشعبوية الغالبة عليها التي تحصر الغناء داخل الغرف المغلقة، وتخرج إلى فضاء الطرب الذي يلتزم بقوانين التناغم والتناسق الموسيقي وقوالبه ومقاماته القابلة للانفتاح على مدارات إبداعية جديدة.

إن بساطة ألحانها لم يمح غرابتها في نظر من يستمع إليها من موقع الاختصاص الأكاديمي في الموسيقى، فهي تتضمن نغمات غير معروفة في السلالم الموسيقية الأخرى، ثم إنها تحتوي على نغمات تحسب على أرباع التون، وهي خصوصية لا تتوافق مع تصميم الآلات الموسيقية الغربية، لأن هذه الآلات تعمل على وفق نظام الموسيقى الغربية الذي حصر نفسه في سلمين موسيقيين هما السلم الصغير والسلم الكبير، بينما الأغنية في حضرموت بسيطة في ألحانها لا تتجاوز (أوكتافاً واحداً) أي سبع نغمات من دو إلى سي، ورغم ذلك ظلت الخصائص اللحنية حاضرة فيه، وتمثل ذلك في فروقات ألحانها عن المقامات الشرقية والغربية.

وألحان هذه الأغاني فيها نكهة خاصة وبالتعبير الموسيقي (هنك مميز من مقام حجاز اليمن) ودرجته الثالثة الواقعة بين (كارل بيمول) و (بيمول) وبين (كارل ديز) و (ديز) وبمعنى آخر يكون (الكارل بيمول ناقصاً) و (البيمول زائد) و (الديز ناقصاً). 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English