الكتابة عند مها صلاح

تهشيم الصورة النمطية للأدب
صلاح الأصبحي
March 22, 2025

الكتابة عند مها صلاح

تهشيم الصورة النمطية للأدب
صلاح الأصبحي
March 22, 2025

كثيراً ما نمعن النظر في الأعمال الإبداعية  قراءة ونقداً، ونتحذلق في البحث عن بعض القضايا النقدية والظواهر الإبداعية لكننا في الغالب نغفل في الاهتمام بجدوى هذا المكتوب، وهواجس من يكتب وفيما كتب، ورسائله المضمرة المرسومة عنه في كيانه ككاتب، وملامح وعيه الإبداعي الذي أنتج لنا مجموعة من الإصدارات تصب في غاية واحدة .

الكاتبة الراحلة مها صلاح واحدة من الأقلام الإبداعية التي تجد عندها ثيمة بارزة في نتاجها الأدبي، بمختلف إصدارتها القصصية والمسرحية والحكائية ، هذه الثيمة توصم  كتابتها بأنها أدب هادف يبحث عن ترك أثر في القارئ ولفت انتباهه إلى كتابة مختلفة تمس وعيه وتلامس واقعه، أكثر من كونها ترفيه أو عبث أو نتاج خيال غير متصل باللحظة الوجودية ولا بالمعضلات الشاخصة، وإنما تحفر في التفاصيل الدقيقة واللامرئيات الإنسانية والمغيبات الذهنية الهامشية التي تهم الذات وتصنع وجودها الفطري وهويتها الحقيقية وكيانها الفعلي، بعيداً عن الصورة المرسومة عنها من قبل ثقافة أو أيديولوجيا أو عُرف عام.

فبنية الوعي الإبداعي عند مها صلاح تبدو خاصة جداً بها، وصورتها عن هذا الوعي جعلتها تتفرد بصياغة أدبها بشكل مختلف من حيث التشكيل ومن حيث الاهتمام، فرؤيتها قائمة على أن تخلق كتابتها أثراً ايجابياً في وعي متلقيه، أثر ينبثق من  تصويرها الخاص لرؤى خاصة للأشياء والأفكار والمشاعر والأحاسيس، وكأنها تقدم نموذجاً لما يجب أن تكون عليه تلك الالتقاطات التي عنيت بها في كتاباتها، قد يبدو رسمها لتلك العوالم عادياً لكن يحمل في طياته حفراً عميقاً في اختلاف دلالاته وكثافة معانيه وانعكاساته على الوعي والذات والهوية والمنظور.

كتابة تكشف خبايا الذات وخفايا الأحاسيس الصامتة وتجاوز إهمال المسكوت عنه والبوح به بدهشة تفصيلية تجعل اللامرئي مرئياً وتستنطق المتواري خلف صمت العجز

تهشيم الصورة النمطية

إن تركيز الكاتبة على نمطين من الكتابة كمجموعات قصصية وكتابة حكائية للأطفال يحدد سمات الإبداع ومفهومه عندها، فنمطها الأول في طياته لمسات وعي فنية وأبعاد أخرى تعيد صياغة الأشياء وتقديمها برؤية حقيقية تخالف ما ألفنا أن نقرأه سرداً أو نعايشه واقعاً، لأن روح الكاتبة تركت بصمة في أدبها تعكس إحساسها بالعالم، وتقييم رتابة القائم وإعادة تموضعه بعيداً عن تأثيرات الثقافة والسلوك والواقع، ولذا حتى في اعتمادها في السرد على مرجعيات تاريخية وتأصيلات سردية فإنها عملت على توظيفها بما يخدم رؤيتها فبدا ذلك التوظيف جديداً صادراً عن وعي إبداعي هادف وخلاق كأفق مستحوذ على تجربتها الإبداعية ككل.

ففي مجموعتها الأولى" كانت تأخذني التفاصيل" والتي يشيء عنوانها فعلاً بالأسلوب المتبع في سردها، حيث الارتكاز على التفاصيل والالتقاطات الصغيرة التي تحولت إلى نقاط محورية تستقيم عليها القصص وتكشف خباياها، خبايا الذات وخفايا الأحاسيس الصامتة وتجاوز إهمال المسكوت عنه والبوح به بدهشة تفصيلية تجعل اللامرئي مرئياً وتستنطق المتواري خلف صمت العجز، ففي قصتها" شوعي على الانترنت" تحشد الساردة جملة من الانتفاضات لتغيير ملامح بطلها، رابطة في ثنايا ذلك بين تفكيك أصوله الثابتة في المرويات التاريخية والأسطورية وبين حالته الراهنة الرامزة إلى مهمش مضطهد سأم رؤية العالم له بتلك الهيئة الثابتة التي تسلبه حيويته وتغير وجوده كأنه جدار ثابت عابر للزمان والمكان، ولذا فقد أمعنت الساردة في تهشيم هذه الصورة النمطية من خلال إغراق شوعي بسرده لحكايات طويلة تتعلق بأصوله وتاريخ أجداده وكيف بدا سرده ذاك مثيراً لدهشة السائحة اليزابيث ودهشة الجمهور المرصوص لرؤية عوالمه أمام داره، وجملة من الأحداث التي بدت لشوعي كحلم وللساردة بينما توظيفها السردي من اللاوعي منح القصة بعداً آخراً، بعداً يخلخل قصور الرؤية لدى مجتمع متأزم ويصقل وعيه ويعالج الإشكاليات المترسخة في ذاته ويمارسها كأنها مبادئ وقيم ثابتة، يستعصي عليه التخلي عنها.

ما أحوجنا في اليمن إلى سرد حيوي ينبثق من أعماقنا ويلامس هواجسنا ويشعل فتيل التأثير فينا، فالأدب رسالة عظيمة وفلسفة وجود ووحي ينبئنا بمواطن عجزنا وبنقاط ضعفنا

إعادة الثقة بالسرد

ليست هذه القصة من تلفت النظر في هذه المجموعة لكنها نموذج لطبيعة الاشتغال السردي المختلف عند مها صلاح، نموذج لكيفية خلخلة الجمود المغلف لذهنية القارئ اليمني المنتمي لبيئة قبلية متخلفة وأمية اجتماعية وجهل ثقافي متفش يعيق أي تغيير أو تطور نمطية السلوك والتفكير، لأن المجتمع يفتقد المعنى الحقيقي للسرد وينظر له ككلمات مرصوصة وجمل تائهة وخيال باذخ كأنه عبث وفراغ، لا حاجة له به، لكن الكاتبة عملت من خلال قصصها على إعادة الثقة بالسرد، وجعلت القارئ يستعيد الثقة بهذا الجنس الإبداعي، وتختلف نظرة القارئ قبل القراءة وما بعدها، وهذا بالمجمل يبدو الهدف الذي رسمته المبدعة في ثنايا إبداعها، فالأدب لازم أن يسهم في استقامة ذهنية القارئ واكتشاف ذاته من خلال ما يقرأ بطريقة لا مباشرة، فطريقة صياغة القصة خاضعة لذات المخاطب وقائمة على إدراك زاوية الولوج إليه منها، وخلق تأثير فعال فيه وتماه مع قضاياه وإخفاقاته في الحياة .

كثيرة هي السمات التي يمكن اعتبارها منافذ لاستنطاق الوعي السردي عند مها صلاح، السمات التي تجعل أدبها هادفاً متقداً متيقظاً ذا فاعلية، وليس من السهولة أن يمتلك الكاتب هذه الحساسية الفنية الخاصة بقلم إبداعي محترف صاحب رؤيا وغاية، ينسج حكاياته من أعماق زوايا الظل وتخوم الذهن، يقدم مروياته كأنها اكتشاف لخبايا متوارية خلف الصمت والتجاهل والإهمال، ويصيغها بلغة أدبية حية، تمتص الركود وتقضم الجمود، وما أحوجنا في اليمن إلى سرد حيوي ينبثق من أعماقنا ويلامس هواجسنا ويشعل فتيل التأثير فينا، فالأدب رسالة عظيمة وفلسفة وجود ووحي ينبئنا بمواطن عجزنا وبنقاط ضعفنا.

وقد يفسر اكتفاء الكاتبة بثلاث مجموعات قصصية رغم الإفصاح عن ملكتها السردية مبكراً تشخصيها للقطيعة بين القارئ اليمني وبين السرد، قطيعة لا تشجع على الإسهاب في الكتابة أو تدفع إلى القفز إلى جنس الرواية كما هو معتاد في المشهد اليمني عموماً، لكن نضج الكاتبة دفعها لتغيير مسار الكتابة لديها، وعمق تجربتها قادتها إلى بلوغ جذر الإشكالية، فنحن كمجتمع قارئ ولد اهتمامنا بالأدب متأخراً، لم تتأسس ذائقتنا منذ نعومة أظفارنا وإنما نتاج تصنعنا الثقافي ولوازم اعتبارنا من النخب، ولذا تجد تصحراً فنياً في وعينا وتبلداً  في قراءتنا للإبداع حتى أنه يعبرنا كجثث ويفلت منا كقوالب جاهزة في الحكم والتقييم والتأثير .

من هذه الزاوية بالذات اتجهت مها للانكباب على عتبة تأسيس ذائقة فنية وخيال مرهف وحساسية حقيقية تحس باكتمالها ونموها وهي تقرأ أو تكتب، ولذا فإخلاصها واهتمامها بأدب الطفل يعد مسلكاً فنياً في غاية الخطورة وفي غاية الأهمية، خطورة امتلاك موهبة متمكنة من كتابة سردية حكائية تناسب النشء وتنمي ملكتهم وخيالهم، وأهمية  هذا الفعل في خلق جيل مغاير في صلته بالإبداع وصاحب حس مرهف ومتفلت من تبعات التصحر المترسخ عند الكبار.

ما كتبته مها للطفل أعاد الاعتبار للطفولة المنتهكة وبعث الثقة في الوعي المستلب وهذا يثبت أن أدبها هادف ويحمل على عاتقه الكثير من الدلالات البارزة والمعاني المضمرة التي تعمى بصيرتنا عن الامساك بتلابيبها وتتبع مآثرها

إعادة الاعتبار للطفولة

ورغم شحة الكتابة للطفل في اليمن إلا  أن مها عملت على ملء هذا الفراغ بكتابة بعض القصص لصقل التفكير وتنمية التخييل وتفعيل التسريد حتى لا تترك خيال الطفل جافاً بالأمية ومتخماً بالعنف ومثقوباً بثقافة الانحراف وسلوك التبلد، وهذا ينم عن إحساسها بضرورة التنشئة السردية وأثرها في تخلق هوية سليمة للطفل وذات  فنية قادرة على تفهم الواقع ومعالجة إخفاقاته على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، فمناهج المدرسة لا تعير اهتماماً بهذا الشأن وتصب مجملها في تكوين عقلية تلقينية تفتقر للتفكير والتأويل وحرية التعبير ومثقلة بالتطرف وثقافة الموت .

ما كتبته مها للطفل أعاد الاعتبار للطفولة المنتهكة وبعث الثقة في الوعي المستلب وهذا يثبت كما ذكرنا سلفاً أن أدبها هادفاً ويحمل على عاتقه الكثير من الدلالات البارزة والمعاني المضمرة التي تعمى بصيرتنا عن الامساك بتلابيبها وتتبع مآثرها .

ما أردت تأكيده في ثنايا هذه السطور القول بأن أدب مها نابع من معطيات واقعنا ومنبثق من وجدان لحظتنا، ويهدف إلى إعادة صياغة رؤانا الغارقة في التيه والتشتت، وتثبيت تركيزنا على واقع مظلم وثقافة معتمة وسلوك متخلف، وأسلوبها في التعبير عن مثل هذه الهموم والشواغل الإبداعية يمنحها وسام تقدير وإجلال كونها سعت إلى إحداث فعل تنويري عن طريق الكلمة، والارتقاء بالذائقة إلى مستوى طموحها في زحزحة التعاطي مع التموضع القائم للمجتمع أو لنظرته للأدب .

ولذا فمن حقي كقارئ أن أبدي رأيي في الإبداع من الزاوية التي وجدتني أتماهى معها وتعبر عني وعن هواجسي، دون الانجرار إلى الصورة النمطية التي دأب عليها النقاد في قتل الإبداع وإماتة أغصانه بقوالبهم الجامدة وأدواتهم التشليحية، فما قلته عنها هنا خلاصة تفاعل وانسجام وتأثير وتأثر وتداخل وتناغم وتأكيد وتيقن بمفهومي العام للكتابة ومدى إحساسي بأهميته .

لقد خسرنا قلماً حقيقياً وتجربة أدبية ناضجة مغايرة في المشهد الأدبي لكن تأثيرها سيظل متقداً.

•••
صلاح الأصبحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English