لا يمكن الحديث عن الصريمي الشاعر بمعزل عن شخصيته، فالحديث عن شاعريته المختلفة يأخذ اتجاها إجباريا للحديث عن أسباب ذلك الاختلاف ليصبح بعدها حديثا عن القصيدة الشعبية ومكوناتها، أنماطها وقوالبها، أغراضها واستخداماتها وتأثيرها على الحياة العامة؛ وهنا يتشعب الحديث ويطول، ويخوض في الفكر والفلسفة، الرؤى والأفكار، القرائات والتجارب، الطرح والتطبيق، والتي بدورها تستدعي محاورة الشخصية الصريمية ذاتها، والخوض في التفاصيل التي شكلتها، بأبعادها السياسية والاجتماعية، رؤاها الثورية والفكرية والشعرية، حياته وتحولاتها، طفولته وشبابه. فيتحول الحديث من الشعر إلى الشاعر، ومن العام إلى الخاص، وهو حديث يحتاج إلى الكثير من الدراسة وتتبع تحولاته في جميع مراحل حياته للوصول إلى جوهر الشخصية الصريمية وتكوينها وانعكاس تلك التأثيرات على قصيدته. ما يعني وضع التجربة الصريمية على طاولة الدراسة وتحليلها، وهو حوار متأخر ولكنه ممكن، فالمواد متوفرة ويمكن إعادة قراءتها بطريقة تجيب عن كل هذه التساؤلات، والأمر يستحق هذا العناء لشاعر كان له دورا كبيرا في النهوض بالقصيدة الشعبية، وإخراجها من حالة الجمود الذي حصرها في قالب محدد لا يتسع لسوى الأغراض التي تتناسب مع تلك القوالب والأنماط المعروفة.
من هو الصريمي؟
سلطان سعيد حيدر شَمْسان الصُّرَيْمي (1948 - 30 ديسمبر 2024)، هو شاعر يمني. ولد عام 1948 في منطقة الحجرية في محافظة تعز. بدأ دراسته في كتاتيب قريته، ثم انتقل مع أبيه إلى جيبوتي وأكمل دراسته هناك. ثم عاد إلى الوطن وعمل في البناء في عدن. وفي عام 1980 سافر إلى روسيا للدراسة، فحصل على الماجستير في الأدب الشعبي عام 1985، وفي 1990 حصل على الدكتوراه في فلسفة العلوم الاجتماعية في موسكو. وهو عضو في الاتحاد العام للكتاب العرب وفي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. ترأس تحرير بعض الصحف والمجلات. صدرت له سبع دواوين
أبجدية البحر والثورة.
هموم إيقاعية.
نشوان وأحزان الشمس.
قال الصريمي.
أربع وردات وقصيدة.
زهرة المرجان.
الهواجس.
وهي سيرة ذاتية عادية - مأخذوة من ويكبيديا - ولا يمكن النفاذ منها إلى شيء، أو اعتمادها كمصدر لتحليل الشخصية الصريمية، فهي مقتضبة ولا ترسم صورة سيميائية لشخصية الشاعر، فما نريده لا يمكن الوصول إليه عبرها وإنما عبر تلك المواقف التي ذكرها هو في حواراته الصحفية والتلفزيونية، أو رواها عنه أصدقاؤه أو من لازمه وكان قريبا منه.
لكن ما تم نشره على موقع خيوط في ديسمبر 2021م من سيرة ذاتية كانت أعمق قليلا تقدم بعض الإجابات عن الصريمي الطفل ذي الأعوام السبعة، الذي وجد نفسه مضطرا للهجرة بفعل الظروف السياسية والاجتماعية- وهو في السابعة من عمره إلى بلد رأسمالي - الصومال الفرنسي - جيوبتي لاحقا - ليجد نفسه وجها لوجه في مواجهة الرأسمالية في أوج قوتها وهو في سن مبكرة. ثم عمله في أعمال بسيطة في عدن، والتحاقه بكتائب الحرس الوطني بعد قيام ثورة سبتمبر،
ثم تنظمه سياسيا في حزب البعث، وعمله في شركة التجارة الخارجية وشركة التبغ، وتعرضه للاعتقال أواخر السبعينات وهروبه إلى عدن مطلع الثمانينات، وسفره لاستكمال دراساته العليا في الاتحاد السوفيتي
وهذا مدخل يمكن النفاذ منه إلى الشخصية الصريمية، فمن هذه المداخل الضيقة يمكن مناقشة قضايا كبرى، يقول مريد البرغوثي "يكفي أن يواجه المرء تجربة الاقتلاع الأولى حتى يصبح مقتلعا من هنا إلى الأبدية" وهذا ما حصل لشاعرنا الذي اقتلعته أيادي الفقر والجوع، ولم يرجع بعدها حتى وفاته ودفنه في صنعاء. لقد ظل الشاعر مقتلعا من جذوره في قرية الركز، وهذا ما جعله متشبثا بقرويته مدافعا عنها، وهذا ما يفسر اختياره للقصيدة الشعبية دون سواها فهي تمثل هويته ذاكرته وأسلوب حياته الذي وجد نفسه مضطرا للدفاع عنه في الذروة التأثير الغربي على المنطقة، لذا ظل مخلصا لقصيدته وعمل على تطويرها وتحديثها، كما ظل ناقما على الظروف التي ٱجبرته على الهجرة، لذا نذر حياته لمحاربتها، فكسر القيود واجتاز الحواجز التي كانت سمة من سمات تلك الفترة الظلامية، فشارك في الدفاع عن الثورة وعن قصيدته جنبا إلى جنب، وعمل على بنائها بطريقة تتناسب مع تطلعاته لتصبح أكثر حرية واتساعا.
قضى عمره كله يحارب المصالح، لكنه لم يهرب ولم يكن يمازح فقد كان جادا في كل خطواته، لقد حاول التغيير بكل الطرق، حارب في سنوات الحرب، واقترب من مركز التأثير والقرار في سنوات السلم وخاض تجاربا ديمقراطية ممثلا لمنطقته في البرلمان، وكل هذا لزحزحة الواقع الثقيل والقاسي.
تحرير القصيدة الشعبية
ظلت القصيدة الشعبية محاصرة في قالب الشعر البيتي المقفى وأغراضه التي تتناسب معه كالمدح والهجاء والغزل فقط. لكن المتأمل لشعر الصريمي سيجد أنه حرر القصيدة من ذلك الإرث الثقيل والضيق، فحطم قيود العمود الشعري ليحملها أبعاد فلسفية واجتماعية كثيرة، وهو الشيء الذي يصبح واضحا وجليا في ديوانه "أبجدية البحر والثورة" والتي جاءت كقصيدة واحدة طويلة وحديثة، متخففة من قيود الشكل العمودي للقصيدة، ومن النسق الثقافي الذي درج عليه الشعراء الشعبيون في كتابة قصائدهم حيث تبدأ عادة بالبسملة وتنتهي بالصلاة على النبي، وهذا ما لا تجده عند الصريمي في قصائده، فالبدايات عند الصريمي ليست ثابتة، يمكنه أن يبدأ من عدوه قائلا:
أنيت من باطلك يا قاتلي
وقلت للناس قاتلنا حريف
وينهيها بالوصال على شواطئ المكلا:
والمكلا تخضّب يديها بمائك فرحْ
ترتعش للوصال العظيم..
أو يمكنه البدء من شخصية اليمني الذي خاطبها في قصيدته الشهيرة نشوان والتي يبدأها بنصيحة وتحفيز:
نشوان لا تفجعك خساسة الحنشان
وينهيها مع انتهاء الإرهاب
وينتهي الإرهاب والمذابح
وكذلك بقية القصائد.
كما كان لتجربته نقطة بداية لم يعد بعدها الصريمي ذلك الولد القروي، كان لها منعطفات أيضا وتركت بصمات واضحة فيه، الثورة وسنوات الدفاع عنها، الفكر الشيوعي ودراسته في موسكو، علم الاجتماع والفلسفة وتأثيرها عليه، الحزب الاشتراكي، تجربة اليمن الديمقراطي، حروب الجبهات، صراع الشطرين، المصالح الشخصية والولاء القبلي وفكرة الدولة، العمل السياسي والصراعات الطبقية، السلطة والسجن، كل هذه كانت تصقل السيف الصريمي ليصبح أكثر حدة ورهافة، كل هذه كانت تدفعه إلى تكسير كل القيود، ولأن القصيدة هي واقع موازي، مسرح لمعالجة الواقع المريض، كان على الصريمي أن يحقق فيها ما تعذر تحقيقه في الواقع، فهو كما يقول في قصيدة نشوان " نشوان أنا فريسة المصالح
ضحية الطبال والقوارح
إلى أن يقول
وكم ورم قلبي من الفضائح
فقد قضى عمره كله يحارب المصالح، لكنه لم يهرب ولم يكن يمازح فقد كان جادا في كل خطواته، لقد حاول التغيير بكل الطرق، حارب في سنوات الحرب، واقترب من مركز التأثير والقرار في سنوات السلم وخاض تجاربا ديمقراطية ممثلا لمنطقته في البرلمان، وكل هذا لزحزحة الواقع الثقيل والقاسي.