الخط الهابط عربيًّا بدأ بهزيمة 1967. هزيمة الجيوش العربية الثلاثة لدول المواجهة: مصر، سوريا، والأردن، بمقدار ما كانت هزيمة للأمة العربية كانت انتصارًا للصهيونية، وللإمبرياليّة، والرجعيّات العربية.
للحوادث التاريخية الكبرى جانبان: جانب إيجابي، وآخر سلبي أو العكس. فالهزيمة -على كارثيتها- خلقت نهوضًا فلسطينيًّا وعربيًّا وتعاطُفًا دوليًّا. سَلْبُ الهزيمة ظل قويًّا ومؤثرًا، ولكن الإيجابيّ بقي حاضرًا؛ فقد رفع الزعيم جمال عبدالناصر "اللاءات الثلاث"، وبدأ في إعادة بناء الجيش، وبرز دور منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرّر وطني، واستقل جنوب اليمن، وتمكّنت صنعاء من كسر حصار السبعين يومًا.
حقّق الجيش المصري والسوري انتصارًا عسكريًّا في حرب 6 أكتوبر 1973، واشتد ساعد المقاومة الفلسطينية، ولم تهنأ إسرائيل وحلفاؤها بالانتصار، لكن الهزيمة كانت حاضرة وتشتد؛ فقد رفع الرئيس السادات شعار "سلام الشجعان"، وداهم الإسرائيليين بالزيارة في عقر دارهم، كما كان يحلو لإعلامه أن يردد.
بدأ التفكك في الجبهة العربية المقاومة، وجدل السلبي والإيجابي في الصراع ظل محتدمًا. رهان "السادات" على أمريكا، وأوهام السلام الواصلة حدّ السذاجة، كانت بداية الانعطافة الممتدة حتى اليوم نحو التطبيع. اتفاقية "كامب ديفيد" وما تناسل منها، كانت هي الأخطر؛ لأن أصحاب القضية الحقيقية (القادة الفلسطينيين) انجروا إليها، وهنا مصدر الخلل الحقيقي.
هزيمتا 48 و67، على خطورتهما على القضية الفلسطينية، لم تقضيا عليها، وظلت جذوتها مشتعلة، بل ازداد اشتعالها بعد هزيمة 5 يونيو/ حزيران 67.
انجرار الزعيم الفلسطيني "أبو عمار" إلى اتفاقية مدريد واتفاقية أوسلو، فتَحَ ثغرة في الجبهة الفلسطينية الداخلية، وهي حجر الزاوية، وقضية القضايا كلها.
في العام 1982، اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان، ووصل إلى قلب بيروت. خرجت المنظمة من لبنان، وتراجع دور المقاومة الفلسطينية، وكان تخلي قيادة منظمة التحرير عن حق الكفاح المسلح في الجزائر عام 1988، خطوةٌ في غاية الخطورة كحقٍّ تكفله كل الديانات، وتقرره مواثيق الأمم المتحدة وإعلاناتها، وهي الأساس في كفاح الأمم والشعوب، والحق الأصيل للتحرر والحصول على السيادة والاستقلال وتقرير المصير. ورغم التنازلات التي قدمتها المنظمة منذ مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، وما خلّفته من انقسامات في الصفّ الفلسطيني إلا أن التصلب الإسرائيلي كان سيّد الموقف.
في ليل اليأس والقنوط، انبجست انتفاضة أطفال الحجارة، وخلال الأعوام، من 1987، وحتى العام 1993، أنجز الطفل الفلسطيني ما عجزت عنه جيوش ثلاث دول في 1948 و1967؛ فقد أرغمت الانتفاضة المتصاعدة -التي عجز الجيش الذي لا يقهر في الأسطورة الصهيونية عن قهرها- على الانصياع للتفاوض تحت نير الحجارة والضغط الدولي. لم تكن إسرائيل قابلة بالتفاوض المباشر مع قيادة المنظمة، وجرى تداول اسمي الملياردير الأمريكي من أصل فلسطيني إبراهيم أبو اللغُد، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني إدوارد سعيد، إلا أن الأخير رفض المشاركة أو حتى مجرد الحضور إلى تونس.
وقع الاختيار على الأكاديمي حيدر عبدالشافي، والمناضلة حنان عشراوي، وبدأت المفاوضات في أمريكا، وقطعت شوطًا، لكن "أبو عمار"، وبالتنسيق مع "إسحاق رابين"، عمل على استبدال "الشافي" و"حنان" بقناة أمنية، يمثلها من الجانب الفلسطيني محمود عباس، "أبو مازن"، وتحوّل التفاوض العلني في واشنطن إلى مفاوضات أمنية سرية يقودها من الجانب الإسرائيلي قيادات الموساد برعاية إسحاق رابين و"أبو عمار"، وهو الأسلوب الذي أدّى إلى التوقيع على بقاء الاستيطان في أجزاء كبيرة من أراضي الضفة الغربية، وتأجيل النظر في قضايا القدس، والتعويضات والمياه وعودة اللاجئين والسيادة (الحل النهائي)؛ وهو ما كرّس له المفكِّر الأمريكي ذو الأصل الفلسطيني "إدوارد سعيد" كتابيه: «غزة – أريحا سلام أمريكي»، و«أوسلو 2 سلام بلا أرض».
قفز أبو عمار بالفرقة 17، وبأجهزة أمنية عديدة، وبقيادة لا تختلف في قليل أو كثير عن المنظومة العربية الحاكمة في أيّ بلد عربي مشهود له بالفساد والاستبداد، إلى الضفة الغربية. كانت المواجهة منذ اليوم الأول مع القيادات غير الموالية، ومع الصحافة، وجرى تنسيق أمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المحتلة، وتحت سمع وبصر المنظمة، جرى التنكيل بالشعب الفلسطيني، واعتقال المئات والآلاف، وبسرعة راعبة تحوّلت منظمة التحرير الفلسطينية ومناضليها الأشاوس، من حركة تحرير وطني إلى سلطة فاسدة ومستبدة، كأي نظام من أنظمة عالمنا الثالث.
اختزلت المنظمة كفاح فلسطين لأكثر من نصف قرن، إلى مساومات بائسة وتنازلات مهينة، ترسّمها بدقة متناهية المناضل والمفكر الفلسطيني الفقيد إدوارد سعيد، وقرأ فيها منذ البداية المآل الخائب للسلطة الشائخة.
حرص الأمريكان على توريط أولياء الأمور الجدد في الخليج في صراعات بينية وجرائم؛ ليسهل الضغط عليهم أو حتى إزاحتهم متى أرادوا، ثم جاءت صفقة القرن، وإعلان نتنياهو ضم القدس وما تبقى من الضفة الغربية والجولان وغور الأردن، بتأييد مطلق من الرئيس ترامب
لم يستمر شهر العسل طويلًا؛ فـ"شيلوك" الصهيوني لا يرضى بغير تقطيع جسد الضحية حتى الموت. أخذ إدوارد على فريق "أبو عمار" عدم الكفاءة والاقتدار، ولام عنيفًا "أبو عمار" الذي أعطى لنفسه وحده الحق في النظر في ملف القضية، المكوَّن من أربعِ مئة صفحة، ليحسم الأمر بنفسه دون الرجوع حتى إلى معاونيه، فما بالكم بممثلي الشعب الفلسطيني!
كان أبو عمار -يرحمه الله- شديد التعطش للسلطة، بعد أن فقد سلطته في "الفاكهاني"، وهي سلطة جائرة وسيِّئة بكل المقاييس، وحاول تكرارها في الضفة والقطاع، المحكومة بالاحتلال الصهيوني الاستيطاني القائم على التمييز وقوانين الفصل العنصري، وبثورة أطفال الحجارة، وعندما ضاق بالخنق الإسرائيلي وبالإذلال المتواصل، بدأ بالتملمُل والشكوى من وضعٍ أسْهَمَ في صنعه.
لم ينفذ الإسرائيليون إلا القليل مما تم الاتفاق عليه، ووقفت الإدارة الأمريكية والأوربيون إلى جانب إسرائيل، وتخلّى عنه زملاؤه من الحكام العرب، ووجد نفسه محاصرًا، وقُتِل صديقه "رابين- حمامة السلام"، ووجد نفسه معزولًا ومحاصرًا حتى الموت.
بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر/ أيلول 2000؛ فحرصت إسرائيل على جرّها إلى العنف، ووقع "أبو عمار" و"حماس" في الكمين الذي نصبه "شارون"، فكانت المواجهة غير متكافئة، وغاب التضامن العربي والدولي؛ ما سهل على إسرائيل الخلاص منها، والمزيد من حصار "أبو عمار"، ولم تحقق الانتفاضة الثانية ما حققته انتفاضة الحجارة بسبب العسكرة.
ثورة الربيع العربي قوّت العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، وبين الأنظمة العربية التابعة، وأبرزت الثورة مدى هشاشة وتداعي هذه الأنظمة، ومدى احتياجها إلى الحماية المباشرة والقوية من "السيد الأمريكي"، وليس من ثمن غير التطبيع.
تأكد الحكام الطغاة أن العدو الحقيقي هو شعوبهم وشعوب أمتهم العربية؛ فتواطَؤُوا، وموّلوا بالمال بسخاء، الإرهابيين والثورات المضادّة، وشاركوا في إشعال الحروب مباشرة وعبر تجييش الإرهاب في سوريا واليمن وليبيا والسودان ومصر والعراق والبحرين؛ للقضاء على الربيع العربي، وإفساح المجال أمام التطبيع.
حرص الأمريكان على توريط أولياء الأمور الجدد في الخليج في صراعات بينية وجرائم؛ ليسهل الضغط عليهم أو حتى إزاحتهم متى أرادوا، وكانت صفقة القرن، وإعلان نتن ياهو ضم القدس وما تبقى من الضفة الغربية والجولان وغور الأردن، بتأييد مطلق من الرئيس ترامب، وإن كان ذلك قرارًا أمريكيًّا، نفذّه ترامب فقط خدمة لإسرائيل، ولأغراض انتخابية أيضًا، وتطبيع الإمارات ليس أكثر من نقل العلاقة السريّة وغير الأخلاقية إلى العلن.
الأرقام الفلكية لعوائد النفط كان لها الأثر البالغ على توجهات دول الخليج وعلى رأسها السعودية منذ السبعينيات.
صعد نجم البترودولار، وأصبحت الدول الخليجية مركز الثقل عربيًّا، وما كان باستطاعة ابن زايد أن يعلن التطبيع لو لم تكن الأمة كلها محروبة ومحاصرة، ولكن الخلل الحقيقي لا بدَّ أن تقرأه في الوضع العربي العام، بما في ذلك في السلطة الفلسطينية وحماس؛ فهما بخلافاتهما السلطوية، وتحالفاتهما المريبة، وأدائهما السيِّئ كحكام مستبدين، لا يختلفون عن إخوانهم الحكام العرب؛ فهم "كعب أخيل" في إعاقة الانتصار على الثالوث الشرير: الإمبريالية الأمريكية، والصهيونية العالمية، وأتباعهم من الحكام العرب.
مأساة الإنسان الفلسطيني أنه محكوم بإدارة وطنية فاشلة ومسلوبة الإرادة، تقمع شعبها المقموع بالاحتلال الاستيطاني وبنظام الفصل العنصري.