حضرموت والخيارات الصعبة

بين المطلب المشروع وغياب المشروع !
عبدالله البيتي
April 14, 2025

حضرموت والخيارات الصعبة

بين المطلب المشروع وغياب المشروع !
عبدالله البيتي
April 14, 2025
جانب من الاحتشاد الذي دعا إليه حلف قبائل حضرموت - منطقة وادي العليب - 12 أبريل 2025 - تصوير أحمد قروان

في لحظةٍ فارقةٍ من التاريخ اليمني المعاصر، تعود حضرموت إلى واجهة الأحداث، لا بوصفها مجرد مساحة جغرافية، ولكن باعتبارها قضية، ومركز ثقل يتجاوز حدودها المعروفة إلى ما هو أوسع من الجغرافيا والسياسة معًا.

دعوة حلف قبائل حضرموت للاحتشاد في (الهضبة) بوادي العليب يوم 12 أبريل/ نَيْسان 2025 لم تكن عفوية، ولا حدثًا محليًا منعزلًا. كانت أقرب إلى ما يمكن تسميته بمحاولة إعادة ترتيب الأوراق في لحظة إقليمية مضطربة. لكن هذه الدعوة لم تُبْنَ على مشروع سياسي متماسك، بقدر ما اعتمدت على حشدٍ رمزيٍ في نقطةٍ جغرافيةٍ وعرةٍ، بعيدة عن التجمعات السكانية، مما يضفي على الحضور بُعدًا لوجستيًا يُحسب، لكنه لا يكفي وحده لإنتاج فعلٍ سياسيٍ متين قادر على صناعة التّغيير.

 غياب التعريف الدقيق

كان واضحًا أن الشيخ عمرو بن حبريش، بصفته رئيسًا للحلف ووكيلًا  أول لمحافظة حضرموت، أراد من اللقاء أن يكون منصةً لإعادة طرح فكرة الحكم الذاتي لحضرموت. لكن هذا الطرح وإن بدا جذابًا في شكله، يفتقد في مضمونه إلى تعريف دقيق للمفهوم، وحدود العلاقة بين هذا الكيان المفترض وبين الدولة اليمنية، أو حتى مستقبل التعامل مع الكيانات السياسية الأخرى في الجنوب أو الشمال على حدٍ سواء.

وجاء البيان الختامي لما أسماه الحلف بـ (اللقاء التّاريخيّ) ليُترجم هذا التصعيد بلغةٍ حاسمةٍ، معلنًا أن الحكم الذاتي لم يعد خيارًا مؤجلًا بل (ضرورةً ملحّة)، مع دعوة صريحة لتدخل سعودي ودولي. غير أن الانتقال من المطالب الحقوقية إلى نبرة التصعيد وفتح باب التجنيد، يفتح الباب أمام تساؤلاتٍ مشروعةٍ: هل ما يُطرح اليوم مشروع قابل للتنفيذ، أم أنه مجرد رد فعل على انسداد سياسي طويل؟

وفي سياق موازٍ، أصدرت اللجنة الأمنية العليا بحضرموت، قبل يوم واحد من اللقاء القبلي، بيانًا أكدت فيه سريان قرارها بمنع حمل السلاح، والمرور به عبر النقاط العسكرية والأمنية، نافيةً ما راج من شائعات تخالف ذلك. وهي إشارة لا تخلو من دلالة في هذا التوقيت، تعكس حرص السلطة المحلية على ضبط الإيقاع الأمني وسط تصاعد لغة التعبئة. وهو تأكيد - لا يمكن تجاهله - على أن الانفلات الأمني إذا تُرك بغير حزم قد يتحول من حالة عارضة إلى مدخل خطِر للانزلاق في مسارات أشد وطأة، لا تحتملها حضرموت في ظرفها الراهن.

أن تكون جزءًا من جنوب جديد برؤية انفصالية، أو أن تبقى ضمن يمن موحد برؤية فيدرالية، هو اختيار يتجاوز الشعارات، ليصل إلى لب السؤال: أيّ مستقبل نريد؟

تحت المظلة السعودية

الأكثر إثارةً للتساؤل أن بن حبريش، الذي ظلّ لسنواتٍ يؤكد أن القرار الحضرمي (حر ومستقل)، عاد في خطابه الأخير ليضع المشروع تحت مظلة الدعم السعودي، قائلاً: "إنّ المملكة العربية السعودية كانت وما زالت إلى جانب حضرموت". وهو تحول جوهري، ليس فقط في الخطاب، بل في منطق المشروع ذاته. فمن يعتمد على الخارج، يسلّم – ضمنيًا- بأنه لا يملك أدوات الإنجاز من الداخل.

العودة إلى الاسم القديم (حلف قبائل حضرموت) - بعد أن كان قد جرى تحييده لصالح اسم أكثر مدنيّة - يحمل دلالة على إعادة تموضع لا يُقرأ إلا في سياق تحوّلات الصراع اليمني الأوسع. إذ يبدو أن الحلف يعيد بناء ذاته على أسسٍ قبليةٍ لا مدنية، وهو ما يطرح أسئلة عن شمولية تمثيله، وقدرته على احتواء الطيف الحضرمي بكل تنوعاته.

ولأن الخطاب دون مشروع يبقى صدى في الفراغ، فإن المقارنة تصبح ضرورية. أمام الحضرمي اليوم مشروعان لا ثالث لهما. الأوّل: يقدمه المجلس الانتقالي الجنوبي، وينطلق من رؤية لدولة جنوبية مستقلة، فيدرالية، تكون حضرموت أحد أقاليمها. والثاني: يتبناه الحلف، ويرى في حضرموت إقليمًا فيدراليًا ضمن دولة يمنية موحدة، يتجاوز عدد سكانها الأربعين مليونًا، ولا يستثني في بنيتها حتى (الحوثيين).

هذا التباين في الرؤية يضع المواطن الحضرمي أمام خيارين، لا يملك رفاهية تجاهلهما. فأن تكون جزءًا من جنوب جديد برؤية انفصالية، أو أن تبقى ضمن يمن موحد برؤية فيدرالية، هو اختيار يتجاوز الشعارات، ليصل إلى لب السؤال: أيّ مستقبل نريد؟

ما حدث في وادي العليب، على أهميته الرمزية، لا يمكن فصله عن تجارب سابقة أثبتت أن الحشود، مهما كانت كثافتها أو رمزيتها، لا تصنع مشروعًا سياسيًا ما لم ترفدها رؤيةً استراتيجية. بل إن معظم الحشود السياسية في اليمن، منذ بدايات الحراك الجنوبي وحتى مليونيات صنعاء، لم تثمر سوى مزيد من التشظي.

إن حضرموت التي لا تقبل أن تُختزل في جناح واحد، ولا أن تُدار بعقلية الخنادق المتقابلة، تحتاج إلى عقلٍ سياسيٍ كبيرٍ، يتجاوز لغة التصعيد، ويدرك أن الاستقرار لا يصنعه طرف واحد، بل توافق وطني جامع

بين الحشد والرؤية

والخطر الأكبر أن يُنظر إلى حضرموت بوصفها غنيمة سياسية، أو ورقة تفاوضية، لا كقضية بحد ذاتها. فالحلف لا يمثل وحده حضرموت، وهناك مكونات مدنية وسياسية أخرى، من الجامع إلى الانتقالي، ومن القوى التقليدية إلى النُّخب الجديدة. لا يمكن اختزال القرار الحضرمي في صوتٍ واحدٍ، أو رسمه بلونٍ واحدٍ.

لقد آن لحضرموت أن تخرج من عباءة (الحشد)، إلى عباءة (الرؤية). أن تنتقل من التلويح بالخصوصية، إلى بناء مشروع يعبّر عن هذه الخصوصية، ويرتكز إلى مؤسسات، لا إلى أشخاص. مشروع يضمن العدالة، ويحقق التنمية، ويعيد لحضرموت مكانتها لا كمجرد تابع في لعبة المصالح، بل كصانع للقرار.

إن حضرموت التي لا تقبل أن تُختزل في جناح واحد، ولا أن تُدار بعقلية الخنادق المتقابلة، تحتاج إلى عقلٍ سياسيٍ كبيرٍ، يتجاوز لغة التصعيد، ويدرك أن الاستقرار لا يصنعه طرف واحد، بل توافق وطني جامع. فحين يُستدعى الخارج لملء فراغ الداخل، نكون قد خسرنا البوصلة. ولعل الفرصة التي ما تزال سانحة - عبر مؤتمرٍ جامعٍ لأبناء حضرموت في الداخل والخارج - هي الطريق الوحيد لصياغة موقف موحد، يخرج من الهضبة، ويُرفع إلى الدولة، لا كصرخة احتجاج، بل كمشروعٍ مكتملٍ، يعكس إرادةً ناضجة تستحق أن تُحترم.

التاريخ لا يرحم الفرص الضائعة، وحضرموت اليوم أمام فرصة ذهبية لتشكيل مستقبلها، لكن ذلك لا يكون إلا بوعيٍ جمعيٍ، وإرادة سياسيةٍ حقيقية، لا بتبادل الأدوار بين القبيلة والسلطة. فالمستقبل لا يُبنى على الجغرافيا وحدها، بل على القدرة على صياغة الحلم إلى مشروع، وتحويل المطالب إلى مؤسسات، والصوت إلى فعل.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English