عهد رمضان في ريمة مع "المقدمة" والشيخ النهاري

المصحف القديم وتقاليد خالدة في ذاكرة الأرياف والأجيال
فايز الضبيبي
March 20, 2025

عهد رمضان في ريمة مع "المقدمة" والشيخ النهاري

المصحف القديم وتقاليد خالدة في ذاكرة الأرياف والأجيال
فايز الضبيبي
March 20, 2025

في قرية "المصبحي" بني "الضبيبي" بمحافظة ريمة غربي اليمن، تتجسد تقاليد رمضان بروح الشيخ أحمد النهاري، الذي قضى 40 عامًا يتفانى في قراءة القرآن من مصحف قديم، يتبع أحد أبناء القرية، طوال شهر رمضان من كل عام. 

الشيخ أحمد النهاري، الذي يبلغ من العمر 90 عامًا، كان ينتقل من قرية "الجحار" إلى قرية "المصبحي" في بني الضبيبي في رمضان، يستقر في منزل صاحب "المقدمة"، يُفرغ وقته لقراءة القرآن وتدارسه مع أهالي القرية طوال الشهر، من تلك المقدمة.

القيمة التاريخية للمصاحف القديمة

 يعود تاريخ المصحف "المقدمة" المكتوبة بخط الشيخ ياسين بالقاسم الهتاري والتي كتبها بيده وسطّره كـتراث روحي عظيم، إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري. وتسمى هذه المصاحف في ريمة؛ "المقدمة" لما تحمله من تقدير وشأن لدى الأسر التي تمتلكها.

في اليمن، وبشكل خاص في ريمة، مثلت المصاحف القديمة المكتوبة بخط اليد قيمة تاريخية كبيرة بالنسبة للأهالي، وتاريخًا مهمًا للأسر التي تملكها، خاصةً الأسر الميسورة، التي كانت تحرص على أن يكون لها نسخة خاصة من القرآن، لما تحمله من دلالة روحية واعتبارات اجتماعية وتاريخية كبيرة في المجتمع.

كان يتم وضع هذه المصاحف في المساجد أو في غرف عامة في القرى من قبل أصحابها، ليتيح لبقية الأهالي قراءة القرآن من تلك المصاحف وتعلمهم وتدريسهم، نظرًا لعدم توفر المصاحف للجميع وصعوبة امتلاك نسخ القرآن.

تجسدت رعاية الشيخ أحمد النهاري لتعليم القرآن في إحياء "المصحف القديم" بإرث من التوجيه والتربية. إنها قصة مؤثرة عن رجل عاش ليعلم ويوجه، حيث ستظل تلك الدروس الدينية القيمة خالدة في ذاكرة الأطفال والقرية بأسرها

يفيد محمود علي، الحفيد الوحيد لصاحب ذلك المصحف القديم، بأنهم لا يزالون يتوارثون هذا المصحف الفاضل والمبارك في الأسرة، وقد أوقف جده هذا المصحف على الأسرة لتلاوة القرآن منها وتعليمه للناس حتى قيام الساعة، ولا يمكن التفريط فيه أو التخلي عنه.

الوقف لصالح المصحف 

يروي حفيد صاحب المقدمة، محمود علي جسار55 عامًا، قصة جده الذي أوقف المصحف في غرفة خاصة بمنزله، فأصبحت مفتوحة لأبناء القرية لاستضافة مناسباتهم وضيوفهم، ومكان لتلاوة وتعلم القرآن، وقام بتوظيف معلم من أسرة بيت النهاري لقراءة وتعليم القرآن من هذا المصحف النادر خلال شهر رمضان.

قبل وفاته، وجه جده وصية لأولاده بالاستمرار في هذا العمل الخيري، وقام بتخصيص جزء من أمواله لدعم هذا الديوان، واستمرار إحياء ذلك المصحف بتلاوة وتعليم القرآن لأبناء القرية خلال شهر رمضان.

في ذلك الزمن البسيط، كانت نسخ القرآن نادرة، والمتقنين للقراءة والكتابة قليلون جدًا في المنطقة، ولكن صاحب المقدمة أسس تقليدًا يتيح لأبناء القرية قراءة القرآن مع معلم في رمضان، وتعلمه أيضا، وظل أبناؤه وأحفاده يتداولونه إلى اليوم، في حين ظلت أسرة بيت النهاري تتداول هذه الوظيفة فيما بينها جيل بعد جيل.

أخر العهد بالشيخ أحمد

كان الشيخ أحمد النهاري آخر معلم من تلك الأسرة، وكان العام الماضي آخر عهد له بهذه الوظيفة والمصحف والقرية، بعد أن بلغ من العمر عتيا، وأصبح عاجزاً عن القيام بهذه الوظيفة الجليلة.

ويبدو أن هذا التقليد الجميل قد يفتقد إلى الأبد، حيث لا يوجد أحد في عائلة النهاري جاهز للاستمرار في هذه المهمة، مع توفر المصاحف المطبوعة في كل منزل، وتعلم غالبية أبناء القرية، وارتباط الأطفال بالتعليم في المدارس، يقول محمود علي حفيد صاحب المقدمة.

يؤكد محمود جسار لـ"خيوط"، بأن الغرفة الخاصة في منزل جده ستظل مفتوحة تجاه أبناء القرية، لإقامة مناسباتهم واستقبال ضيوفهم، وأن المقدمة ستبقى في مكانها، ومتاحة لمن يريد القراءة منها، وأنه أصبح مناوبًا على قراءة القرآن من تلك المصحف في شهر رمضان وطوال أيام السنة. 

رمضان وألم الفقد والغياب

فيما نتطلع لرمضان، نشعر بفقدان الشيخ أحمد النهاري، الذي كان يمثل جزء من حياة أهل القرية، ويمثل وصوله الى القرية بداية كل رمضان منذ نحو 40 عامًا، أحد مبشرات وعلامات قدوم هذا الشهر المبارك، يقول حسن إبراهيم لـ"خيوط"؛ نحن نتطلع إلى رمضان بذكرى هذه التقاليد الجميلة وروح العطاء والتلاحم في قريتنا.

يضيف: لم نكن نتخيل أن يأتي شهر رمضان بدون الشيخ أحمد النهاري، ذلك التقي النقي والزاهد العابد، الذي كانت تفتح له كل منازل القرية أبوابها، يزورها منزلاً  منزل، يتفقد أهلها يونس شيوخها ويداعب أطفالها، ويحث شبابها على الصوم والالتزام بالعبادات، ويدعوا لأهل المنزل بالخير والبركة.

إضافة إلى قراءته المخلصة للمصحف، كان الشيخ أحمد النهاري رمزًا للتعليم الديني، حيث عمل بجد على تعليم الأطفال قراءة القرآن الكريم، فلا يوجد طفل في القرية، على مدى الأربعين عامًا الماضية، لم يستفد من دروسه، ودَرس القرآن على يديه وتحت إشرافه الحنون.

كما كان يشكل عاملًا حيويًا في حياة القرية، حيث كان يؤم المصلين في معظم الصلوات الخمس في مسجد القرية. ولم يكتفِ بذلك، بل شملت جهوده الطيبة صلاة التراويح والقيام طوال شهر رمضان المبارك، حيث كان يقود المصلين بروحانية وخشوع.

كانت لحظات مميزة عندما كنت أستمع إلى تلاوة الشيخ أحمد النهاري من المصحف القديم وفي الصلاة طوال شهر رمضان، يقول محمد العقشاني أحد أبناء القرية. 

يتابع: كان يمثل رمزًا للتقاليد والروحانية في قريتنا، ويمثل العطاء والتلاحم في شهر رمضان، نحن نفتقد حضوره وقراءته المميزة من المصحف القديم، وتلاوته العطرة في الصلوات.

تجسدت رعاية الشيخ أحمد النهاري لتعليم القرآن في إحياء "المصحف القديم" بإرث من التوجيه والتربية. إنها قصة مؤثرة عن رجل عاش ليعلم ويوجه، حيث ستظل تلك الدروس الدينية القيمة خالدة في ذاكرة الأطفال والقرية بأسرها.

اندثار المظاهر الروحانية 

شهدت بعض العادات تراجعًا في كثير من مناطق ريمة، وفقًا للكاتب منير طلال؛ "كان لشهر رمضان في ريمة طابعٌ خاص ، حيث ارتبط بقراءة القرآن والتواشيح والأناشيد الدينية. المساجد كانت تستضيف حلقات لقراءة كتابي صحيح البخاري ومسلم، وكانت الأصوات الجميلة للمداحين تملأ الجو بالبهجة".

وكان للقصاصين أسلوبهم الخاص في سرد الحكايات العربية، وكانوا من طبقة متعلمة وفاهمة، يحملون مكانة اجتماعية مرموقة. للأسف، معبرًا عن قلقه إزاء اندثار هذه المظاهر المهمة.

•••
فايز الضبيبي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English