صرخة المعتقلين والمختفين قسرا

انكسار مزدوج في شهر الانعتاق
يحيى الضبيبي
March 16, 2025

صرخة المعتقلين والمختفين قسرا

انكسار مزدوج في شهر الانعتاق
يحيى الضبيبي
March 16, 2025

رمضان هو شهر الانعتاق، لكنه عند المعتقلين يتحول إلى شهر الوجع المضاعف، حيث يتكثف الشعور بالغياب، ويصبح الجوع رمزيًا، ليس جوع الطعام فحسب، بل جوع اللقاء، وظمأ العناق، ولهفة العودة إلى البيت الذي صار بعيدًا، متواريًا خلف متاهة من القضبان والأسى.

ورمضان، بوصفه شهرَ التحرر من أغلال الذات، يتحول في عتمة الزنازين إلى سؤال وجودي يلاحق السجين: أيُعقل أن تطلب الروحُ الانعتاقَ وهي مُقيَّدة؟ إنه انكسار مزدوج؛ جوع يخترق الحواس نحو لقمة خبز، وآخر تُعلقه الذاكرة على شرفة الماضي. حتى العطش هنا لا يُروى بالماء، بل بدموع الليل المنثالة خلف القضبان.

خلف الأسوار العالية، حيث لا يُرى هلال رمضان إلا في الخيال، يجلس المعتقل في زنزانته، منتظرًا صوت أذان لا يصل، ومائدة لا تُمد، وموعد إفطار لا يشاركه فيه أحدٌ إلا الصمت.

هناك، في الزنزانة الضيقة، يُعاد تشكيل مفهوم الزمن، وتصبح كل لحظة ثقيلة، ممدودة، كأن النهار لا ينتهي، وكأن المغرب موعد مؤجل بلا أذان، وكأن الليل لا يعرف صحوة السحور، بل يمتد كعتمة لا فجر لها.

يدرك المعتقل أن دمعته الواحدة تزن أكثر من كل قضبان السجن، لأنها تحمل حكايات مَنْ يئنون خلف الجدران. وحين يُغمض عينيه، يرى نَفَس أمه ينسج غطاءً لبرد لياليه، ويسمع ضحكة طفله تملأ الصمت بألوان دافئة. هكذا يصنع من أوهامه سلوى، ويحمي إنسانيته من أن تتحول إلى حجر.

الزمن سجاناً

في هذا المُكوث القسري، يصبح الزمن سجانًا آخر، والساعات تجرّ أقدامها كالمحكوم بالأشغال الشاقة، تئن تحت وطأة الانتظار، والأيام تستنسخ نفسها كجلاد بارع في تكرار العذاب. لكن السجين، في أعماقه، يقتطع من صمته سُلَّمًا إلى السماء، يصلي بقلب مرتعش كورقة مصحف ترتجف في مهب الظلم، ويستعيذ من برودة الجدران بدفء آيات كانت أمه تهمس بها ذات ليلة بعيدة، وكأنها ما زالت تحرسه من خلف الزمن.

حين يحين وقت الإفطار، لا يلتقي المعتقل بعيني أمه اللامعتين فرحًا، ولا يرى يد أبيه تمتد لتضع له تمرة، ولا يسمع ضحكات إخوته وهم يتقاسمون كسرات الخبز، لكنه يسمع شيئًا آخر: أنين المعتقلين حوله، همهمات تتردد في الأركان، دعواتٌ تخرج من القلوب المنكسرة، دموع تسيل بلا صوت.

حينها تتحول اللقمة إلى ذبيحة.. هو لا يأكل، بل يُقدّم أحشاءه قربانًا لغيابه. حنينه إلى مائدة أسرته يطفو كزبد البحر على شاطئ وحدته. حتى رائحة الطعام التي تتسلل من بعيد تجرحه، تذكره بأنه غريب في وطن جسده، وأن الأيام التي كان يعتقدها عاديةً كانت نعمة لم يعرف قيمتها إلا حين صارت ذكريات تؤرق سماء زنزانته.

إنه شهر الرحمة، لكنهم لا يجدون يدًا تمسح جراحهم، وهو شهر الغفران، لكنهم وحدهم يدفعون ثمن الأخطاء التي لم يرتكبوها.

يعتقد البعض أن تلك الدمعة التي تنزل من عين المعتقل هي دمعة ضعف، وهو منظور خاطئ، لأن تلك الدمعة شهادة على إنسانيته، على أنه ما زال حيًا رغم كل ما مر به، وما زال مشتاقًا رغم كل ما فقده، وما زال يؤمن بأن العتمة، مهما طالت، لا بد أن يتبعها فجر جديد.

يدرك المعتقل أن دمعته الواحدة تزن أكثر من كل قضبان السجن، لأنها تحمل حكايات مَنْ يئنون خلف الجدران. وحين يُغمض عينيه، يرى نَفَس أمه ينسج غطاءً لبرد لياليه، ويسمع ضحكة طفله تملأ الصمت بألوان دافئة. هكذا يصنع من أوهامه سلوى، ويحمي إنسانيته من أن تتحول إلى حجر.

وربما في تلك اللحظات يتخيل نفسه في بيته، يشعر برائحة الطعام تملأ المكان، يضحك مع إخوته، ويملأ كأسه بالماء البارد، لكنه حين يفتح عينيه، لا يجد إلا الأسوار الصامتة.

هذا التشوه النفسي يمثل اضطرابًا في البوصلة الأخلاقية، حيث يفقد الظالم القدرة على استشعار عواقب أفعاله. وكلما ترسخ الظلم في ذاته، تلاشت قدرته على الاستبصار، ليصبح أسير نرجسيته المدمرة، معتقدًا أن ضعفه قوة وقوته حق مطلق. وهكذا يسقط في دوامة لا نهاية لها من الغطرسة.

رقصة الظلال

يعلم المعتقل أن موائد الإفطار خارج السجن مزينة بالمحبة، لكنه يوقن أن موائده هنا مزينة بالصبر، وأن كل لقمة يأكلها على عجل بين جدران باردة، هي في ميزان الله صدق وإخلاص.

رمضان هنا يشبه رقصة الظلال، فالسجين يرتمي في أحضان الليل طلبًا للقاء موعود، يظل قلبه ينبض بإصرار: "لعل الغد يضيء". فالأمل في زنزانة اليأس هو التمرة الوحيدة التي لا تنتهي. 

كما أن رمضان هو أقرب الشهور لأن يكون حالة انتظار للفرج، وموسمًا لا يخيب فيه الرجاء.

الظلم، خاصة في سياق المعتقلات، ليس مجرد انتهاك لحقوق الآخرين، بل هو تشويه للذات الإنسانية. من يستمتع بآلام الضحايا ويمارس القمع يعيد تشكيل نفسه وفق معادلة مختلة: القوة فوق الحق، المصلحة فوق القيم، والذات فوق الآخرين. هذا السلوك أشبه بتجرع سم قاتل على جرعات، حيث يفقد الظالم إحساسه الإنساني تدريجيًا، ويتحول إلى كيان متوحش تسيطر عليه الأنانية والرغبات المتضخمة.

هذا التشوه النفسي يمثل اضطرابًا في البوصلة الأخلاقية، حيث يفقد الظالم القدرة على استشعار عواقب أفعاله. وكلما ترسخ الظلم في ذاته، تلاشت قدرته على الاستبصار، ليصبح أسير نرجسيته المدمرة، معتقدًا أن ضعفه قوة وقوته حق مطلق. وهكذا يسقط في دوامة لا نهاية لها من الغطرسة.

عندما يصبح الظلم نمطًا سائدًا في المجتمع، تتحول الثقافة إلى خوف وصمت بدلًا من العدالة والمساءلة. المجتمع الظالم يفقد مناعته ضد الاستبداد، ويصبح بيئة خصبة للفساد والانحطاط. العدالة هنا ليست ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة وجودية لحماية المجتمع من الانهيار، تمامًا كما يحتاج الجسد لجهاز مناعي.

رمضان يأتي كفرصة لمواجهة الذات وإعادة النظر في المنظومة القيمية. الصوم هنا ليس فقط امتناعًا عن الطعام والشراب، بل تنقية للنفس من شوائب الظلم، سواء تجاه الآخرين أو الذات، فالظالم، في النهاية، هو أكثر من يؤذي نفسه، لأنه يضعها في مواجهة حتمية مع العواقب الأخلاقية والوجودية.

والعدالة ليست مجرد قانون يُطبق، بل وعي يُزرع ونسق أخلاقي يجعل الحياة ممكنة بكرامة.  

وفي نهاية المطاف، لا يُقاس الإنسان بقوته أو سلطته، بل بمقدار ما يحمله من عدالة، فمن يعش ظالمًا، يحمل في داخله بذرة فنائه، ومن يعش عادلًا، يترك أثرًا خالدًا في ميزان الإنسانية.

ومن هنا، فإننا نتوجه بدعوة خالصة لكل الأطراف في اليمن أن يتحرروا من الظلم، وأن يفرجوا عن المعتقلين، إكرامًا لله، ثم رحمةً بأهاليهم الذين يبيتون على الحنين والألم، ثم إجلالًا لهذا الشهر العظيم الذي ينبغي أن يكون شهر التسامح والعفو.

اجعلوا رمضان بوابةً للرحمة، لا سجنًا جديدًا للأرواح المكلومة. فالحرية للمظلومين أعظم القربات، وأجمل الهدايا التي تُقدَّم في شهر المغفرة.

لا تتركوا رمضان يمضي كسِجل إدانةٍ للبشرية. المعتقل ليس رقمًا في ملف، بل قصة إنسان يصرخ: "أنا هنا!".

فكوا قيودكم قبل قيودهم، واعلموا أن حريتكم ناقصة ما دامت حرية الآخرين مغتصبة.

الحرية للزميل محمد المياحي، ولكل المعتقلين في أرجاء اليمن.

•••
يحيى الضبيبي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English