المشهد الاقتصادي يروي قصصًا إنسانية مؤلمة في اليمن

وجوه منهكة تتفحص الأسعار بقلق مع استفحال الأزمة
هيثم الأحمدي
March 9, 2025

المشهد الاقتصادي يروي قصصًا إنسانية مؤلمة في اليمن

وجوه منهكة تتفحص الأسعار بقلق مع استفحال الأزمة
هيثم الأحمدي
March 9, 2025

في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها اليمن، يصبح شهر رمضان عبئا إضافيًا على المواطن اليمني الذي يواجه تحديات تتعلق بالقدرة الشرائية، وتراجع الرواتب، وارتفاع الأسعار، لنجد أن الفقر هو السمة الغالبة، وأن تكاليف الحياة اليومية قد تتجاوز قدرة المواطن العادي.

يدخل اليمنيون شهر رمضان كما لو أنهم يدلفون إلى اختبار جديد للصبر، فالعالم الإسلامي يتعامل مع رمضان كشهر للبركة، في حين أن اليمنيين يتهيؤون له كشهر إضافي من المعاناة، لكنها معاناة تتخذ طابعاً خاصاً؛ إنها ليست فقط مجرد امتداد للأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، بل هي تكثيف لها، واختبارٌ لقدرة الإنسان على التكيف مع واقع يبدو غير قابل للحل، فقد أصبح رمضان موسمٌ لمواجهة فقر يتجلى بأوضح صوره، فالحاجة تصبح أكثر إلحاحًا، والاستهلاك أكثر ضرورة، في حين ان القدرة الشرائية أقل من أن تواكب الضروريات.

أزمة جوع وأسعار

لم يُعد رمضان في اليمن مجرد شهر روحاني، بل تحول إلى اختبار قاسٍ يصعب تحمله، وأصبح السوق مكانًا يعكس حجم الأزمة: وجوه منهكة تتفحص الأسعار بقلق، أمهات يتنقلن بين المتاجر بحثًا عن أرخص البدائل، وآباء يعودون إلى منازلهم بأكياس أخف وأقل من المتوقع، محملين بإحساس العجز والألم أكثر من أي شيء آخر. 

المواطن اليمني في رمضان يعاني من الصراع بين رغبة الحفاظ على تقاليد الشهر الفضيل، مثل تقديم الطعام والشراب الخاص بالشهر، وبين الواقع القاسي الذي يفرض عليه اتخاذ قرارات صعبة للغاية. من ناحية، يسعى المواطن للحفاظ على قيمه وتقاليده الاجتماعية، ومن ناحية أخرى، يحاول جاهداً التكيف مع هذا الواقع الذي يضغط على قواه الاقتصادية والنفسية والاجتماعية

إن المشهد الواقعي يروي قصصًا إنسانية مؤلمة، حيث يفترش الأطفال والنساء الأرصفة في انتظار ما قد تجود به يد المُقتدرين من طعام، فالكثير من الأسر، بما في ذلك تلك التي كانت تعتبر من الطبقة الوسطى، تجد نفسها اليوم تقف في طوابير للحصول على المساعدات الغذائية أو حتى في سعي مضنٍ لإيجاد قليلٌ من الطعام لا يكفي سوى لملء البطون بشكل مؤقت.

واقع عمق الأزمة

منذ سنوات، يعاني اليمن من أزمة اقتصادية خانقة، تدهور العملة المحلية، وتوقف معظم الأنشطة التجارية، ولكن مع دخول شهر رمضان، تصبح هذه الأزمة أكثر حدة، فارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية يجعل من الصعب على الأسر تلبية احتياجاتها اليومية، خاصة في ظل غياب الرواتب أو تأخرها لفترات طويلة، وفي حال صرفها فهي لا تتجاوز جزءاً من تكاليف الحياة الأساسية.

إن رمضان هو المحك الحقيقي لقياس عمق الأزمة في اليمن, لأن هذا الشهر يرتبط بزيادة الإنفاق الغذائي وتنوعه، وتزايد الطلب على المواد الأساسية، وهذا يكشف العجز الهيكلي في الاقتصاد، ويضع الأفراد أمام معادلة مستحيلة: كيف يمكن للفرد أن يستهلك أكثر وهو مُعدم؟. 

 إن المواطن اليمني في رمضان يعاني من الصراع بين رغبة الحفاظ على تقاليد الشهر الفضيل، مثل تقديم الطعام والشراب الخاص بالشهر، وبين الواقع القاسي الذي يفرض عليه اتخاذ قرارات صعبة للغاية. من ناحية، يسعى المواطن للحفاظ على قيمه وتقاليده الاجتماعية، ومن ناحية أخرى، يحاول جاهداً التكيف مع هذا الواقع الذي يضغط على قواه الاقتصادية والنفسية والاجتماعية.

التكيف ومحاولات العيش

هناك مقولة شائعة تقول إن الإنسان قادر على التكيف مع أي شيء، وهذا صحيح إلى حد ما، لكنه يغفل جانبًا مهمًا: التكيف ليس دائمًا علامة على القدرة، بل هو أحيانًا اعترافًا ضمنيًا بالعجز عن التغيير، واليمنيون اليوم يتكيفون مع الفقر كما لو كان جزءًا من بنيتهم النفسية، يرتبون أولوياتهم باستمرار، يختصرون وجباتهم، ويعيدون تعريف مفهوم الإفطار والسحور، ويبحثون عن طرق للبقاء ضمن حدود الممكن.

لكن التكيف ليس مجرد فعل مادي، بل هو أيضًا فعل نفسي واجتماعي، فهو ليس فقط القدرة على العيش بالقليل، بل القدرة على إعادة تفسير القليل بحيث يبدو كافيًا. في اليمن، لا يعني التكيف فقط الاستغناء عن بعض الأطعمة أو تقليل كميات الشراء، بل يعني كذلك إعادة تشكيل مفهوم الضرورة والحاجة. 

الأسر اليمنية تعيش تحت ضغط مستمر بشأن كيفية تغطية نفقاتها اليومية، ويصبح المواطن مجبرًا على التكيف مع هذا النقص بشكل نفسي، مما يؤدي إلى حالة من العجز النفسي، كما أن التفكير المستمر في كيفية تدبير لقمة العيش يضغط على نفسية الأفراد ويؤدي إلى زيادة مستويات القلق والاكتئاب

ان التكيف لا يقتصر فقط على تغيير أنماط الاستهلاك، بل يتعدى ذلك إلى تغيير كامل في شكل العلاقات الاجتماعية، فالتغيير الاجتماعي الذي يمر به المجتمع اليمني الآن يضغط على الروابط المجتمعية التقليدية التي كانت تشهد الكثير من التآزر والاحتفال الجماعي في رمضان، وبدلاً من ذلك، يسود الانعزال الاجتماعي أو تقليص نطاق الأنشطة الاجتماعية إلى الحد الأدنى، ليقتصر الأمر على نطاق الأسرة الصغيرة.

التكافل وإعادة إنتاج الأزمة

في هذه الظروف الصعبة، يبدأ المجتمع اليمني في البحث عن طرق للتكيف مع الأزمة من خلال تكثيف التضامن الاجتماعي، حيث تتزايد المبادرات الخيرية، وتصبح الصدقات أكثر حضوراً في المشهد العام. لكن السؤال هنا: هل يمثل هذا التكافل حلا للأزمة، أم أنه مجرد آلية أخرى للتكيف معها دون مواجهتها؟ عندما يعتمد جزء كبير من المجتمع على المساعدات، فإن هذا لا يعكس فقط أزمة اقتصادية، بل يعكس أيضًا نمطًا من العيش يعتمد على الحلول المؤقتة بدلاً من الحلول الجذرية.

التكافل الاجتماعي، رغم ضرورته، قد يكون أحيانا أداةً لإعادة إنتاج الأزمة، إنه يسمح للناس بالبقاء، لكنه لا يسمح لهم بالخروج من دائرة الفقر، إنه يمنحهم الأمل، لكنه لا يمدهم بالقدرة على تغيير واقعهم. 

تغيرات اجتماعية عميقة

لقد تغيرت إلى حدٍ ما القيم الاجتماعية في اليمن تحت وطأة هذه الأزمة، حيث كان رمضان في الماضي مناسبة لتبادل الزيارات العائلية والاحتفال بالموائد الجماعية، وكانت الجوانب الروحية والاجتماعية تتداخل مع الحياة اليومية. اليوم، تغيرت هذه المظاهر بشكل جذري، حيث أصبح الكثيرون لا يستطيعون حتى توفير الطعام لأسرهم، وبالتالي تراجع مفهوم "الكرم" و"الضيافة" ليصبح استثناءً، بينما صار الصمود أساساً في مواجهة الحياة، فالزائر لم يعد يُستقبل بالطعام التقليدي الذي كان يميز شهر رمضان، بل أصبح اللقاء مشحونا بالقلق.

أحد الجوانب التي قد يتم تجاهلها في الحديث عن الأزمة الاقتصادية في اليمن هو التأثير النفسي على الأفراد، فعندما نجد الأسرة نفسها غير قادرة على تأمين احتياجاتها الأساسية، ينعكس ذلك بشكل كبير على الصحة النفسية لأفرادها، فالقلق والتوتر يصاحبان المواطن اليمني بشكل يومي، ويزداد هذا الشعور في رمضان، الذي يعتبر شهراً من المفترض أن يكون مملوءً بالسلام الروحي والطمأنينة.

الأسر اليمنية تعيش تحت ضغط مستمر بشأن كيفية تغطية نفقاتها اليومية، ويصبح المواطن مجبرًا على التكيف مع هذا النقص بشكل نفسي، مما يؤدي إلى حالة من العجز النفسي، كما أن التفكير المستمر في كيفية تدبير لقمة العيش يضغط على نفسية الأفراد ويؤدي إلى زيادة مستويات القلق والاكتئاب.

هذه الظروف النفسية تؤثر بشكل عميق على الحياة العائلية، حيث يصبح هناك انعدام للراحة واضطرابات داخل الأسرة، وهو ما قد يؤدي إلى تفكك العلاقات الزوجية والعائلية. في النهاية، يتحول رمضان، إلى فترة من الصراع الداخلي المستمر.

صراع وكفاح البقاء

في رمضان، كما في باقي أشهر السنة، لا يزال اليمنيون يتأرجحون بين الحاجة إلى الصمود، والرغبة في التغيير، وبين التكيف مع الفقر، والحلم بالخروج منه.

في النهاية، يبقى رمضان في اليمن هذا العام ليس مجرد اختبارٍ للصبر الروحي، بل اختبار للإنسانية نفسها. كيف يمكن للإنسان أن يصمد في ظل ظروف اقتصادية قاسية، كيف يمكن له أن يحافظ على كرامته وهو يكافح للبقاء على قيد الحياة؟ في هذا الشهر، تتزايد معاناة المواطن، ولكن هذه المعاناة تبرز حقيقة قاسية: أزمة اليمن ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي أيضًا أزمة إنسانية عميقة تتطلب التفكير بالحلول الإنسانية والاجتماعية التي قد تسهم في التخفيف من وطأتها.

•••
هيثم الأحمدي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English