منذ القرن الماضي كانت قضية فلسطين القضية الرئيسية للأمة كلها. فمنذ اتفاقية سايكس- بيكو 1916، ووعد بلفور في نوفمبر 1917، والأنظمة التابعة التي أنشاها الاستعمار القديم: بريطانيا، وفرنسا، والتي كانت قائمة- بدت متململة ومتلكئة من تأييد إعلان وزير الخارجية البريطاني. وبرز مفكرون قوميون مهمون يدينون الاتفاقية والإعلان، كساطع الحصري، وقسطنطين زريق، وفرج الله الحلو، وأنطون سعادة، وتصدى مفكرون إسلاميون في القرن التاسع عشر أمثال: جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي- عدو الاستبداد الأول- وعلي عبد الرازق، للاستعمار والاستبداد، وحتى الأنظمة التابعة- الدول السبع المكونة للجامعة العربية- هي الأخرى دعت في مؤتمر أنشاص 1946- المؤتمر الأول المؤسس للجامعة العربية- إلى وقف العدوان ضد الشعب الفلسطيني.
حرص الاستعمار القديم على فصل المشرق العربي عن مغربه، وكان الهدف الأساس غرس دولة إسرائيل في فلسطين، ولكن وظائف الكيان الإسرائيلي الصهيوني تطورت في مواجهة الثورات والحركات القومية، وحماية الأنظمة الموالية، وإعاقة الأمة عن تحقيق التنمية والبناء.
الثورة المصرية- ثورة الـ23 من يوليو 1952- بزعامة القائد العربي جمال عبدالناصر، مثلت الرد القومي على هزيمة 48، وبفضل الثورة القومية في مصر، وفيما بعد في سوريا، والعراق، والجزائر، واليمن، أصبحت القضية الفلسطينية القضية الأولى، وتكرست في الأدبيات السياسية، وعبر المؤتمرات والعلاقات الدولية، وبالأخص في المعسكر الاشتراكي، وحركات التحرر الوطني، وحركة عدم الانحياز؛ فتحولت إلى قضية دولية تمثلت في العديد من الأبحاث والدراسات.
كانت بريطانيا، وفيما بعد أمريكا، حاميتا حمى الأنظمة التابعة في المنطقة العربية، وبالأخص النفطية، وصفقة القرن مؤشر أن مهمة الحماية أُوكلت لإسرائيل، والصراع بين دول المنطقة يهيئ لخلق مناخ للتوجه الجديد.
الإمبراطورية الأمريكية في لحظة تراجع، والأنظمة التابعة ضعيفة وهشة، وشعوبها رافضة لنهجها، ورياح الربيع العربية واعدة وعاتية، وتبدو إسرائيل القوة البديلة والوحيدة الموكل إليها حماية المصالح الاستعمارية في المنطقة العربية، كما أن تدويخ المنطقة بالحروب والصراعات البينية هي الأسلوب الأمثل للقبول بتسيُّد إسرائيل، وإذكاء الصراعات الطائفية السنية- الشيعية، وتهديم الكيانات القومية، وتفكيك قواها، وتمزيق النسيج المجتمعي- يصب في المخطط المعد والمرسوم.
أدرك اليسار باكراً الترابط الجدلي والعميق بين الرجعية، وبين الاستعمار والصهيونية العالمية، ولكنه راهن على القوة والقوة وحدها، وقلل، أو بالأحرى، غيَّبَ الحريات العامة والديمقراطية، وحلت القوة محل الإرادة العامة للجماهير، وأصاب اليسار قدر غير يسير من الغرور .
منذ ما بعد 48، وتحديداً منذ الثورة المصرية 52، أصبحت القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى- القضية المركزية، وتأسست أحزاب قومية دفاعاً عنها، وقامت انقلابات عسكرية في غير قطر عربي يتصدر بيانها الأول “تحرير فلسطين”.
حرب 6 أكتوبر 1973، أعادت الاعتبار للجيوش العربية، وبالأخص المصري والسوري، التي ألحقت الهزيمة بالجيش الإسرائيلي بمستوى معين، وكشفت زيف أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر
هزيمة 67 قلبت المعادلة. صحيح أن الزعيم العربي جمال عبدالناصر رفع شعار اللاءات الثلاث، وتماسك الموقف العربي الرسمي تبنياً لموقف مصر، وبرزت اتجاهات إيجابية كرد على الهزيمة، مثل تحرر الجنوب، وانكسار الحصار عن صنعاء، وبروز منظمة التحرير الفلسطينية، وتبنيها الكفاح المسلح، لكن في الوقت نفسه، أطلت الاتجاهات الإسلاموية برأسها.
حرب 6 أكتوبر 1973، أعادت الاعتبار للجيوش العربية، وبالأخص المصري والسوري، التي ألحقت الهزيمة بالجيش الإسرائيلي بمستوى معين، وكشفت زيف أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
اليمين المصري بزعامة السادات حَوَّلَ الانتصار العسكري- بعد أن فرمله- إلى هزيمة سياسية؛ فقد ألغى إرادة المقاومة، ووضع 90% من الأوراق بيد أمريكا بعد أن زار إسرائيل في 1977، ووقع اتفاقيات كامب ديفيد 1978، وكانت الاتفاقية خطيرة في مسار الكفاح القومي، والتخلي عن أولوية قضية فلسطين.
الأنظمة التابعة أفادت- أيَّما إفادة- من الهزيمة، وبدأت تتصدر المشهد، أما الأنظمة القومية فغرقت في الفساد والاستبداد، وفرضت القمع السافر ضد شعوبها، وأخمدت الإرادة الشعبية، وصادرت الحريات العامة والديمقراطية، ومارست التمييز بمختلف صوره وأشكاله، وبالأخص ضد الأقليات، وجنحت للعسكرة أكثر فأكثر بذريعة مواجهة إسرائيل.
في كل المراحل كانت الحرب ضد إسرائيل متكأً وذريعة لادخار القوة العسكرية ضد الشعوب العربية، أما التيارات الإسلاموية؛ فقد كانت منذ ثلاثينيات القرن الماضي تُهيَّأ كبديل للحركات القومية واليسارية، وزاد الرهان عليها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؛ لمواجهة التيار القومي اليساري، وبعد هزيمة 67 أصبحت العصا الغليظة بيد الأنظمة العربية.
حرب الأفغان عمقت التحالفات بين هذه القوى، وبين أمريكا وأوروبا، وعندما هبت رياح ثورة الربيع في المنطقة، كانت التيارات الإسلاموية بمختلف تلوناتها واتجاهاتها هي القوة المنظمة والجاهزة للقفز إلى الواجهة.
في الانتفاضة الأولى في فلسطين 1987، لم تكن هذه التيارات مشاركة بقوة، وكان حضور منظمة التحرير لا يزال فاعلاً وحياً، أما في الانتفاضة الثانية 2000، وبسبب الانجرار للعسكرة؛ دخلت حماس على الخط.
في مواجهة الربيع العربي قفز الإسلامويون إلى الصدارة، وبدؤوا في إقصاء الشباب والشابات المستقلين الذين فجروا الربيع العربي، وعقدوا تحالفات مع العسكر والقوى التقليدية للاستقواء بالحكم كما حصل في مصر واليمن، وفي مناطق أخرى حولوا الاحتجاجات السلمية إلى مواجهات عسكرية كحالة سوريا، وليبيا، وإلى حَدٍّ ما اليمن أيضاً.
وفي أواخر العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تجري تحولات عميقة في بنية النظام الكوني، ويطال التغيير الدول الاستعمارية: أوروبا، وأمريكا؛ فالوحدة الأوروبية وأمريكا يتراجعان تحت وطأة وباء كورونا، والأزمات الاقتصادية تتفاقم، ويعجز اليمين العنصري في إسرائيل عن التوافق على ضم بقايا الضفة وغور الأردن والجولان، حسب خطة نتنياهو، وتتصارع الدول الخليجية الداعمة للحرب في غير بلد عربي، ويتضاءل دورها لصالح إيران، وتركيا -اللاعبين الأساسيين.
تحرير فلسطين- الشعار الرئيس الذي رفعته الحركة القومية منتصف القرن العشرين، وتحققه يصبح إمكانية واقعية في ظل أزمة اليمين الفاشي العنصري الإسرائيلي، والاحتجاجات الشاملة ضد العنصرية في أمريكا وأوروبا؛ فالعنصرية هي النهج الاستعماري المؤسس والداعم للكيان الإسرائيلي.
جذور الانتفاضتين الفلسطينيتين ما تزال جذوتها مشتعلة، وهناك ترابط قوي بين القوى العربية التابعة، وبين الاستعمار والصهيونية؛ وصفقة القرن إحدى تجليات هذا الترابط، ورياح الربيع العربي هي الوعد الآتي والبديل.