"هل تعلمون أن النفط العربي لم يغِب عن تأجيل ميلاد التعددية القطبية، الذي لم تنجُ منه إسرائيل" - بشير حسن الزريقي
_____________________________________
قد يبدو هذا العنوان (الطوفان الفلسطيني والنظام العالمي متعدد القطبية) مرتبكًا أو غير منطقي، وأنه مركب بصورة مفتعلة لا صلة فيما بين جزئي أو فقرتَي العنوان، على أنني أجده العنوان الأكثر صدقية وواقعية، والأكثر وضوحًا –رغم ضبابية الرؤية العامة عند البعض– في قراءة المشهد السياسي والعسكري الإقليمي والدولي. وسأحاول في هذه القراءة العجولة أن أقترب من فقرتَي العنوان، محاولًا تقديم مقاربة قرائية عامة للعنوان، في محاولة لتفكيك وربط المفردتين بعضهما من بعض، والاقتراب من معطياتهما الجارية على الأرض قدر ما أستطيع إلى ذلك من القراءة، التي قد تفتح أمامنا أسئلة عديدة حول الصلة بين القضية الفلسطينية، والتحولات الإقليمية والعالمية الراهنة، باتجاه صياغة وصناعة عالم جديد متعدد القطبية.
في كتابات سابقة خلال الأشهر الثمانية المنصرمة، كنت قد أشرت –وغيري كثير– إلى أنّ ما قبل السابع من أكتوبر 2023، ليس كما بعده، وأنّ هذا الطوفان الفلسطيني- غزة، قد يفتح بل وفتح أمام العالم، وأمام القضية الفلسطينية آفاقًا رحبة واسعة وجديدة، رفع معها صوت القضية الفلسطينية إلى مستوى الصدارة العالمية، بعد أن كانت السردية الصهيونية/ الأمريكية تجاهد لإهالة التراب على القضية الفلسطينية وبالتعاون والتنسيق المباشر وغير المباشر مع النظام السياسي العربي المتصهين. ومن هنا الحقد السياسي، والخطاب الإعلامي المضادّ والنقيض للقضية الفلسطينية في صورتها المقاومة، خاصة من بعد "كامب ديفيد".
الأمين العام للأمم المتحدة هو الصوت الأممي القوي، في الدفاع عن الحق الفلسطيني أكثر من صوت الجامعة العربية، ومن أغلبية النظام العربي الرسمي، وهو الذي وقف ليقول إنّ ما حدث في السابع من أكتوبر 2023، هو حصيلة تراكمات سياسية وعسكرية تمتد إلى أكثر من خمسين عامًا.
استماتة للمساواة بين الضحية والجلاد
من يتابع بعض القنوات العربية الخليجية وغيرها، سيرى ويسمع كيف تشتغل، وبوتيرة سياسية وإعلامية عالية، لتحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وفي أحسن الأحوال المساواة بين دولة الكيان الصهيوني، ودور المقاومة في إنتاج حرب الإبادة الجماعية، وهي محاولات سياسية وإعلامية تصطف في اتجاه ضرب وتصفية تيار المقاومة الفلسطينية، وهو الجاري حتى اللحظة وبصورة أكبر من بعد انتفاضة السابع من أكتوبر 2023.
وكان صوت الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، هو الصوت الأممي القوي، في الدفاع عن الحق الفلسطيني أكثر من صوت الجامعة العربية، ومن أغلبية النظام العربي الرسمي، وهو الذي وقف ليقول في حمى الهجوم السياسي والإعلامي.
إنّ ما حدث في السابع من أكتوبر 2023، هو حصيلة تراكمات سياسية وعسكرية تمتد إلى أكثر من خمسين عامًا، من الاحتلال والحصار والاستيطان والقهر للشعب الفلسطيني، وهو الذي سعى لتفعيل المادة رقم (٩٩) لدعم الموقف الفلسطيني ضد عدوان الكيان الصهيوني، ومع ذلك استمر الشغل السياسي والإعلامي مترافقًا مع حرب الإبادة في تسويق الرواية الصهيونية، حتى كان صوب الطلاب والشباب العالمي في صورة احتجاجات الجامعات الأمريكية والأوروبية، التي جاءت لتؤكد مصداقية وواقعية الانتصار لعدالة القضية الفلسطينية، والضرورة السياسية والقانونية والإنسانية لذلك الحق في الحرية، وفي تقرير المصير للشعب الوحيد الواقع تحت الاحتلال وتحت وطأة نظام فصل عنصري لا مثيل له في التاريخ.
تظاهرات واحتجاجات جماهيرية عالمية لشعوب العالم الرأسمالي، وطلائعه الشبابية/ الطلابية ليس للمطالبة بالحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني، بل وللمطالبة ضمنًا وفعليًّا بالدعوة لضرورة ميلاد نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب. ومن عنف وشراسة ووحشية مواجهة وقمع الاحتجاجات الطلابية العالمية المناصِرة للقضية الفلسطينية، نرى ونقرأ بداية إعلان لأفول الرواية الصهيو- أمريكية، في صورة إدانة ورفض حرب الإبادة ضد شعب أعزل، تتحالف ضده وبقوة كلُّ أنظمة وقوى الرأسمالية العالمية في بعدها السياسي والاقتصادي المتوحش، دول عظمى تقف علنًا وصراحة داعمة، بل ومشاركة في حرب إبادة جماعية، وفي دعم دولة الاستيطان في كل المحافل السياسية والدبلوماسية الدولية.
حرب عالمية متعددة الأسماء والأدوات
إنّ ما يجري حقيقة هي حرب عالمية أو بدايات لحرب عالمية متعددة الأسماء والأدوات على فلسطين/ غزة، حرب بدأت نكبتها الأولى قبل خمسة وسبعين عامًا، وما تزال متواصلة في صورة حرب الإبادة الجماعية المستمرة على مدار الساعة واليوم. حربٌ من البر والجو والبحر، وتشارك فيها طائرات تجسس أمريكية وبريطانية محلقة على مدار اليوم فوق الأرض الفلسطينية، والدليل الحي "مجزرة النصيرات" على منطقة سكنية مكتظة بالسكان لإنقاذ أربعة رهائن صهاينة، كان ضحيتها قَتْل أكثر من (270 شهيدًا) وأكثر من ست مئة جريح، وتدمير لمربعات سكنية كاملة، جريمة ومجزرة استخدمت فيها "الميناء العائم" الذي وُجد اسميًّا لخدمة الأغراض الإنسانية ليتحول إلى أداة في تنفيذ الجريمة/ المجزرة فضلًا عن خلية عسكرية أمنية أمريكية شاركت في صناعة "مجزرة النصيرات". إنها بالفعل حرب عالمية على غزة/ فلسطين، وجدت فيها المحاكم القضائية العالمية نفسها رغم الضغوطات والتهديد بالعقوبات الأمريكية مجبرةً على الانصياع للقانون الدولي، ولأحكام القضاء العالمي، وإصدارها أحكامًا قضائية عادلة –نسبيًّا– تؤكد أن هناك إبادة في غزة، وكذلك إصدار محكمة الجنايات الدولية أحكامًا وقرارات باعتقال بعض قادة الكيان الصهيوني تحت طائلة ارتكاب جرائم حرب إبادة ضد شعب أعزل ومحتل، كل جريمته أنه يطالب بحقه في الحرية والاستقلال في زمن هيمنة القطب الواحد على العالم. العالم الذي بدأت بعض الفصائل والقوى فيه تتحرك باتجاه استبداله ولتغييره، بنظام عالمي جديد يستوعب مصالح الشعوب والدول قاطبة، وليس صفوة الدول، التي بإمكانها إلغاء إرادة ومصالح كل شعوب ودول العالم بجرة كلمة وموقف اسمه "الفيتو".
إنّ أكبر عقبة أمام حل عادل للقضية الفلسطينية هو استمرار الهيمنة الأمريكية/ الأوروبية على النظام العالمي أحادي القطبية، وهو الذي يقف ليس ضدَّا في مواجهة حل عادل للقضية الفلسطينية فحسب، بل وضدَّ كل القضايا العادلة والإنسانية في العالم.
المطلوب عالم جديد متعدد الأقطاب
كلكم ما يزال يتذكر كيف تقاطر وحج جميع رؤساء وعسكريي النظام الأحادي القطبية إلى دولة الكيان الصهيوني، معلنين في حجيجهم ذلك دعمهم اللامحدود بالمال والسلاح والكتائب العسكرية، فضلًا عن الشغل السياسي والإعلامي والدبلوماسي، مشرعين ومبررين جريمة حرب الإبادة ضد شعب محتل ومحاصر وأعزل، تقف معه كل القوانين الدولية، والشرائع السماوية في ضرورة نيله حقه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، الذي أصدرت حوله عشرات القرارات الدولية، وبقي "الفيتو الأمريكي" والانحياز الأوروبي حائلًا دون إنجاز ذلك الحق في تقرير المصير وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وذلك هو أحد أبعاد علاقة القضية الفلسطينية، بالهيمنة الإمبراطورية الاستعمارية على النظام الدولي أحادي القطبية، القائم- النظام المطلوب إزالته وتغييره ليفتح أمام العالم كله مرحلة نوعية جديدة في صورة عالم جديد، متعدد الأقطاب.
اليومَ، الأمين العام للأمم المتحدة، وكل منظمات وهيئات ومؤسسات الأمم المتحدة المختلفة: الإغاثية والإنسانية والحقوقية، والقانونية، هي من تقف علنًا مع الحق الفلسطيني في العدالة والإنصاف والحرية والحق في الحياة، وهي في تقديري دعوة ضمنية ومساهمة في اتجاه صناعة وميلاد نظام عالمي متعدد القطبية.
وفي مواجهة هذا التحرك وضده، تقف علنًا وصراحة كلُّ القوى الداعمة والمؤيدة لدولة الكيان الصهيوني، وإن كان قد بدأ نوعٌ من التحول الانتقالي في بنية هذا التحالف في صورة الاتحاد الأوروبي، وإعلان بعض دول أوروبية اعترافها بالدولة الفلسطينية.
كان لجنوب إفريقيا الدور الجريء والأكبر في تشجيعها على ذلك، خاصة بعد إصدار أكثر من قرار من محكمة العدل الدولية، يؤكد على حالة الإبادة الجماعية، وبعده إصدار قرار محكمة الجنايات الدولية، وما يزال العمل والحراك السياسي والدبلوماسي العالمي والقانوني مستمرًّا في هذا الاتجاه، وكلها خطوات ومحاولات هادئة لتعبيد الطريق أمام ميلاد نظام عالمي جديد، متعدد القطبية، وليس وضع دولة الكيان الصهيوني ضمن القائمة السوداء "قائمة العار" في الأمم المتحددة وانخفاض تصنيفها الائتماني العالمي، وسحب العديد من الجامعات والشركات والدول الشراكة التجارية والصناعية والتكنولوجية مع دولة الكيان الصهيوني سوى خطوات تقرّبنا أكثر فأكثر، ليس من فرض عزلة مطبقة على دولة الكيان العنصري الوحيدة الباقية في العالم، بل وتقربنا من تأكيد الضرورة التاريخية والإنسانية لميلاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يفتح الطريق أمام علاقات دولية أكثر عدالة وإنسانية، وهو ما تقف ضده أمريكا وبعض دول أوروبا، وإلا كيف نفسّر ونفهم أن أعضاء الكونجرس يصدرون عقوبات غير قانونية على قضاة محاكم دولية، ويهدّدونهم علنًا بالمزيد من الضغوطات والعقوبات؟! ولا تفسير لكل ذلك سوى أنهم استشعروا خطر بدايات أفول النظام العالمي أحادي القطبية؛ النظام الذي يسيطرون عليه ويتحكمون به ضدًّا على الإرادة العالمية للإصلاح والتغيير في بنية الأمم المتحدة التي فقدت الكثير من دورها وقوتها ووظيفتها السياسية والقانونية بفعل هيمنة نظام الأحادية القطبية، وليس وقوف (١٤٨ دولة) مؤيدة ومعترفة بدولة فلسطين ومعارضة لأمريكا وحلفائها الخلص.
لذلك، الاعتراف بالنقض بالفتيو الأمريكي، ليس سوى إدراكٍ منهم أن توسع الإجماع الدولي العالمي بالاعتراف بدولة فلسطين دولةً مستقلة كاملة السيادة هو بداية ضعف وزوال نظام القطبية الأحادية الذي ما تزال الدول الاستعمارية القديمة/ الجديدة تصر على الحفاظ عليه والتمسك به ضدًّا على إرادة المجتمع الدولي بالإصلاح والتغيير في بنية مؤسسة الأمم المتحدة، حتى بعد قرارات القضاء الدولي (محكمة العدل الدولية والجنايات الدولية)، ما تزال أمريكا وقلة قليلة من دول أوروبا تقول إنّه ليس هناك ما يدل على أنّ هناك حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
نظام القطبية الأحادي الذي يفرض استمراره بقوة الحديد والنار والعقوبات على الشعوب والدول، هو الذي نجد أبعاده في الحرب الأوكرانية ومحاولة استدامتها لاستنزاف روسيا الاتحادية عسكريًّا واقتصاديًّا وماليًّا، وهو كذلك ما نجد تفسيره في المناورات العسكرية الأمريكية/ اليابانية، ومع دول أوروبية أخرى على حدود المياه الإقليمية الصينية.
دفاع "بايدن" عن حرب الإبادة
إنّ حرب الإبادة الجماعية هي بالمنطق الأمريكي المعكوس، حربُ ردع للمقاومة، وما تزال دولة الكيان الصهيوني تدمر وتقتل ضمن نطاق ودائرة حرب الدفاع عن النفس! ولذلك ذهب "بايدن" إلى النهاية في الدفاع عن حرب الإبادة، وشرعنة حرب الإبادة في كونها دفاعًا عن النفس ضد شعب محتل!
الطلاب في جميع جامعات العالم يحملون عَلَم فلسطين، ويهتفون فلسطين حرة، والحرية للشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تضرب وتحاصر فيه بعض الدول العربية المحورية المظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني، بل وتمنع رفع العلم الفلسطيني، فضلًا عن استمرارها في توطيد علاقاتها من تحت الطاولة مع دولة الكيان الصهيوني، واعتبار نفسها ليس وسيطًا محايدًا بين الضحية والقاتل فحسب، بل ولا تساعد في وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، بعد أن خرقت دولة الكيان الصهيوني كل الاتفاقات والمعاهدات الثنائية في هذا الاتجاه!
إن نظام القطبية الأحادي الذي يفرض استمراره بقوة الحديد والنار والعقوبات على الشعوب والدول، هو الذي نجد أبعاده في الحرب الأوكرانية ومحاولة استدامتها لاستنزاف روسيا الاتحادية عسكريًّا واقتصاديًّا وماليًّا، وهو كذلك ما نجد تفسيره في المناورات العسكرية الأمريكية/ اليابانية ومع دول أوروبية أخرى على حدود المياه الإقليمية الصينية، عبر استخدام قضية "تايوان" ورقة في الصراع مع الصين لمنع تقدمها الاقتصادي والسياسي، وتوتير الأجواء على الحدود الصينية، وكل ذلك له صلة بقطع الطريق أمام تشكُّل نظام عالمي متعدد الأقطاب.
والأبعاد الثلاثة المشار إليها: فلسطين، الحرب الروسية/ الأوكرانية، الصين، لها مصلحة جدية بالدعوة والعمل المشترك لميلاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
قيام وانتصار النظام العالمي متعدد القطبية هو بداية إعلان نهاية الدور الوظيفي للكيان الصهيوني، وهو كذلك بداية التأسيس السياسي والواقعي لحل جذري عادل للقضية الفلسطينية، ومن هنا التهديد حتى بالحرب النووية لمنع ميلاده.
إن النظام الأحادي القطبية المستمر منذ ثلاثة عقود، ليس أكثر من محاولة استعمارية جديدة لفرض استمرار تخلف وتبعية العالم النامي/ الفقير للغرب الاستعماري، وفرض استلحاقه كطرف تابع في بنية النظام الرأسمالي العالمي، بفعل قانون "التطور اللامتكافئ"، أساس استمرار علاقة دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالنظام الرأسمالي العولمي الإمبريالي ضمن معادلة المركز والأطراف، وهو صراع وتناقض مرشح لأن يتعمق أكثر فأكثر وليس ظاهرة "بريكس" و"شنغهاي"، سوى تعبير عن صعود قوة "الشرق الجديد"، أو "الجنوب العالمي"، الذي تتعزز مكانته ويتقدم دوره، مع تراجع دور ومكانة الغرب الرأسمالي الاستعماري، وكلها مؤشرات لميلاد نظام عالمي جديد متعدد القطبية.
إنّ ظاهرة "بريكس" و"شنغهاي"، هي محاولات سياسية واقتصادية ومالية جدية للتحلل من هيمنة وقبضة النظام الرأسمالي "النيوليبرالي" المتوحش أحادي القطبية، محاولة للانفكاك من هيمنة صندوق النقد والبنك الدوليين، ومن وسطوة الدولار، الذي بدأت قبضته –نسبيًّا- تضعف وتتفكك ولو ببطء، تعبيرًا عن صراع وتناقض عالمي يطالب بميلاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب لن يطول ميلاده وزمن ظهوره، وإن كانت ولادته صعبة وقاسية، وهو أحد مداخل حل سياسي جذري وعادل للقضية الفلسطينية، بل وأحد أهم المداخل لحل عادل وإنساني لكل مشكلات وأزمات البشرية المعاصرة.
وطوفان الأقصى الفلسطيني هو أحد هذه الأبعاد الثلاثة، على طريق فلسطين حرة ومستقلة ودولة كاملة السيادة.