ليست القضية الفلسطينية أم القضايا العربية وحدها، بل أم القضايا الإنسانية في العالم، سيما القضايا التي لا تزال تكبر كلما تعرضت للتعسّف وتجزئة الحلول. حتى مع كونها بهذا الحجم العابر للهويات، فهي تفرض نفسها أيضاً كقضية سياسية في حجم عالمي يفوق التصور. ويفوق التصور لأن العالم في غفلة أو لا يريد أن ينظر إلى حجم اختلال ميزان العدالة عندما تكون على كفتيه فلسطين وإسرائيل. أما كيف تضخم حجم هذه القضية، فمعرفته باتت بسهولة كتابة اسم "فلسطين" في محرك البحث "جوجل"، والضغط على مفتاح "إنتر" في لوحة المفاتيح. غير أن قراءة محتوى تاريخ القضية الفلسطينية ليس بنفس السهولة، وكلما تعددت لغات البحث كان ذلك أفضل، وبالمثل، كلما ذهبنا في الزمن إلى الأقدم.
ونحن نقرأ في تاريخ فلسطين، ستظهر أمامنا كل تشوهات التاريخ منذ ما قبل الحروب الصليبية إلى مبدأ حل الدولتين: فلسطينية وإسرائيلية. لا بأس أن نفكّر هنا بالطريقة التي يُقرأ بها التاريخ من قبل قادة الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا...، ابتداءً بجو بايدن وبوريس جونسون وماكرون... إلى آخر القائمة الطويلة. لا بأس أيضاً، وربما يجب، أن نفكر بالطريقة التي يُقرأ بها التاريخ من قبل قادة العالم العربي والعالم الإسلامي، ابتداءً بمحمود عباس وخالد مشعل والملك عبدالله بن الحسين ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد وعبدالفتاح السيسي... إلى آخر القائمة، وهي ليست طويلة بالمناسبة للسبب الذي بات يعرفه القاصي والداني. غير أن موضوعنا هنا ليس الحكم بالانتخاب والحكم بالوراثة والاستحقاق الإلهي للحكم، رغم أن الأخير مبدأ أساسي بالنسبة لقادة إسرائيل المتعاقبين. أشار الأستاذ عبدالباري طاهر إلى ذلك في مقاله "فلسطين والانتفاضة المستمرة"، وهو موضوع حساس وجوهري إذا ما تمت إعادة قراءته على نحو أوسع من قبل الكتاب والمثقفين العرب، في ضوء الوضع الراهن لدولة إسرائيل.
تتأرجح فلسطين منذ انتهاء الاستعمار البريطاني في دائرة اختلال ميزان العدالة الدولية بسبب تأرجح ميزان القوى الدولية، وبسبب سياسات بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي...، لكن التأرجح صار اليوم أكثر اتساعاً ليشمل كل المنطقة العربية بامتدادها الإسلامي الذي تأتي في واجهته تركيا وإيران وماليزيا. ومع استمرار هذا الاختلال، تكبر القضية الفلسطينية مثل كرة ثلج وسط النار، والمناخ الوحيد الذي يمكن أن يذيبها هو مناخ العدالة والإنصاف. ما لم يتوفر هذا المناخ، سوف يصل التأرجح وعدم الاستقرار إلى عواصم أكثر الدول استقراراً.
باتت القضية الفلسطينية قضية خلافية داخل مؤسسات الحكم الأمريكية والأوروبية كلما كبرت كرة الثلج وسط النار، ولن نذهب بعيداً لاستحضار دليل على ذلك؛ فعندما كان دونالد ترامب يتهيأ لاستلام زمام قيادة أمريكا من سلفه باراك أوباما، أصدر مجلس الأمن القرار 2334، الذي اعتبر كل المستوطنات الإسرائيلية بعد العام 1967، غير قانونية. أياً كان سبب عدم اعتراض مندوب أمريكا أوباما في مجلس الأمن على القرار عند إصداره، إلا أن ذلك استفز ترامب، الذي اتخذ خلال إدارته قرار نقل سفارة واشنطن إلى القدس وفرض التطبيع مع إسرائيل عبر "اتفاق أبراهام".
شواهد تحيّز أمريكا ترامب لدولة إسرائيل لم تقتصر على قرار نقل السفارة إلى القدس، بل سبقه تغيير اسم الفصل الخاص بتقرير حقوق الإنسان السنوي لوزارة الخارجية، من "إسرائيل والأراضي المحتلة" إلى "إسرائيل والضفة الغربية وغزة". وفي أبريل/ نيسان 2021، قالت وزارة الخارجية الأمريكية إن إدارة الرئيس جو بايدن تعتبر الضفة الغربية "أرضاً محتلة"، بينما لم يكن هذا المصطلح مستخدماً في فترة رئاسة دونالد ترامب. حينها أشار المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس أن مصطلح "الاحتلال" كان مستخدماً في وزارة الخارجية "طيلة عقود"، قبل أن يتغير في عهد ترامب إلى "الضفة الغربية وغزة". لنتابع صراع المصطلحات هذا في مؤسسات الحكم الأمريكية، أو بالأصح بين إدارة ترامب وإدارة بايدن.
حتى مع ظهور إدانات السعودية والإمارات للقصف الإسرائيلي على غزة، خجولة، إلا أنها دلّت على أن تبعات ورطة التطبيع مع إسرائيل تعلن عن نفسها يوماً بعد آخر، وأن إسرائيل لن تتوقف عن طلب التنازلات العربية من أجل السلام، حتى على حدود 2020، و"اتفاق أبراهام".
إجمالاً لا يبدو هناك فرق ملموس لصالح القضية الفلسطينية في استخدام المسؤولين الأمريكيين مصطلح "إسرائيل والأراضي المحتلة" أو "إسرائيل والضفة الغربية وغزة"، لأن تصريحات بايدن المصرّة على اعتبار فلسطين محتلة، لم تغير شيئاً في إقراره لإسرائيل بحق الدفاع عن نفسها. وإلى ذلك، فلا يزال وزير خارجيته أنتوني بلينكن يستخدم مصطلح "إسرائيل والضفة والغربية وغزة" حتى الاثنين 17 مايو/ أيار 2021.
في كوبنهاجن، افتتح بلينكن حديثه في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الدنماركي جيب كوفود، بالإشارة إلى الأعمال التي جمعته سابقاً بمضيفه ضمن حلف الناتو، دون أن تفوته الإشارة أيضاً إلى أن مشاهدته لمسلسل "بورغن" مع زوجته أثناء الحجر المنزلي، حسّن مستواه في تعلّم اللغة الدنماركية. غير أن أول شيء قاله فيما يتعلق بزيارته للدانمارك، تركز على الأحداث الجارية في "إسرائيل والضفة الغربية وغزة". ما الذي قاله بلينكن؟ لم يختلف عمّا قاله بايدن: ندعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد صواريخ حماس، نأسف لسقوط قتلى وجرحى في هذه الأحداث... الكثير من الكلام يقال عبر المنصات الدبلوماسية منذ تفجر "انتفاضة القدس" مطلع مايو/ أيار 2021، لكن الأحداث على الأرض تزداد سوءاً.
دعونا نتوقف قليلاً عند هذا المؤتمر الصحفي في كوبنهاجن، بما في ذلك بعض المواقف التي لا تخلو من الطرافة. قال كوفود أثناء حديثه التقديمي للمؤتمر الصحفي ولضيفه: "لقد افتقدنا أمريكا"، وجّه العبارة لبلينكن وليس للجمهور، واستأنف حديثه عن الموقف الدانماركي- الأمريكي المتسق بشأن فلسطين وإسرائيل وقضايا أخرى. وحين جاء دور بلينكن في الحديث التقديمي أيضاً بدأ بشكر الحكومة الدانماركية لمساعدته في التعافي من (كوفيد19)، وحاول مغازلتها بإظهار حرصه على تعلّم اللغة الدنماركية قبل أن يطلب موقفها الداعم لجهود إدارة بايدن في حلّ الدولتين. توقف بلينكن عن المغازلة بعد أن أخفق في نطق كلمة "طبيب" بالدانماركية، والتي قال إنها إحدى الكلمات التي التقطها من مسلسل "بورغن". بالأحرى توقف بعد أن ضحك الصحفيون من طريقة نطقه للكلمة بعد أن قال له كوفود: لا أعرف ما هذه الكلمة! بعد ذلك دخل بلينكن في صلب الهدف من زيارته للدنمارك، وهو نفس الهدف الذي تنطوي عليه جولته الدبلوماسية بعد كوبنهاجن؛ دعم رؤية بايدن لإيقاف العنف في "إسرائيل والضفة والغربية وغزة". وعلى الأرجح لن يغامر بلينكن في نطق كلمات روسية وعربية لمغازلة روسيا ووضع مصر والسعودية والإمارات وقطر... أمام المهمة الصعبة؛ الضغط باتجاه وقف انطلاق الصواريخ من غزة إلى مدن إسرائيل.
معلوم أن العنف يقود إلى العنف، وأن كل كيان له حق الدفاع عن نفسه، لكن الإقرار الدولي بهذا الحق لا يشمل الجانب الفلسطيني. هذا الإقرار سبق أن حضر بصيغة أو بأخرى في تصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، خلال السنوات الماضية، لكنه لم يحضر في كلمتي فيصل بن فرحان ووزيرة الخارجية الإماراتية، في الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي الأحد 16 مايو/ أيار 2021. حتى مع ظهور إدانات السعودية والإمارات للقصف الإسرائيلي على غزة، خجولة، إلا أنها دلّت على أن تبعات ورطة التطبيع مع إسرائيل تعلن عن نفسها يوماً بعد آخر، وأن إسرائيل لن تتوقف عن طلب التنازلات العربية من أجل السلام، حتى على حدود 2020، و"اتفاق أبراهام". لذلك ربما ورد ذكر حدود 67، في كلمتي وزيري خارجية البلدين.
الآن، تحاول الولايات المتحدة بقيادة الديمقراطي جو بايدن ترميم ما يوصف بالخراب الذي خلفته إدارة ترامب في ملف السلام العربي الإسرائيلي، غير أن ما تقوله تصريحات بايدن وبلينكن، هو أن أمريكا تحاول العودة بالملف إلى ما قبل العام 2017 فقط، دون أن تأخذ بالاعتبار أن إدارة ترامب لم تحدث الخراب بقدر ما أوصلت الصراع العربي الإسرائيلي إلى موقع أكثر وضوحاً ونضجاً. من الواضح اليوم كيف ينظر عقلاء السياسيين في أمريكا، كالسناتور ساندرز وغيره، إلى خطورة الطور القادم الذي يمكن أن ينتقل إليه الصراع في حال استمر إمعان إسرائيل في انتهاك حقوق الفلسطينيين. ذلك أن موجة الكراهية التي بدأت بها أحداث حي الشيخ جراح في القدس، سرعان ما امتدت إلى مدن إسرائيلية أخرى على شكل استنهاض الهوية العرقية: عرب ويهود. كرة الثلج توشك على أن تتحول إلى كرة فولاذية مشتعلة لن تطفئها ملايين الليترات المكعبة من الدم. الشعوب العربية في ذروة استيائها وبعضهم اندفعوا إلى حدود فلسطين متطوعين للتظاهر أو للقتال، رغماً عن التزام حكوماتهم الصمت أو "سياسة ضبط النفس" التي صارت سياسة سيئة ذكر وتكتسب كل خصائص التواطؤ أو ضبابية الرؤية في أحسن الأحوال. كرة اللهب الفولاذية نفسها وصلت إلى شوارع لندن ومعظم دول أوروبا، ليس فقط بين الجاليات العربية واليهودية، بل بين أنصارهما من فئات سكان أوروبا الأخرى. هل يمكن القول إن قضايا المظلومين في الأرض بدأت طور التوحّد بصورة عملية ومتسارعة؟ هكذا يمكن للميزان أن يتوقف عن التأرجح، لكن من الذي يقود الدفة!