يقف الغرب الاستعماري مع إسرائيل منذ نشأتها لتوطينها كاحتلال غير شرعي على أرض فلسطين وفق استراتيجيتين معمول بهما في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ الأولى في حال القوة، وتتمثل في "احتلال إسرائيلي كامل لفلسطين" على امتداد جغرافية تبلغ مساحتها 27 ألف كيلو متر مربع، واجتزاء أراضٍ أخرى مجاورة من الدول العربية كالجولان السورية، ومزارع شبعا اللبنانية، وجزء من صحراء سيناء المصرية، وضفاف نهر الأردن ووادي عربة، في تجاوز فاضح للقانون الدولي والمعاهدات الدولية.
وما المضي فيما يسمى بصفقة القرن الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير السكان إلى صحراء سيناء كوطن بديل، والتطبيع مع الدول العربية كلها بدون استثناء، إلا تعبيرٌ عن هذه الاستراتيجية.
والاستراتيجية الثانية، في حال ضعف دولة الاحتلال، وتتمثل بـ"احتلال المناصفة" كحل الدولتين، وتم تمريرها عبر اتفاقية أوسلو عام 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، التي صبت كل بنودها لصالح إسرائيل وتكريسها كاحتلال قائم على شرعية دولية واعتراف صاحب الحق به لكسب مزيد من التملك الجائر، ومع ذلك لم تلتزم بها إسرائيل حتى اليوم لشعورها بالقوة التي ما زالت تناور بها دوليًّا وإقليميًّا، مما أتاح لها حرية السعي المستمر لتنفيذ استراتيجيتها الأولى باحتلال كامل لفلسطين عن طريق الاستيطان دون رقيب أو حسيب عليها وعن مجازرها وانتهاكاتها المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني الذي يناضل هذا الاحتلال الغربي منذ 75 عامًا.
لقد استطاع الغرب انتزاع هذه الاتفاقية بلا مقابل إلا من فتات مالي تدفعه إسرائيل ودول الغرب للسلطة الفلسطينية التي وقّعت معه هذه الاتفاقية، كي تظل تحت ضغطه لفرض المزيد من التنازلات وإفراغ القضية الفلسطينية من مضامينها الأخلاقية والسياسية هذه المرة، وإضعافها لمستويات وفق خطوات احتلالية مدروسة ومرسومة مسبقًا.
وتأتي أهمية اتفاقية أوسلو "نكسة التفاوض سيئة الذكر" كسلاح دولي استطاع الغرب إقناع المجتمع الدولي بها كحل مشترك لا فكاك منه وغير قابل للتفاوض عليه كي يتم استخدامه كخط عودة حين تضعف إسرائيل وتنهزم ويتهدد وجودها، بحكم محيطها المعادي، سيلجأ الغرب لفرض حل الدولتين كي يُبقوا على استمرار إسرائيل والحفاظ على مشروع استعماري مستدام في المنطقة الملتهبة.
بمقابل الاستراتيجيتين الغربيتين المساندتين للاحتلال الإسرائيلي، نجد المحيط العربي بلا وجهة نظر موحدة له أو رؤية ممنهجة للانتصار لقضيتهم الكبرى.
وقوف دول الغرب، وفي المقدمة أمريكا والدول الأوروبية الكبيرة، كشف مجددًا الغطاء الاستعماري الذي تم التستر عليه لعقود، المتمثل بمشروع تقاسم إرث الإمبراطورية العثمانية بين دول الاستعمار الأوروبي التقليدي، وراعية الاستعمار الحديث أمريكا.
لا نتنكر أنّ للعرب مبادرات وتصورات لحل القضية الفلسطينية، حتى مبادرة السلام العربية التي قدموها لقمة بيروت في 2002 لحل الصراع، لكنها أيضًا مبادرة تتماشى مع استراتيجية الغرب الثانية في حل الدولتين، على اختلاف بسيط في تفاصيلها، فالعرب لم يقدموا بعد حلًّا جذريًّا وموقفًا واضحًا وعمليًّا لرفض الاحتلال من أساسه على أرضهم العربية، وليس لديهم استعداد كامل لفرضه بالحوار أو القوة؛ ولذلك استحكم التيه السياسي على تصوراتهم؛ فلا هم دعموا فلسطين بدولة كاملة، ولا هم يستطيعون فرض حل الدولتين.
عمد الغرب الاستعماري إلى تيئيس العرب من قضيتهم وتعقيد حلها وإطالة أمد صراعها، مما جعلهم يتمسكون بالاستراتيجية الثانية (حل الدولتين) بغباء شديد في تصريحاتهم وفي كل جولة صراع تنشب بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وهدفهم من ترديد خطاب حل الدولتين، تخدير شعوبهم التواقة لنصرة فلسطين وتحريرها، وهروبًا من المسؤولية الأخلاقية تجاه القضية، وكي يظهروا للعالم الغربي بسياسة مرنة وتفاوض سلمي، لعلّ ذلك يتحقق لهم بلا حرب عسكرية وكلفتها الكبيرة عليهم، ولم يدركوا بعد أن هذه الاستراتيجية بالتحديد، أتى بها الغرب كحل وهمي لتمييع القضية تحت شعارات براقة، تفضحها في كل مرة النزعة العنصرية والتوحش الدموي لدولة الاحتلال، التي تلقى دعمها المفتوح من حكومات الغرب العنصري الاستعماري التي تتخفى وراء قشرة زائفة عنوانها التحضر والديمقراطية.
الشعوب العربية بكل ضعفها اليوم، لا تزال تمتلك من الأوراق الاستراتيجية ما يجعلها قادرة على الانتصار للقضية الفلسطينية، وسبق أن استخدم العرب ورقة استراتيجية قبل خمسين عامًا (في حرب أكتوبر 1973)، وهي ورقة المقاطعة الاقتصادية، وقطع إمدادات النفط على أمريكا ودول غربية أخرى مساندة لإسرائيل، وكان لها مفعول سحري، وبدأ الغرب بإعادة إدارة حساباته للمعركة مع العرب حينما شعر بحاجته الاقتصادية للعرب، وتبقى المشكلة لدى العرب هي عدم استخدام هذه الأوراق وفق استراتيجيات مدروسة، وبلا فعل سياسي فاعل ومتفاعل، نظرًا لنشوب الخلافات المستمرة، والشعور بالانهزامية، وسهولة اختراق الغرب للعقلية العربية السياسية وتوجيهها، بالإضافة إلى عوامل أخرى كانعدام الديمقراطية والتناول السلمي للسلطة، وغياب المؤسسات، وانعدام الثقة، وفقدان القائد العروبي القوي المقتدر على لملمة الخلافات وتوحيد الرؤى السياسية وتوجيه مكامن القوة العربية ككتلة صلبة قادرة على إحداث تأثير في المسرح العالمي.
وما استهتار الغرب مع قضية العرب الأولى، إلا تطبيق فعلي لكلا الاستراتيجيتين لديهم، ونجد ذلك واضحًا من خلال بياناتهم وتصريحاتهم المعلنة في حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بكل الوسائل، ويؤكّدون في ثنايا ذلك دعمهم لحل الدولتين، فيما العرب يستجدون حل القضية من الغرب، مع أنّ الحل العادل للقضية سيتحقق من خلالهم إذا واجهوا الغرب باستراتيجية جامعة مبنية على وحدة الصف وقوة الذات وصدق الإيمان بقضيتهم العادلة.
ولهذا، نرى التداعي الغربي لدعم إسرائيل بعد معركة طوفان الأقصى التي بدأت فجر السابع من أكتوبر، بهجوم مباغت لعناصر حركة المقاومة الفلسطينية حماس، في تحول عسكري تأريخي كسر هيبة الكيان الإسرائيلي، لتغير المقاومة من استراتيجية حربها العسكرية مع إسرائيل من الدفاع المعتاد إلى الهجوم المباغت، مستندة على منظور تأريخي "اليوم نغزوهم ولا يغزونا".
وبعيدًا عن الخوض في ردة الفعل الإسرائيلية المتوقعة وتبعاتها وحسابات تكلفتها على سكان قطاع غزة، نجد أنّ وقوف دول الغرب، وفي المقدمة أمريكا والدول الأوروبية الكبيرة، كشف مجددًا الغطاء الاستعماري الذي تم التستر عليه لعقود، المتمثل بمشروع تقاسم إرث الإمبراطورية العثمانية بين دول الاستعمار الأوروبي التقليدي، وراعية الاستعمار الحديث أمريكا.
في الماضي، جرى اتفاق سري بين الدول الاستعمارية في الغرب لمنع نهوض أي قوة منافسة لهم ولحضارتهم، قادمة من الشرق المتوسط، بعد توصلهم لقناعة مطلقة أن العدو الحقيقي الذي يهددهم، هو قيام أي "مشروع حضاري بخلفية تاريخية وثقافية ودينية" في حال استقر العرب واستفاقوا من غفلتهم، سيشكلون خطرًا على حضارتهم، خاصة بعد حقبة الاستعمار الغربي، وما جَنَوهُ من ثروات طائلة ما زالت تصلهم إلى اليوم، وما خلفته تلك الحقبة أيضًا من كراهية ضدهم يخشون انبعاثها في وجوههم في أي لحظة ومن أي مكان وفي أي زمان. وبعد أن عاثوا في الأرض العربية فسادًا بتقسيمها وتجزئتها بسياسة "تقسيم المجزأ"، ابتكروا لها سياسة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" لضمان الهيمنة والتبعية.
وأتوا بمؤسس الصهيونية العالمية "تيودور هرتزل" لبدء مشروعه الذي تعاهد الجميع لدعمه والوقوف إلى جانبه مهما كان الثمن، وأنّ مشروع دولة إسرائيل اليهودية ليس إلا جزءًا من كيانهم الوجودي ونزعتهم الاستعمارية الآبدة.
وحين تواجه إسرائيل خطرًا وجوديًّا كدولة احتلال، يهرولون إليها، بل ويحاربون عنها، تحت مبررات حماية مواطنيها مزدوجي الجنسية الذين أتوا بهم من بلدانهم الغربية لتجميع شعبٍ لدولة طارئة بادعاءات تاريخية زائفة تخفي وراءها مشاريع الغرب الحقيقية.
منذ بدء المواجهة الأخيرة في غزة، لم ترقَ المعارك الفلسطينية السابقة إلى ما يهدد إسرائيل وجوديًّا كالمعركة هذه؛ لأنها زلزلت فعلًا كيانها وأفقدتها التوازن كدولة يمكنها الدفاع بمفردها عن نفسها، فتدخل الغرب بكل ثقله جالبًا قوته وعتاده معه، منعًا لسقوط المشروع الذي استنبته على الأرض الفلسطينية، وزودوه بالقوة العسكرية الضاربة والسلاح النووي الوحيد بالمنطقة والعقول التكنولوجية وشعارات الديمقراطية.
إسرائيل كدولة احتلال تعرف جيدًا أنها إلى زوال، ويقول ذلك صراحة مسؤولون إسرائيليون سابقون، وتريد حكوماتها العنصرية المتعاقبة تأخير زوالها وسقوطها قدر الممكن، من خلال إشغال الشعوب المجاورة.
حين شعر رئيس حكومة الكيان الصهيوني بالخطر المحدق، أبلغ حكام الغرب: تعالوا دافعوا عن مشروعكم، نحن نتعرض لخطر حقيقي. وممّا يؤكّد ذلك، هو تصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة كدليل قاطع لمشروع الغرب ما وراء إسرائيل، حين قال: "إن لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها حفاظًا وحماية لمصالحنا"، وتصريحات أخرى كثيرة لقادة الدول الغربية.
والسؤال: ما هي مصالح أمريكا والغرب في منطقة الشرق الأوسط، وكل دول المنطقة ترعى مصالحها أكثر من إسرائيل نفسها وتعين حكامها كما تريد؟ وليس من إجابة واضحة غير أنّ هناك مشروعها الخفي، هو مشروع ما وراء إسرائيل ووجودها في المنطقة كحارسة بوابة من أي انبثاق حضاري وتقدمي للأمة العربية قادم من هذه المنطقة التي خاض الغرب معها أشرس معاركه التاريخية التي لم ينسَ وقعها عليه ومدى قوتها وتهديدها له ولحضارته، وأمريكا بطبيعة الحال استلمت الدور كجيش دفاع أول عن إسرائيل من بريطانيا مؤسِّسة إسرائيل ومانحة حق التملك بأرض فلسطين دون وجه حق.
إسرائيل كدولة احتلال تعرف جيدًا أنها إلى زوال، ويقول ذلك صراحة مسؤولون إسرائيليون سابقون، وتريد حكوماتها العنصرية المتعاقبة تأخير زوالها وسقوطها قدر الممكن من خلال إشغال الشعوب المجاورة لها بالاحتراب والأزمات الداخلية لأطول وقت ممكن، وهذا ما يساعدها على بقائها كقوة احتلال غاشمة في محيط مضطرب.
ختامًا:
كم سيحتاج العرب من وقت متشظٍّ، ومن خلافات بينية، ومعارك جانبية، وهزائم متتالية ليدركوا خطر المشروع الغربي على وجودهم الحضاري، وما هي استراتيجيتهم القادمة للتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية الأولى لهم بعد كل المستجدات الأخيرة؟