عقب تشكيل مجلس الحرب الإسرائيلي، وإعلان إسرائيل شنّ عملية عسكرية في غزة، إثر هجوم الفصائل الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، في أكتوبر المنصرم، ذهبت أغلب المُقارَبات الدولية للبحث عن إجابات لأسئلة اليوم التالي للحرب، لجهة إسرائيل وحُلفائها وداعميها الغربيين، وأُشبعت تلك الأسئلة بأبعادها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والإدارية والديموغرافية والبنيوية والهيكلية والدعائية، بحثًا ونقاشًا وكتابةً ومحاججة، حيث تُمثّل تلك الاشتغالات الجادّة، إحدى أشكال الاستجابة الفعّالة، لمسائل الأمن القومي من منظورٍ إسرائيليّ وغربيّ، كما تمثّل إحدى نقاط التفوق على أطراف القضية الفلسطينية والمناصرين لها.
في المقابل، ومن باب أولى، يتوجب على الفلسطينيين، ومعهم كل أنصار الحقوق المشروعة للفلسطينيين، العملُ دون تأجيل، على أسئلة اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة- فلسطينيًّا، كأولوية مُلِحّة، بهدف رسم ملامح خارطة طريق لمرحلة جديدة من الكفاح من أجل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن ماهية نتائج الحرب الحالية المُباشِرة، وبرغم ضغط الفظاعات التي ترتكبها إسرائيل، وضغط معاناة الفلسطينيين الرهيبة، عوضًا عن ترك فراغات استراتيجية خطيرة تملَؤُها إسرائيل وحلفاؤها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
ومن أجل التوصل إلى إجابات دقيقة على أسئلة اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة- فلسطينيًّا، وإنجاز تصورات استراتيجية للقضية الفلسطينية، وتحديث أطر وآليات الكفاح الفلسطيني، يتوجب إجراء مراجعات منهجية مُعمقة لمضامين ووقائع ومحطات ومرجعيات القضية الفلسطينية، من صكّ الانتداب، ووعد بلفور، وإعلان قيام دولة إسرائيل، والنكبة، والقرارات الدولية الخاصة بحل الدولتين وحدود 67، واتفاق واي بلانتيشن، واتفاقية كامب ديفيد، والانتفاضة الفلسطينية بكل جولاتها، وحصيلة الكفاح الفلسطيني المسلح، وحصاد الكفاح الدبلوماسي والسياسي، واتفاق أوسلو، ومسار السلام، واللجنة الرباعية، وخارطة الطريق، والمبادرة العربية، وروابط القضية الفلسطينية وتفاعلاتها بعمقها الاستراتيجي العربي، وصفقة القرن، والتطبيع، وصولًا إلى عملية طوفان الأقصى بكل تداعياتها وأبعادها ونتائجها.
وأبعد من كل ذلك، هناك حاجة مُلِحّة إلى المبادرة الجسورة لمراجعات منهجية مُعمّقة لكل الإشكالات الذاتية الفلسطينية، والعربية، وعلى رأسها مسائلُ الانقسام الفلسطيني، والتباينات بشأن أُطر القضية الفلسطينية ومرجعياتها وآليات كفاحها، ووضع السلطة الفلسطينية وأجهزتها ومؤسساتها وآلياتها، ووضع منظمة التحرير الفلسطينية، ووضع الفصائل والمكونات الفلسطينية.
الاشتغال على إنجاز تلك العمليات التي لا تحتمل المزيد من التأجيل إلى مرحلة لاحقة من مراحل الكفاح من أجل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، كمسائل ذات أولوية قصوى، يمكن بإنجازها نقلُ القضية الفلسطينية إلى مستويات مُتقدمة غير مسبوقة تُزيل بكفاءة، الترابَ المُهال على قضايا الصراع الأساسية المنسية أو المُتجاهَلة.
ولإنجاز تلك المُراجعات التأسيسية الواجبة، هناك حاجة لتصميم مسار مشاورات تمهيدية جادّة ومسؤولة تُفضي إلى عقد مؤتمر وطني فلسطيني، يتكفل بإنجاز إعادة بناء تصورات حوكمة الدولة الفلسطينية المنشودة، وتصورات هُوية النظام السياسي والاقتصادي للدولة الفلسطينية، ودستور الدولة وعقدها الاجتماعي، وخارطة الدولة وحدودها، ومضامين إعلان قيام الدولة، ذات السيادة والمستقلة، مع تصورات القوانين والتشريعات الوطنية، وتصورات وضع القوات المسلحة، وهيكلة المؤسسات الأمنية، وتصورات وآليات دمج الفصائل وصهرها في هياكل وبُنى الدولة، وتصورات لإصلاح تحديث وتطوير مؤسسات وأجهزة الدولة، وقواعد وآليات إدارة التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، والآليات الديموقراطية، بما في ذلك الآليات الوطنية للانتخابات والاستفتاءات، وتصورات تدابير وضمانات حماية حقوق الإنسان وسيادة القانون وحرية التعبير والمواطنة المتساوية، وتصورات السياسة الخارجية، وتصورات السلطة التشريعية، والسلطة القضائية والعدلية، وآليات مكافحة الفساد، وآليات الكفاح الوطني الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال الوطني، ومُحدّداته ومرجعياته.
إنّ الاشتغال على إنجاز تلك العمليات التي لا تحتمل المزيد من التأجيل إلى مرحلة لاحقة من مراحل الكفاح من أجل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، كمسائل ذات أولوية قصوى، يمكن بإنجازها نقلُ القضية الفلسطينية إلى مستويات مُتقدمة غير مسبوقة تُزيل بكفاءة، الترابَ المُهال على قضايا الصراع الأساسية المنسية أو المُتجاهَلة، من قضية قيام الدولة الفلسطينية المُستقِلة وذات السيادة، إلى إنهاء الاحتلال، إلى حق العودة للاجئين والنازحين، إلى الاستيطـان، إلى الأَسرى والمُحتجَزين، إلى الـقدس، إلى المياه، إلى إعادة الإعمار، ووصولًا إلى المساءلة وجبر الضرر عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل وداعموها ضدّ الشعب الفلسطيني.
إنّ الوضع الدولي والإقليمي والعربي والفلسطيني الآن، يستدعي مبادرة فلسطينية جسورة لبناء أسس متينة لأُطر توافق القوى والمكونات الفلسطينية، كسبيل لتعزيز فرص القضية الفلسطينية ولعدم تفويتها وهدرها، ولردم الفجوات الهائلة التي يخلقها الانقسام الفلسطيني في طريق القضية، بوصفه ثاني خطر يتهدّدها بعد الاحتلال الإسرائيلي، وكسبيل لالتقاط الزخم الإنساني الواسع، المسانِد لحقوق الفلسطينيين، والبناء عليه، وتعضيد روابطه وصِلاته بالقضية الفلسطينية ليرافقها في مراحل كفاحها المستقبلية، وكسبيل وحيد للوفاء والإجلال لكلِّ الدماء الفلسطينية التي سالت، وكسبيل وحيد لخلق الأمل لأجيالٍ من الفلسطينيين ولمستقبلهم، ولكل أنصار حقوق الشعب الفلسطيني في العالم العربي، وفي مختلف المناطق حول العالم.