قضية فلسطين من أطول القضايا في القرن الواحد والعشرين، واحتلال شعبها يعتبر أطول احتلال استيطاني على وجه الأرض، ونظام الفصل العنصري (الأبارتيد) الذي يمثله الاحتلال الصهيوني، هو آخر نظام فصل عنصري في التاريخ.
خمسة ملايين من الفلسطينيين يعيشون خارج وطنهم، والنصف الآخر تحت نير الاحتلال ونظام الفصل العنصري، وقسم كبير منهم في الخيام مشردون من مدنهم وقراهم ولاجئون داخل وطنهم.
الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948 و1967، يمثل أبشع احتلال على وجه الأرض؛ فهو احتلال استيطاني يقوم وجوده على دعوى حق إلهي، ويطرد السكان الأصليين، ويجبرهم على هدم منازلهم أو يقوم هو بهدمها، وسنده الأساس، الاستعمار، وأمريكا، والمطبعين العرب.
لا شك في أن الانتفاضة الثالثة أو انتفاضة القدس- بغض النظر عن التسمية- توصيف صحيح؛ فطابع الاستمرارية، ومكانة القدس لدى الفلسطيني والعربي بعامة وفي الديانات الثلاث، حاضر.
اللافت أن تفجير الانتفاضات: الأولى 1987، والثانية 2000، كانت كلها رد فعل على اعتداء صهيوني أو مسّ بالمقدس، وفي كل الأحوال كان الهدف هو الخلاص من الاحتلال، وكلها كانت تعبيراً عن فشل التهويد وابتلاع فلسطين، وتعبيراً أيضًا عن فشل الحلول الاستسلامية في أوسلو ومدريد.
يرى المفكر الفلسطيني مصطفى البرغوثي– الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، في حوار أجرته معه «قناة الجزيرة» أن شباب القدس هم من أشعل الانتفاضة الثالثة، ويرى فيها تعبيرًا عن فشل مشاريع التسوية، ومشروع أوسلو، ونهج التفاوض، والمراهنة على حلّ الدولتين، ويرى، ومعه كل الحق، أن نتنياهو، والإدارة الأمريكية، والمطبعين العرب، هم من أعاق طريق التفاوض، ويرى أن أمريكا لا تفرض على إسرائيل وقف الاستيطان. ويرى المفكر السياسي الفلسطيني البرغوثي أيضًا، أن الانتفاضة رفضٌ للاحتلال وضد العنصرية ونظام الفصل العنصري، وأن الشعب يتجه للمقاومة رافضًا النهج التفاوضي، ويقول: إن السلطة تواجه أزمة من جانبين، الأول: فشل مشروع التسوية، والثاني: رفض الإسرائيليين للحلّ الوسط. ويمضي في القول إلى أن أوروبا تراهن على حلّ الدولتين، وهناك رهان على قبول الفلسطينيين حل الحكم الذاتي. ومن المعروف أنّ الأستاذ مصطفى البرغوثي معارض فلسطيني ناقد، ويمتلك رؤية واضحة.
الانتفاضة الثالثة أو المستمرة، تؤكد استحالة ابتلاع الشعب الفلسطيني، وفشل التهويد والاستيطان، وفي جانب آخر يشهد على مأزق القيادات الفلسطينية، سواء سلطة رام الله، أو حماس في غزة؛ فالسلطة العاجزة عن المقاومة، والمكبلة بقيود التنسيق الأمني، والمسكونة بأوهام الحلول السياسي المفروضة من هذا الطرف أو ذاك، لا تستطيع قيادة الكفاح الوطني، ولكنها تظل جزءًا أساسيًا من الموقف الوطني العام. وحماس وإن كانت تبدو الأوفر حظًا، إلا أن أيديولوجيتها المغلقة، وغياب أفقها الديمقراطي، وطبيعة تحالفاتها، تحد من قدرتها على قيادة المقاومة الوطنية لتحقيق الانتصار. للأسف، الطرفان الأساسيان: حماس والسلطة، غير مخلصَين لتحقيق مصالحة وطنية شاملة ترص صفوف الشعب الفلسطيني لمواجهة أطول وأسوأ احتلال استيطاني على وجه الأرض.
تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة هو الشرط الأول والأساس لدعم الانتفاضة (انتفاضة القدس)، وهي السبيل الوحيد لإجراء الانتخابات في القدس، رغم الرفض الإسرائيلي.
مواقف السلطة الفلسطينية وحماس تخص حساباتهما كطرفين حاكمين على حساب القضية، ولا ينظر كلاهما إلى الانتخابات كمقاومة وإنما ينظران إليها كسبيل لفرض سيطرتهما، والتنافس على التوسع والنفوذ
الانتفاضة هي الأرضية الأساس لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة والتي بدورها ستقوم بدعمها، والانخراط في مساندتها، ومدها إلى مختلف وعموم الأرض الفلسطينية.
المزاوجة بين أشكال المقاومة؛ بين انتفاضة الحجارة والمواجهة المسلحة، حق مشروع لشعب يرزح تحت نير الاحتلال، وكانت خطيئة المجلس الوطني الفلسطيني التنازل عن هذا الحق في مؤتمر الجزائر 1988.
الانتخابات مهمة، ولكن إجراءها بدون مصالحة وطنية شاملة يتضمن مخاطر، وتستطيع إسرائيل اللعب على الاختلاف، وتجربة الانتخابات السابقة ماثلة لا ينبغي تكرارها، ويمكن للانتفاضة العفوية والتلقائية المتفجرة أن تكون الأرضية المشتركة للتصالح والتوافق على تنويع أساليب المقاومة بين رام الله وغزة، وأن تتوحد الجهود الوطنية الداعمة كما حصل في الانتفاضة الأولى. فمدّ الانتفاضة إلى مختلف مناطق الضفة الغربية، ومواجهة الجيش الإسرائيلي في القطاع، والتشارك بين الضفة وغزة وانفتاحهما على بعضهما، والانفتاح الأهم على الشعب الذي يعاني ويلات احتلال استيطاني يمارس القمع والاضطهاد والتمييز العنصري، والإصرار على الانتخابات كحق وطني، والتوحد الوطني حولها، وممارستها كانتفاضة في مختلف مدن وقرى الضفة، وبالأخص في القدس، هي الشكل الأرقى للكفاح الوطني والمقاومة الشعبية، وهذا لن يتم إلا بتجاوز سلبيات إحباط القيادة الفلسطينية المخذولة المرتهنة للتنسيق الأمني، والمراهِنة على الحلول الاستسلامية. كما أن الانتفاضة هي جسر للتوحد الفلسطيني، وهي أيضًا الوسيلة المثلى لإسقاط اليمين الفاشي الصهيوني، واستنهاض روح الأخوة بين أبناء الشعب الفلسطيني في عموم فلسطين، وهي أيضًا الوسيلة شبه الوحيدة للتخاطب مع قوى السلام غير الصهيوني الرافضة لنهج الاحتلال وسياسة الفصل العنصري، ولإنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
معركة الانتخابات، وبالأخص في القدس، والانتفاضة الثالثة هما معركة واحدة لا ينبغي الفصل بينهما، والخضوع للفرض الإسرائيلي بتأجيل الانتخابات هو مصدر الخلل.
اليمين الفاشي الصهيوني يواجه أزمة بنيوية داخلية، وهو منقسم على نفسه، وزعيمه نتنياهو مدموغ بالفساد، وخطيئته أنه- شأن المطبعين الخليجيين- انحاز لليمين الفاشي الأمريكي بصورة فجّة. أما القادة الفلسطينيون، فالسلطة قد رهنت مصيرها باتفاقات أوسلو ومدريد؛ وهي اتفاقات تفرّط بالسيادة والاستقلال، وتتيح لإسرائيل الهيمنة على فلسطين 67، والاستمرار في الاستيطان، والسيادة على القدس والأجواء والمياه.
تحرص حماس على «كنتون غزة»، وكل طرف يهمه منطقة السيطرة والنفوذ، وفي الخطاب الأخير لأبي مازن، نراه يرهن إجراء الانتخابات بموافقة إسرائيل على إجراء الانتخابات في القدس، بدل أن تكون الانتخابات معركة وطنية شاملة كجزء أساس من الانتفاضة.
مواقف السلطة الفلسطينية وحماس تخص حساباتهما كطرفين حاكمين على حساب القضية، ولا ينظر كلا الطرفين في رام الله وغزة إلى الانتخابات كمقاومة شعبية لتحرير فلسطين، وفضح نهج الفصل العنصري القائم على إنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وإنما ينظر إليها الطرفان كسبيل لفرض سيطرتهما، ومواجهة بعضهما، والتنافس على التوسع والنفوذ واستعراض الشعبية.
الأولوية في فلسطين هي التحرير، وممارسة كل أشكال النضال، بما في ذلك المقاومة الشعبية: الانتفاضة، والانتخابات (الاشتباك). يجب أن تتوجه المقاومة إلى التحرير، وليس للتصارع الداخلي، أو خلق المعاذير لتأجيل الانتخابات.