اغتيال هنية والرد المزعوم

من الذي يضبط إيقاع المعادلة الإسرائيلية - الإيرانية؟
د. أحمد سنان
September 9, 2024

اغتيال هنية والرد المزعوم

من الذي يضبط إيقاع المعادلة الإسرائيلية - الإيرانية؟
د. أحمد سنان
September 9, 2024
رويترز

هل كان اغتيال إسماعيل هنية مسمارًا في صيرورة الحرب على غزة، سيجعل استمرارها عبئًا على النظام الغربي الداعم لها بدون شروط، أو أنه سيشكّل تنفيسًا للاحتقان الداخلي الإسرائيلي والإيراني على السواء؟

يعتقد البعض أنّ إيران معتلة داخليًّا، وأنها تعاني نزيفًا غير مسبوق في الشرعية الداخلية بسبب تراكم الأزمات البنيوية، خصوصًا الأزمة الاقتصادية منها، وأزمة الحريات العامة. وأن هذا النزيف يجعلها غير قادرة على تبرير الأسباب الكامنة وراء تلك الأزمات، مع أن الطبيعة الثيوقراطية للنظام تفسر جانبًا مهمًّا من تلك الأزمات، شأنها في ذلك شأن الأنظمة الثيوقراطية السابقة واللاحقة لها، التي تستمد من الشعار الديني أداةً سهلة لمجابهة متطلبات الحرية، على أن الحرية هنا ليست هي المقصودة بذاتها، بل المآلات التي يمكن أن تفضي إليها الحرية، ببعديها السياسي والثقافي. 

بينما فريقٌ آخر يرى أنّ المسألة ليست بذلك السوء، فالنظام الإيراني قادر على تجديد شرعيته باستمرار، ويضرب مثلًا السرعةَ والكيفية التي تعاملت بها القيادة الإيرانية مع فراغ السلطة الذي أحدثه الرحيل المأساوي للرئيس إبراهيم رئيسي، وذلك الانتقال السلس للسلطة من التيار المحافظ إلى التيار النقيض، بل وصعود شخصية مسعود بزشكيان، الذي لا ينتمي عِرقيًّا للقومية الفارسية بل إلى القومية الأذرية، وتعيينه نائبًا له من السنة هو عبدالكريم حسين زادة، وهذه المرة الأولى الذي يحدث فيها هذا الاختراق السياسي في إيران. هذا يعد من وجهة نظر هذا الفريق تطورًا نوعيًّا في الفهم الإيراني لمقتضيات الشراكة السياسية في إطار هذا المجتمع متعدّد الأعراق. وحتى عندما تجادل حول اقتصار تلك الشراكة على وجهين لعملة واحدة (الإصلاحيون والمحافظون)، تجد الردّ حاضرًا ولا يحتاج إلى عناء: نحن لا نختلف عن الولايات المتحدة التي يتحكم فيها (الحمار والفيل)، وهما وجهان لعملة واحدة أيضًا، يمثّلان المجمعين العسكري والمالي هناك، أو حتى بريطانيا العظمى التي يسيطر عليها المحافظون والليبراليون (حزب العمال)، ولا تكاد تلحظ فرقًا بينهما خاصة على المسرح الدولي. 

أغلب الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين كانت مرتبطة أساسًا بمشكلات الصراع البنيوي الداخلي، ويمكن ملاحظة ذلك من العلاقات السياسية المضطربة بين المكونات السياسية الصهيونية نفسها، وفيما بينها وبين المذاهب الدينية اليهودية الفاعلة.

ما لا يرغب به الغرب

وعلى الجانب الآخر من الرحى، تبرز إسرائيل مثقلة بمشكلات لا حصر لها، وحلها من الصعوبة بمكان، بحيث تعد الحروب استراتيجية فاعلة لتشتيت انتباه الجمهور عن التناقضات الداخلية العميقة المتأصلة في طبيعة التركيبة الدينية والعِرقية الغريبة للسكان، وتشير بعض المصادر التاريخية أنّ الدولة اليهودية بصرف النظر عن طبيعتها السياسية، غير قادرة على العيش بسلام، حتى لو كانت وحدها على ظهر البسيطة، ويضربون مثلًا، أنّ أطول فترة حياة لدولة إسرائيل كانت ستّة وثمانين عامًا قبل أن تنقسم على نفسها ثم تزول بعد ذلك. 

وإذا لاحظنا، فأغلب الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين كانت مرتبطة أساسًا بمشكلات الصراع البنيوي الداخلي. ويمكن ملاحظة ذلك من العلاقات السياسية المضطربة بين المكونات السياسية الصهيونية نفسها، وفيما بينها وبين المذاهب الدينية اليهودية الفاعلة. 

وهكذا، لا يمكن فصل ردّ الفعل الإسرائيلي ومعه الغربي على طوفان الأقصى، عن تفاعلات الوضع الداخلي للجانبين. فهزيمة إسرائيل ستعجل بانهيارها، وهو ما لا يرغب فيه الغرب؛ لأن ذلك سيفاقم المخاوف الغربية، من:

أولًا، فقدان نقطة ارتكاز هامة في الشرق الأوسط، خصوصًا أن الصراع العالمي يتركز في جوهره حول هذه المنطقة الحيوية، ليس فقط من حيث موقعها وتأثيرها على سير العمليات التاريخية والسياسية فحسب، بل وبما تكتنزه من موارد طاقة وموارد هيمنة وازنة. فالصراع العالمي، بعيدًا عن جملة الشعارات المرفوعة هنا وهناك، يتسم بطابع اقتصادي واستراتيجي شمولي، إضافة إلى أنه لا يخرج في محصلته النهائية عن صيغتين لصراع لا ثالث لهما: شمال- جنوب، شرق- غرب، وفي كلا الحالتين يشكل الشرق الأوسط قلب ذلك الصراع؛ لأن الغرب هو نفسه الشمال، الذي استعمر ونهب الجنوب، الذي هو نفسه الشرق. وثانيًا، سيكون على سكان إسرائيل العودة إلى دولهم الأصلية. وهذا بحد ذاته سوف يخلق أزمات عديدة لتلك الدول، تذكر بالأزمات التي أحدثها تواجد اليهود في أوروبا قبل طردهم منها منذ مطلع القرن الثالث عشر الميلادي.  

من هنا، يمكن النظر إلى الحرب على غزة باعتبارها اختبارًا حقيقيًّا للكيفية التي سيُدار بها الصراع الجيوسياسي المتشعب في المنطقة. فمن ناحية، لا يمكن للشعب الفلسطيني أن يتخلى عن خيار النضال المسلح لاستعادة أرضه وتقرير مصيره، خصوصًا بعد فشل مسار أوسلو؛ بسبب عدم التزام رعاته بالوفاء بتعهداتهم بإنشاء ودعم دولة فلسطينية قابلة للحياة، ومن ناحية ثانية لا يمكن تجنب تداخل فواعل الصراع والطموحات الإقليمية في المنطقة بين إيران وحلفائها من جهة، وبين إسرائيل والغرب وحلفائهما من جهة مقابلة، وتداخُل كل ذلك مع التطلعات الفلسطينية في ظل ضعف النظام العربي ونخبه وانكماشه على صراعاته البينية، ولا يمكن حتى تجنب تداخل التكتيكي والاستراتيجي في ظل جدلية الصراع العالمي الراهن.

إيران لديها هدف استراتيجي تسعى لبلوغه بكل السبل الممكنة، من المراوغة السياسية إلى التلويح بالقوة، ويكمن هذا الهدف في إعلان نفسها قوة تعديلية استراتيجية ونووية في المنطقة. ولا يمكن الحديث عن دولة تعديلية بدون قوة الردع النووي.

من المراوغة إلى التلويح بالقوة

جاءت عملية اغتيال إسماعيل هنية رئيس حركة حماس في طهران لتضاف إلى عوامل التصعيد الكثيرة في هذه الحرب. فالاتهامات تنهال على إيران بأنها تستغل حرب غزة وتستخدم حلفاءها لتحقيق أغراض معينة، وهذا صحيح بالطبع، فمن الغباء تصور إقدام دولة، مهما كانت هذه الدولة، على دعم هذا أو ذاك من الأطراف محبةً وعطفًا، بل تفعل ذلك لتحقيق أهداف معينة سياسية أو اقتصادية أو إقليمية أو غير ذلك. وهذه مسألة طبيعية تسلكها جميع الدول لبلوغ أهدافها، ويمكن أن تكون الحرب في أوكرانيا نموذجًا جيدًا للتدليل على ما نذهب إليه. 

معلوم للجميع أن إيران لديها هدف استراتيجي تسعى لبلوغه بكل السبل الممكنة، من المراوغة السياسية إلى التلويح بالقوة. يكمن هذا الهدف في إعلان نفسها قوة تعديلية استراتيجية ونووية في المنطقة. ولا يمكن الحديث عن دولة تعديلية بدون قوة الردع النووي، وهذا مفهوم لجميع القوى في المنطقة. 

في هذا المضمار، تعدّ كوريا الشمالية مثلًا يحتذى به، فلا يهم ما يمكن أن يطلقه الغرب من أوصاف، ولا تهم طبيعة التكتيكات التي يمكن اتباعها لبلوغ الهدف المنشود. وحتى لو اعتبر البعض أن القضية الفلسطينية جزءٌ من تلك التكتيكات، فقول المرشد الإيراني إنهم مع الشعب الفلسطيني، هو جزء من ذلك التكتيك، فإن خامنئي قد ذهب إلى ما هو أبعد، بما في ذلك التعامل مع "العدو"، حيث قال: "هذا لا يعني أننا لا نستطيع التفاعل مع العدو في مواقف معينة، لا ضرر في ذلك". يقول أنصار الموقف الإيراني أن خطابها متقدم بما لا يقاس على الموقف العربي، فلم يقل أي نظام عربي إنه إلى جانب الفلسطينيين، ولم يطلق حتى رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل، ولو من باب إسقاط الواجب. ويقولون إن آخر من أطلق السلاح العربي باتجاه إسرائيل كان "عِراق صدّام". وقد نفت إسرائيل أن يكون ذلك القصف العراقي قد ألحق بها أي أذى، ولكن المعلومات التي رفعت عنها السرية مؤخرًا، تقول غير ذلك.

كثيرٌ منا في اللحظة الراهنة يذهب بانشغاله نحو ما إذا كانت إيران ستردّ على اغتيال هنية أم لا؛ لأن اغتياله على أرضها يعتبر تعدّيًا على سيادتها كما يقولون، وإذا كانت ستردّ، فمتى سيكون ردها؟ هذا التساؤل لا يخلو طبعًا من المناكفة الفارغة التي تفتقد النضج. بينما الغرب منشغل جماعيًّا ليس بالرد الإيراني، بل بالكيفية التي سترد بها إيران ومن أي نقطة، وما طبيعة الأهداف المستهدفة.

إيران ليست الدولة الوحيدة التي تقوم إسرائيل باغتيال قائد فلسطيني على أرضها. فإسرائيل تتعقب الفلسطينيين وكل من لا يروقها، بمن في ذلك العلماء والمثقفون في كل مكان؛ من غسان كنفاني عام 1972 في بيروت، إلى محمود بودية في باريس، وزيد مقصي في أثينا عام 1973، وماجد أبو شرار في روما عام 1981، وخليل الوزير عام 1988، وصلاح خلف في تونس 1991، مرورًا باغتيال القائد في كتائب عز الدين القسام، ومحمود المبحوح في دبي في يناير 2010. هذه مجرد نماذج، ولم يتحدث أحد عن سيادة هذه الدول، وبينها دول عظمى، وأخرى تدّعي العظمة. 

الانتظار المشوب بالتوتر الذي يعيشه الغرب بانتظار الردّ الإيراني، لا يقل عنه توتر الداخل الإسرائيلي، وكل دقيقة لها ثمنها، هذا الانتظار هناك من يراه جزءًا من الرد النفسي المكلف، فالمنهج النفسي جزء أساسي في السياسة الدولية المعاصرة.

المزيد من الضغط على الخصوم

الانتظار المشوب بالتوتر الذي يعيشه الغرب بانتظار الردّ الإيراني الذي طال أمده، لا يقل عنه توتر الداخل الإسرائيلي، وكل دقيقة لها ثمنها، كما يقول الإعلام الإسرائيلي نفسه، هذا الانتظار هناك من يراه جزءًا من الردّ النفسي المكلف؛ فالمنهج النفسي جزءٌ أساسي في السياسة الدولية المعاصرة، فبعد أن كان مقتصرًا على التحليل السياسي، صار أداةً فعالة في الممارسة السياسية، فالمزيد من الضغط النفسي على الخصوم يعطي فرصة مناسبة لمراقبة تطور سلوكه، وكلما زاد الضغط زاد توتر وقلق الخصم، ومن ثم يبقيه في دوامة الاستنزاف ويفقد السيطرة على آلية اتخاذ القرار، وتبعًا لذلك تزداد فرص اتخاذ القرارات المتهورة والخاطئة. 

ولكن إيران نفسها تعيش نفس المشكلة الناجمة عن جملة الخيارات المطروحة أمامها للتصرف في هذه المعضلة. تكمن أهم الأسئلة التي يجب أن تناقشها إيران في ماهية التداعيات الداخلية والخارجية اللاحقة لكل خياراتها، وما التفضيلات والأولويات بالنسبة لتلك الخيارات، وماذا لو تحول الأمر إلى حرب إقليمية مفتوحة، ومن هم الحلفاء المحتملون في وضع كهذا.

مثل هذه الأسئلة لا تثار غربيًّا، ولا حتى إسرائيليًّا؛ لأنّها محسومة سلفًا. ولكن الأسئلة التي تشغل الغرب هي: متى؟ وكيف؟ وما حجم الرد الإيراني المتوقع، إن كان هناك ردٌّ فعلًا؟

وقد وضع المحللون الخبراء سيناريوهات عديدة للرد الإيراني. وليس هناك شك في أن الغرب سيهبّ دفاعًا عن إسرائيل، وقد حسمت كلٌّ من إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة أمر مشاركتها في ذلك. وبحسب موقع الجزيرة، أكّد المخطِّط السابق لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وضابط المخابرات العسكرية البريطانية السابق فيليب إنغرام، أنّ الدول الأوروبية لن تكون الوحيدة المستعدة للمساعدة في الدفاع عن إسرائيل ضد أي هجوم مباشر من إيران وحلفائها، وإنما هناك بعض الدول في الشرق الأوسط أيضًا. ولا يخفي المسؤولون الغربيون موقف القواعد الفرنسية والبريطانية والأمريكية في المنطقة من هذه المسألة، ولا هدف المهمة الرئيسية (لعملية أسبيدس) في البحر الأحمر، المتمثل بتقديم الحماية الدفاعية ضد الصواريخ العابرة لأجواء المنطقة. ووفقًا لإنغرام، لو هُوجمت إسرائيل من إيران، فإن شبكات الاستخبارات الغربية ستلتقط العملية بسرعة كبيرة، وسيكون ردّها سريعًا.

بين حجرَي الرحى الجبّارين وإمكاناتهما، ينطحن الشعب الفلسطيني. هذه الحالة تشي بفقدان النظم والحركات السياسية العربية نهائيًّا زمامَ المبادرة في القضية الفلسطينية، لصالح إيران. وحتى لو كانت العملية شعاراتية كما يقول بعضهم، فإنها قد أحدثت فجوة بين النظم والنخب العربية والفلسطينيين، اعترفنا بذلك أم لا. ومهما كانت علاقة العرب بالغرب، ومهما بلغت الموارد العربية التي تغذّي الوجود الغربي، فإنها لن تغير من الأمر شيئًا. 

لكن يبقى التساؤل مشروعًا: هل سيغير اغتيال (هنية) المعادلةَ الإيرانية الإسرائيلية؟ وهل الرد الإيراني المزعوم مرهون بإيقاف الحرب، أم لكلٍّ منهما مساره الخاص؟

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English