"نستقبل رمضان بعادات وطقوس مميزة، ابتداءً بتنظيف المنازل وتزيينها بالإضاءات والفوانيس والأضواء، مرورًا بالتسوق وشراء متطلبات المائدة والحلويات، فيما كانت تجمعات ولمّات العائلة وزيارة الأقارب والأصدقاء وإقامة الصلوات بالمساجد، من أجمل الأوقات الحميمية والروحانية لنا وللأسر الفلسطينية عمومًا"؛ من خيمة صغيرة في مدينة رفح (جنوبي قطاع غزة)، تتذكر السيدة الفلسطينية آية علاء الدين، الأجواءَ الاحتفالية التي اعتادت أن تعيشها في رمضانات الأعوام السابقة، التي سلبها منها هذا العام العدوانُ الغاشم والمتواصل لكيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.
روحانية تتخضب بالأسى
تقول علاء الدين إنّها فقدت عددًا من أقاربها في العدوان الأخير على غزة، ما اضطرّها وأسرتها إلى النزوح من منزلهم المدمَّر في حي الشيخ رضوان (شمالي مدينة غزة) إلى رفح، ليحل عليهم رمضان هذا العام في المخيم وهم يكابدون معاناة حربٍ وحشية (إسرائيلية)، نسفت كلَّ ما له علاقة بالحياة والطقوس التي من شأنها بثّ البهجة والسعادة في نفوس الناس.
وتضيف علاء الدين، في حديث لـ"خيوط": "وضعُنا في النزوح يشبه وضع السجناء، فخيمتنا التي لا يتجاوز طولها 4 أمتار، تكتظ بـ11 فردًا، يجدون صعوبة بالغة في تأمين وجبات السحور والإفطار؛ نتيجة لانعدام الأغذية، وارتفاع أسعار كل ما تبقَّى من منتجات في القطاع، بشكل جنوني وغير معقول، يفوق قدرتنا على شرائها". وتتابع علاء الدين حديثها: "نفتقر لوجود المياه، والكهرباء، والمستشفيات، ولأبسط الخدمات الأساسية، نحن نعيش معاناة متفاقمة وشاملة في كل مناحي الحياة، تفوق قدرة المرء على التحمل، ويصعب علينا في ظلّها الحديث عن أيّ مظاهر رمضانية".
"نشعر بمرارة الفقد والغربة بعد غياب الوجوه والأشخاص الذين شاركونا رمضان الماضي وليسوا معنا الآن، فقدنا من أقاربي وأقارب زوجي (بيت الحمضيات) 22 شخصًا، وبالمثل فقدنا الكثير من الأصدقاء والزملاء والأحباب؛ بعضهم استُشهد، وبعضهم بقيَ في الشمال، وآخرون لا نعرف عنهم شيئًا، لقد عمّ الفقد كل شيء، ولا نعلم إن كنّا سننجو من الاستهداف والقصف أم أنّ دورنا لم يحِن بعد!"؛ تنهي علاء الدين حديثها.
منذ بَدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بلغ عدد ضحايا المجازر الوحشية للاحتلال من المدنيين، أكثرَ من 31 ألفًا و341 شهيدًا، بحسب وزارة الصحة في غزة.
حصار وتجويع
بالإضافة إلى ارتكابه المئات من المجازر بحق المدنيين، عمد جيشُ الاحتلال الإسرائيلي من خلال قصفه الجوي وعملياته البرية وما رافقهما من انتهاجه لسياسة الأرض المحروقة واستهدافه لكل مقومات الحياة، إلى تقسيم القطاع -الذي تبلغ مساحته 365 كيلو مترًا مربعًا، ويسكنه قرابة (2,2) مليون نسمة- إلى قسمين؛ شمالي وجنوبي، مُجبِرًا غالبية سكان الشمال على مغادرة منازلهم والنزوح إلى مدينة رفح التي لا تتعدى مساحتها 64 كيلو مترًا مربعًا، وتضم اليوم قرابة (1,3) مليون نازح، إضافة إلى نحو 250 ألف شخص من سكانها الأصليين. فيما من تبقى من سكان الشمال في مناطقهم -وتقدّر أعدادهم بنحو 700 ألف نسمة- يُطبق عليهم الاحتلال حلقة أخرى من الحصار، تضاف إلى الحصار الانتقامي للحرب الذي يشمل القطاع كله، والحصار العنصري الذي يسبقه منذ أكثر من 17 عامًا، ويمثّل بالنسبة لدولة الكيان ومن يدعمها، إجراءً طبيعيًّا تنتهجه وقت السلم، وفي الظروف الطبيعية!
"الوضع في شمال غزة كارثي بكل معنى الكلمة، ولا يمكن وصفه أو إيجازه أو مقارنته بأي حرب سابقة، لدرجة أنّ أسواق مدينة غزة -مثل سوقَي الشيخ رضوان ومخيم الشاطئ، اللذين كانا ينبضان بالحياة وازدحام المتسوقين والباعة ابتهاجًا بشهر رمضان- باتت مغلقة ومدمرة بالكامل، والناس الذين كانوا يتسابقون على المشاركة والتطوع في إقامة (موائد الرحمن) بوصفها عادة رمضانية يحافظ عليها المجتمع الفلسطيني منذ القدم، اضطر الكثير منهم إلى تناول علف الحيوانات وأشجار الصبار والأعشاب، فضلًا عن كون الأطفال يموتون أمام أعين آبائهم نتيجة المجاعة والجفاف"؛ يقول عماد زقوت، صحفي فلسطيني وأحد السكان الذين ما زالوا موجودين في شمال غزة، في حديث لـ"خيوط".
ويتابع زقوت: "يستخدم كيان الاحتلال تجويع المدنيين سلاحًا غير أخلاقي لتحقيق أهدافه في عدوانه الإجرامي ضد المدنيين في غزة -الشمال بشكل خاص- ونوعًا من سياسة العقاب الجماعي، لدفعنا نحو إخلاء مناطقنا ومنازلنا المدمرة أصلًا، والنزوح إلى رفح، تمهيدًا لتهجيرنا من أرضنا وبلدنا التي وُلدنا فيها، إلى خارج القطاع".
إبادة جماعية
التصرفات الوحشية التي اقترفتها (إسرائيل) خلال فترة الحرب، سواء بشقها الجنائي المتسم بارتكاب المجازر والقتل والانتهاكات المتعددة بحق المدنيين بمختلف فئاتهم من أطفال ونساء وكبار سن وأسرى وعاملين في المجالات الطبية والإنسانية، أو تلك التي تتعلق باستخدام التجويع كورقة لتحقيق ما عجزت عنه في الحرب، دفعت المنظمات الإنسانية والحقوقية والكثير من الحكومات والرأي العام الدولي، إلى النظر لتلك التصرفات بأنها جريمة "إبادة جماعية" تمارس بحق الشعب الفلسطيني، وهو توصيف يتفق مع مفهوم الإبادة، وتدعمه تصريحات قادة ومسؤولي حكومة وجيش الكيان، التي تصدرت وسائل الإعلام خلال فترة الحرب، إذ حملت هذه التصريحات تعابير عنصرية وصفت الفلسطينيين بالـ"حيوانات" الذين يجب إطباق الحصار عليهم، والتخلص منهم، وهو ما أفضى بمحكمة العدل الدولية في قرارها الصادر يوم 26 يناير/ كانون الثاني 2024، إلى أمر قادة "إسرائيل" باتخاذ مجموعة من التدابير التي تمنع تلك الإبادة.
منحَت المحكمةُ "إسرائيل" شهرًا كاملًا لتطبيق تلك التدابير التي من ضمنها: السماح بتدفق المساعدات لكافة مناطق قطاع غزة، إلّا أنّ سلطات الاحتلال أخفقت وتقاعست عن إنجاز ذلك؛ حسب منظمة العفو الدولية، التي أشارت في تقرير لها إلى أنه "في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت صدور أمر المحكمة، انخفضَ عددُ الشاحنات التي تدخل غزّة بنحو الثلث، من متوسط 146 شاحنة إلى متوسط 105 شاحنات يوميًّا، فيما كان عدد الشاحنات التي تدخل القطاع قبل الحرب، يتجاوز الـ500 شاحنة يوميًّا".
فتحت قواتُ الاحتلال النارَ على المدنيين أثناء تجمهرهم للحصول على مواد غذائية من شحنات المساعدة في دوار النابلسي (غرب مدينة غزة)، في الـ29 من شهر فبراير/ شباط الماضي، ذهب ضحية لهذا الاعتداء 114 شخصًا، وأصيب قرابة 800 آخرين، ليختلط الدم مع بقايا الطحين، في مشهد تراجيدي دموي إجرامي سيظل وصمة عار على القرن الواحد والعشرين!
مجزرة الطحين
ووفقًا لتقارير صادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل لاجئي فلسطين "الأونروا"، وغيرها من الوكالات الأممية ومنظمات الإغاثة المتخصصة بالشؤون الإنسانية، فإن واقع المجاعة في تزايد مستمر في مناطق شمال غزة التي عزلتها "إسرائيل" عن بقية مناطق القطاع، رافضة الطلبات المقدمة من العاملين الإنسانيين لدخوله، وتحرمه من كل أشكال المساعدات الإغاثية والضرورية.
يستطرد الزقوت حديثه قائلًا: "بعد قرابة أربعة أشهر من منع دخول المساعدات إلى الشمال، سمح الاحتلال بوصول بعض الشاحنات التي تم توزيعها بشكل عشوائي لإثارة الفتنة بين المواطنين، قبل أن يقوم بقصفهم واستهدافهم بشكل مُريع، في مجزرة مروعة بات يطلق عليها (مجزرة الطحين)، التي عاد منها من عاد من أهلنا الجائعين، محمولين على الأكتاف أو مخضبين بدمائهم، دون أن يحصلوا على الخبز".
الجدير بالذكر أنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي، كانت قد فتحت النار على المدنيين أثناء تجمهرهم للحصول على موادٍّ غذائية من شحنات المساعدة في دوار النابلسي غرب مدينة غزة، في الـ29 من شهر فبراير/ شباط الماضي، ذهب ضحية لهذا الاعتداء 114 شخصًا وأصيب قرابة 800 آخرين، ليختلط الدم مع بقايا الطحين، في مشهد تراجيدي دمويّ إجراميّ سيظل وصمة عار على القرن الواحد والعشرين!
حينها خرج وزير الأمن القومي لكيان الاحتلال الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، ليؤكّد دعم جنوده الذين تصرفوا بشكل ممتاز أمام جمع الغزيين الذين حاولوا المس بهم، حد تعبيره. وتتالت مجازر الطحين واستهداف طالبي المساعدات، لتحصد منذ بَدء العدوان وحتى فجر يوم الأربعاء الموافق 20 من شهر مارس الجاري، الموافق 10 من شهر رمضان، أرواحَ ما يزيد على 137 شهيدًا والمئات من الجرحى والمصابين.
اللعب على التناقضات
وحول طبيعة وجدوى الاستفادة من المساعدات التي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول إنزالها لسكان الشمال، يوضح الصحفي الفلسطيني، زقوت: "آلية الإنزال الجوي سوْءَتها وسيئاتها أكبر بكثير من الفائدة المرجوّة منها، ولم تسعف السكان بما يحتاجون من مساعدات، حيث إنّ معظمها تُلقى في البحر بطريقة غير آدمية وفيها إذلال وامتهان للكرامة الإنسانية للمواطن الفلسطيني، وتتعرض للتلف، وما يصل منها معظمُه لا يحتوي على سلع غذائية أساسية، وإنما كماليات كحفاظات الأطفال والأحذية، في حين أنّ الأولوية هي للسلع الغذائية الأساسية، فضلًا عن ضررها بوقوعها على رؤوس المواطنين، حيث استُشهد عددٌ منهم جراء ذلك".
مبادرة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى بإلقاء كميات من المساعدات جوًّا، أو عبر إنشاء رصيف بحري، تأتي في الوقت الذي تستمر فيه بتزويد إسرائيل بأسلحة تستخدمها الأخيرة في ارتكاب جرائم مروعة بحق الفلسطينيين، الأمر الذي أدانته 25 منظمة دولية عاملة في قطاع غزة في بيان لها في 13 مارس/ آذار، ودفع هذا التناقضُ المقرِّرَ الأممي الخاص المعنيّ بالحق في الغذاء، مايكل فخري، إلى التعليق بالقول: "إذن، إنها القنابل الأمريكية، والمساعدات الأمريكية، تسقط في نفس الوقت".
من المعيب والمخجل أن تصطف شاحنات المساعدات على الجانب المصري من المعبر حتى سماح الاحتلال لها بالعبور، في حين يموت الناس جوعًا وقصفًا داخل القطاع، فإذا لم يكن المستوى الرسمي العربي قادرًا على إيقاف هذا العدوان، فأقل جهد يمكن أن يبذله هو التحرك الإنساني عبر إدخال المساعدات والإغاثة اللازمة.
مسؤولية ومناشدة
من جهته، تحدث مسؤول الإعلام الحكومي في قطاع غزة، سلامة معروف، لـ"خيوط"، قائلًا: "الطريقة الوحيدة لتقديم الإغاثة لشعبنا واضحة؛ متمثّلة في فتح المعابر البرية، وما يُقدَّم من صيغ غير هذه الصيغة، هو مجرد محاولات من قبل المجتمع الدولي لذرّ الرماد على العيون، والتنصّل من مسؤوليته الأخلاقية والقانونية والإنسانية بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة المحاصر ووقف العدوان عليه".
وحمّل معروف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة والمساندة للكيان مسؤوليةَ استمرار جرائم الإبادة والتجويع التي ترتكبها إسرائيل بحق أهالي غزة، مشيرًا إلى أنّ الموقف الأمريكي هو موقف مساند ومتواطِئ بشكل كامل مع الاحتلال، وهو شريك أساسي للعدوان على الفلسطينيين منذ اللحظة الأولى، سواء من خلال الدعم العسكري غير المحدود أو الإسناد بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الذي أفشل عددًا من مشاريع وقف إطلاق النار.
وناشد معروف الجانبَ المصري بالمبادرة بفتح معبر رفح، كونه معبرًا فلسطينيًّا-مصريًّا خالصًا، مضيفًا: "من المعيب والمخجل بحق الأمة العربية أن تصطف شاحنات المساعدات على الجانب المصري من المعبر حتى سماح الاحتلال لها بالعبور، في حين يموت الناس جوعًا وقصفًا داخل القطاع، فإذا لم يكن المستوى الرسمي العربي قادرًا على إيقاف هذا العدوان على شعبنا، فأقل جهد يمكن أن يبذله هو التحرك الإنساني عبر إدخال المساعدات والإغاثة اللازمة التي نحن في أمس الحاجة لها".
رغم كارثية الوضع الإنساني الذي يعيشه سكان قطاع غزة بفعل العدوان الهمجي، الإجرامي، المتواصل لكيان الاحتلال، فإنّ الفلسطينيين تمسّكوا قدر الإمكان باستقبال الشهر الكريم بفرحة وابتهاج، على أمل الخلاص من الظروف القاسية، حيث تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، الكثيرَ من الصور والمقاطع التي كُتب عليها عبارات ترحب بالمناسبة الدينية المقدسة عند المسلمين، كعبارات: "رغم الحرب والدمار، رمضان كريم"، "لن يسرقوا منا رمضان"، "الفرحة من بين الجراح"، فيما أقام الناس صلاة التراويح من بين ركام المساجد التي دمّرتها إسرائيل، في مشاهد تعكس علاقة الإنسان الفلسطيني الوثيقة والمتجذرة، بالأرض والسماء، بالحياة والمقاومة والتضحية والسلام.
