في قلب محافظة تعز اليمنية، حيث تتشابك أزقة المدينة الضيقة مع مجاري السيول وأكوام النفايات، تعيش فئة المهمشون حياةً تكاد تكون خارج دائرة الوجود الإنساني. بعيداً عن أعين المجتمع، يقطنون بجوار مكبات القمامة ومجاري المياه الملوثة في أحياء معزولة حيث لا يختلطون ببقية السكان ولا تصلهم يد العون الحكومية أو الإنسانية بشكل فعّال. هذه الفئة، التي تشكّل نحو 10% من سكان اليمن وفق تقرير المجلس النرويجي للاجئين (3.5 مليون نسمة)، تعاني من تهميش تاريخي عميق يمتد جذوره لعقود، ليتركهم فريسةً للأمراض البكتيرية والفيروسية التي تحصد أرواح أطفالهم بلا رحمة.
هذا التحقيق، يكشف عن واقع مروّع يعيشه المهمشون في تعز، حيث تتفاقم معاناتهم بسبب التلوث البيئي ولإهمال الحكومي وسوء إدارة المساعدات الدولية. من خلال قصص إنسانية مؤلمة وشهادات حيّة ووثائق رسمية، نرصد كيف تتحول بيوتهم إلى مصائد موت حتمية، وكيف تُهدر ملايين الدولارات المخصصة لتحسين البيئة دون أثر ملموس على حياتهم.
الموت في أحضان الأوبئة
في حارة "ديلوكس"، حيث تمتد مجاري السيول الملوثة كشرايين سوداء تتغلغل في الأرض، بدأنا رحلتنا. هنا، التقينا بأم نبيل سامي، طفل لم يتجاوز الثمانية أشهر، فارق الحياة بعد معاناة أسبوع كامل مع الحمى الفيروسية. الأم، التي رفضت ذكر اسمها خوفاً من وصمة اجتماعية، روت لنا بصوت حزين: "كان يبكي ليل نهار، ولم نعرف ماذا به. لا مستشفى قريب يقبلنا، ولا دواء في متناول يدنا. مات بين يديّ بنزيف داخلي، ولم أستطع فعل شيء." نبيل لم يكن الضحية الوحيدة. في نفس الحي، لقيت سونيا، البالغة من العمر ثماني سنوات، حتفها بسبب الكوليرا بعد صراع مع المرض دون تشخيص أو علاج.
سامي عيشان، عاقل حارة المهمشين في ديلوكس، تحدث إلينا بنبرة يملؤها الحزن والغضب: "الأمراض أقل ما يقلقنا. أطفالنا يتعرضون للاغتصاب، ولا أحد يتحرك. بيئتنا تقتلنا كل يوم، والدولة لا تهتم." وأضاف وهو يشير إلى مجرى مائي ممتلئ بالنفايات الطبية: "هنا يموت أبناؤنا، ولا أحد يسمع صراخنا." تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية أشار إلى تسجيل آلاف حالات اشتباه بالكوليرا في تعز، مع عشرات الوفيات، مؤكداً أن المناطق ذات البنية التحتية الضعيفة، كتلك التي يعيش فيها المهمشون، هي الأكثر عرضة لتفشي الأوبئة بسبب التلوث المائي.
خبير بيئي: وجدنا في عينات المياه التي جمعناها من ديلوكس مستويات مرتفعة بشكل خطير من البكتيريا مثل الإشريكية القولونية، إلى جانب آثار مواد كيميائية سامة تنتج عن تحلل النفايات الطبية كالإبر والمحاقن." وأضاف: "هذه المياه لا تتوقف عند حدود الحي، بل تنتقل مع السيول إلى أماكن تجميع مياه الأمطار، التي يعتمد عليها السكان
مواد كيميائية سامة
في ظل شوارع تعز الضيقة التي تتسرب إليها السيول كل موسم أمطار، تتحول أحياء المهمشين إلى مستنقعات قاتلة. في حارة ديلوكس، حيث يعيش المئات في خيام بالية أو مبانٍ متهالكة محاطة بمجاري المياه الراكدة، تتكدس النفايات الطبية والمنزلية على طول الممرات. رائحة العفن تخنق الهواء، والأطفال يلعبون بجوار أكوام القمامة التي تحمل في طياتها أمراضاً لا تُحصى. هنا، لا يقتصر الأمر على الموت البطيء بسبب الأوبئة، بل يمتد إلى تدمير كل أمل في حياة كريمة.
الدكتور أنور الشاذلي، باحث في المناخ والنظام البيئي بجامعة تعز، يقول في حديث خاص: "النفايات الطبية التي تُرمى في مجاري السيول تشكل كارثة بيئية حقيقية. وجدنا في عينات المياه التي جمعناها من ديلوكس مستويات مرتفعة بشكل خطير من البكتيريا مثل الإشريكية القولونية، إلى جانب آثار مواد كيميائية سامة تنتج عن تحلل النفايات الطبية كالإبر والمحاقن." وأضاف: "هذه المياه لا تتوقف عند حدود الحي، بل تنتقل مع السيول إلى أماكن تجميع مياه الأمطار، التي يعتمد عليها السكان للشرب والأعمال المنزلية."
خلال زيارتنا الميدانية، شاهدنا كيف تتدفق السيول الملوثة بعد الأمطار إلى داخل الخيام وأماكن السكن، حاملة معها أكياس النفايات والبكتيريا. أكرم الشرعبي، رئيس منظمة "نهضة شباب"، يقول : "فقد المئات ممتلكاتهم البسيطة، لكن الأسوأ هو انتشار الأمراض بعدها. الحمى الفيروسية والكوليرا تجتاح المكان كالنار في الهشيم ، وتحصد أرواح العشرات، معظمهم أطفال."
في تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة بعنوان "في حالة الإهمال: آثار العدالة البيئية للتلوث البلاستيكي"، ورد أن المجتمعات المهمشة، تتحمل العبء الأكبر للتلوث البلاستيكي والنفايات الطبية، مما يفاقم من ظلمها الاجتماعي. تقرير البنك الدولي بعنوان "تقييم البنية التحتية في اليمن: التحديات والفرص"، أكد أن أكثر من 70% من شبكات الصرف الصحي في تعز تعاني من الانهيار أو التلف بسبب نقص الصيانة والصراع المستمر، مما يؤدي إلى تسرب المياه الملوثة إلى الأحياء السكنية. ويضيف تقرير منظمة أوكسفام الدولية بعنوان "اليمن: أزمة الصحة والبيئة في ظل الحرب"، وثّق أن تلوث المياه في اليمن يُعدّ من العوامل الرئيسية لارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة، حيث يموت طفل كل 10 دقائق بسبب أمراض مرتبطة بالمياه الملوثة.
على بعد أمتار من خيام المهمشين، تقف مكبّات النفايات كجبال صغيرة تنبعث منها روائح كريهة. تحدثنا إلى فاطمة، أم لثلاثة أطفال، قالت وهي تمسح دموعها: "ابني الصغير، محمد، أصيب بالربو بسبب الدخان المنبعث من حرق القمامة. لا نملك مالاً لعلاجه، وكل يوم يزداد سوءاً."
وأجرت منظمة الصحة العالمية دراسة بعنوان "تلوث الهواء وآثاره على المجتمعات المهمشة"، أكدت أن التعرض المستمر لتلوث الهواء في المناطق الفقيرة يزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض التنفسية بنسبة 40%. هذه البيئة ليست مجرد تهديد صحي، بل سجن يحاصر المهمشين في دائرة من الفقر والمرض والموت.
تلقى اليمن منذ سنوات ما يزيد عن 42.2 مليون دولار لمشاريع متعلقة بالتغيرات المناخية والبيئة. لكن تتبعنا لهذه الأموال كشف أن معظمها ذهب إلى ورش عمل ومؤتمرات ورواتب موظفي المنظمات، بينما بقيت أحياء المهمشين غارقة في القمامة والمياه الملوثة
نصوص قانونية غائبة
تنص المادة 22 من الدستور اليمني على أن "لكل مواطن الحق في بيئة نظيفة وصحية، وتلتزم الدولة بحماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية لتحقيق تنمية مستدامة"، بينما تنص المادة 56 على أن "تكفل الدولة توفير الأمن والصحة والضمان الاجتماعي لجميع المواطنين وفقاً للقانون." لكن هذه النصوص تبدو حبراً على ورق بالنسبة للمهمشين. في في تقارير لـ"منظمة اليونسيف" ،وثّقت المنظمة أن المهمشين في تعز يُحرمون بشكل منهجي من الوثائق الرسمية مثل بطاقات الهوية، مما يمنعهم من الوصول إلى الخدمات الصحية والبيئية. المحامي عبد الرحمن الجرادي قال في التقرير: "الدولة تتجاهل تطبيق الدستور على هذه الفئة، مما يجعل حقوقهم القانونية مجرد وهم."
تقرير للأمم المتحدة صادر عن المقرر الخاص المعني بالحق في بيئة نظيفة وصحية، ديفيد بويد، أكد أن اليمن يشهد انتهاكات جسيمة لحق المواطنين في بيئة صحية، مشيراً في تصريح رسمي خلال جلسة مجلس حقوق الإنسان في جنيف إلى أن الفشل في حماية البيئة يُعدّ انتهاكاً للالتزامات الدولية التي وقّعت عليها اليمن. نعمان الحذيفي، رئيس الاتحاد الوطني للمهمشين، يقول: "الدستور مجرد حبر على ورق بالنسبة لنا. لا نرى أي جهد حكومي لتوفير بيئة نظيفة أو رعاية صحية. نحن متروكون للموت." تقرير لجنة حقوق الإنسان اليمنية أشار إلى أن المهمشين يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، محرومين من حقوقهم الدستورية بسبب غياب آليات التنفيذ. القانون اليمني للبيئة رقم 26 لسنة 1995 يلزم الدولة بـ"منع التلوث وحماية السكان من المخاطر البيئية"، لكن المحامي ياسين المقطري أكد أن هذا القانون لم يُفعّل بشكل جدي في المناطق المهمشة.
إهدار مالي وتنفيذ رديء
وفقاً لبيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، تلقى اليمن منذ سنوات ما يزيد عن 42.2 مليون دولار لمشاريع متعلقة بالتغيرات المناخية والبيئة. لكن تتبعنا لهذه الأموال كشف أن معظمها ذهب إلى ورش عمل ومؤتمرات ورواتب موظفي المنظمات، بينما بقيت أحياء المهمشين غارقة في القمامة والمياه الملوثة. في جلسة مساءلة حضرناها بين نائب مدير مؤسسة المياه في تعز عبده علي وممثلي الأحياء، دافع عبده عن موقفه قائلاً: "الدعم الحكومي ضعيف جداً، والمقاولون ينفذون المشاريع بشكل رديء. المنظمات الدولية تدفع الملايين، لكننا لا نرى نتائج." لكن المقاولون ردوا بأن المؤسسة لا توفر التمويل الكافي أو الإشراف الجدي.
وفي تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان "آثار تغير المناخ على التنمية البشرية في اليمن"، حذر من أن التغيرات المناخية قد تتسبب في وفاة عشرات الآلاف بحلول منتصف القرن القادم، مع خسائر اقتصادية تصل إلى 93 مليار دولار إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة. لكن على الأرض، لا يظهر أي أثر لهذه التحذيرات. في ديلوكس، قال لنا أحمد، أب لطفلين أطفال: "سمعنا عن ملايين تُصرف لتحسين بيئتنا، لكننا لا نرى إلا السيول تجرف خيامنا كل عام." تقرير منظمة الشفافية الدولية بعنوان "الفساد وسوء إدارة المساعدات في البلدان المتضررة من النزاعات"، وثّق أن اليمن يعاني من انعدام الشفافية في توزيع المساعدات البيئية، مشيراً إلى أن ملايين الدولارات أُنفقت على مشاريع شكلية. تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بعنوان "اليمن: النزوح والتحديات البيئية"، أكد أن المناطق المهمشة في اليمن لم تستفد من مشاريع مستدامة، مما زاد من تهجير السكان بسبب الفيضانات والأمراض.
وفي هذا السياق الناشطة الإنسانية نهلة المقطري تقول لنا في لقاء خاص "هناك ثغرات وأخطاء للكثير من المنظمات حيث تعمل على أساس أنها تنمية مستدامة، ولكنها تُخرج ميزانية ضخمة في التدريبات، والسبب الرئيسي أن ليس هناك رقابة ومتابعة لهذه المشاريع من قبل السلطة المحلية ومكتب الشؤون الاجتماعية."
المهمشون في تعز يعيشون في دوامة من الموت البطيء، محاصرين بين الأوبئة، التلوث، والإهمال. بيوتهم ليست ملاذاً، بل قبوراً مفتوحة تنتظر ضحاياها. في كل زاوية تتردد أصوات الأمهات الثكلى والأطفال الذين يعانون من أمراض يمكن الوقاية منها. ملايين الدولارات تُنفق باسمهم، لكنها تتبخر في هواء المؤتمرات والتقارير.
مبادرات لتغطية الغياب
في ظل غياب الدولة، برزت مبادرات شبابية كجزر صغيرة في بحر اليأس. خالد البعداني، مؤسس مبادرة "بصمة خضراء"، قال لنا: "أردنا إنشاء حدائق صديقة للبيئة في تعز ، لكن جهودنا محدودة. المنظمات الدولية تقيم مؤتمرات، لكنها لا تدعم مشاريع مستدامة على الأرض." المبادرة، بدعم من منظمة "شباب بلا حدود"، نجحت في بعمل حديقة اصطناعية في مستشفى الثورة، لكنها لم تصل إلى أحياء المهمشين.
مبادرة "مسارات خضراء"، بقيادة مؤسسة "تمدين شباب" بالتعاون مع صندوق النظافة في تعز، تهدف إلى تشجير مدخل جامعة تعز، لكن سالم، أحد المهمشين، يقول : "نزرع الأشجار في الجامعة، بينما ديلوكس تغرق في السيول."
تقرير اليونيسف بعنوان "الشباب والتغير المناخي في اليمن"، أشار إلى أن الشباب في تعز يمتلكون إمكانيات كبيرة للابتكار، لكن نقص التمويل والدعم الحكومي يحد من تأثيرهم.
ويضيف تقرير مركز الشرق الأوسط للدراسات بعنوان "دور الشباب في مواجهة الأزمات البيئية في اليمن"، أبرز أن التحديات اللوجستية والأمنية تحول دون وصول الشباب إلى المناطق المهمشة. الناشطة نورا السقاف قالت في التقرير: "نحتاج إلى دعم حقيقي، لا مجرد تصفيق."
ويؤكد تقرير برنامج الأمم المتحدة للشباب بعنوان "تمكين الشباب في مواجهة التحديات البيئية"، أن غياب التنسيق بين المنظمات الدولية والمبادرات المحلية يُضعف النتائج.
في ديلوكس، قالت أم أحمد، التي فقدت ابنها بسبب الكوليرا: "الشباب يحاولون، لكن من ينقذنا من هذا الجحيم؟"
صرخة في الظلام
المهمشون في تعز يعيشون في دوامة من الموت البطيء، محاصرين بين الأوبئة، التلوث، والإهمال. بيوتهم ليست ملاذاً، بل قبوراً مفتوحة تنتظر ضحاياها. في كل زاوية تتردد أصوات الأمهات الثكلى والأطفال الذين يعانون من أمراض يمكن الوقاية منها. ملايين الدولارات تُنفق باسمهم، لكنها تتبخر في هواء المؤتمرات والتقارير. الدستور يكفل لهم حق الحياة، لكن الواقع يسلبهم إياه بلا رحمة.
تقرير منظمة أطباء بلا حدود بعنوان "الأزمة الصحية في اليمن: المناطق المنسية"، وثّق أن المهمشون في تعز يموتون بمعدلات أعلى بكثير من المتوسط الوطني بسبب غياب الرعاية الصحية وتدهور البيئة.
أما المركز الدولي للعدالة الانتقالية في دراسة "العدالة البيئية في مناطق النزاع"، دعا إلى تحقيقات مستقلة في سوء إدارة المساعدات البيئية. بينما تقرير منظمة العفو الدولية بعنوان "اليمن: الحق في الحياة تحت التهديد"، وثّق أن الظروف البيئية في تعز تشكل انتهاكاً صارخاً للحق في الحياة. أغنيس كالامارد، المدير التنفيذي للمنظمة، قالت: "لا يمكن للعالم أن يستمر في تجاهل هذه المأساة."
هذا التحقيق ليس مجرد سرد للمعاناة، بل صرخة مدوية لإنقاذ من تبقى من المهمشين. كل يوم يمر دون تدخل هو حكم إعدام جديد. هل سيسمع العالم هذه الصرخة، أم ستظل مدفونة تحت أنقاض الإهمال؟
___________________________
*تم إنتاج هذه المادة بالتعاون مع منصة ريف اليمن الصحفية، ضمن مشروع غرفة أخبار المُناخ والحقوق البيئية “عُشة”