في ظل غياب الدولة ومؤسساتها، يتكاتف بعض أفراد المجتمع في اليمن لتنفيذ مشاريع خدمية تعزز التنمية واستمرار الحياة التي عطلتها سنوات الحرب . أحد مظاهر هذا التكاتف المجتمعي يتجلي في ترميم المواقع الأثرية، التي أهملت وتحيل معالمه وموجوداته إلى إرث حضاري وثقافي لا ينبغي أن يندثر.
منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) تعمل على دعم المبادرات الرسمية للحفاظ على التراث الثقافي للبلدان حول العالم ، ولها في اليمن أدوار مهمة في الحفاظ على المدن التاريخية كصنعاء وشبام حضرموت وزبيد ومع ذلك، لا تزال العديد من المواقع الأثرية والتاريخية في اليمن غير معترف بها ولا تنال اهتمامًا كافيًا من الجهات المعنية والمختصة. فضلًا عن حملات النهب الكبيرة والممنهجه للأثار وتهريبها إلى الخارج.
في هذا السياق، يبرز دور التكاتف المجتمعي في الحفاظ على واحد من المعالم التاريخية والأثرية في محافظة ذمار وهو "حصن سماه بني النوار" ويظهر كيف يمكن للمجتمعات المحلية أن تستشعر بانتمائها الثقافي لهذا الموضع
يقع حصن سماه بني النوار في محافظة ذمار، مديرية عتمة، وهو موقع أثري يعود تاريخه إلى أكثر من عشرة قرون. وبسبب إهمال صيانته وترميمه من قبل الجهات الحكومية بدأ يتعرض للاندثار، وهو أمر لم يقبل به المجتمع المحلي وتحديداً شريحة الشباب الذين قادوا مبادرة لترميمه
يقول عبدالوهاب النواري، أحد أبناء منطقة سماه بني النواران هذه المبادرة أفضت إلى ترميم ثلاثة مواقع تاريخية، هي الجزء الخارجي من حصن سماه بني والمسجد ومقبرة السلاطين.
يضيف عبدالوهاب أن تكاليف ترميم الآثار ومعالم المنطقة الأثرية تتحمل على نفقة الأهالي، وفقًا لمبدأ الغرم القبلي. هذا المبدأ يفرض على كل غرام في القبيلة تقديم قسط من المال لإنجاز العمل، برعاية شيخ القبيلة عبد الرحمن محمد مهدي النواري.
من جانبه، يشير الشيخ عبد الرحمن النواري - أحد المتبنيين لفكرة الترميم-. يقول أنهم اعتمدوا على جهود أبناء المنطقة البدنية ومساهماتهم المالية، موجها شكره لكل من حضروا من قراهم المختلفة للمساهمة بجهدهم البدني في أعمال ترميم مقبرة سلاطين.
تخريب لا ترميم
هذه المبادرة على أهميتها تعرضت في ذات الوقت لنقد قاس من الجهات الرسمية التي غابت عن هذا العمل معتبرة الجهود المجتمعية في الترميم دون استشارة أو استعانة بخبراء وفنيين مختصين تعتبر نوعًا من أنواع التخريب.
وكيل هيئة الأثار ابراهيم الهادي، و فهمي مكرد، مسؤول الترميم والصيانة في المتحف الوطني، أكدا أن هيئة الأثار في الوقت الراهن تقدم الاستشارة والعون للجهود المجتمعية في الترميم والصيانة فقط وتعجز عن تمويل أعمال الصيانة والترميم بسبب الوضع العام و هي الجهة الوحيدة المختصة والمخولة في ترميم وصيانة الآثار. وشددا على أهمية التعاون بين الجهود المجتمعية وهيئة الآثار لضمان الحفاظ على التراث الثقافي بدون تخريب أو تشويه.
مدير حماية الآثار والممتلكات الثقافية في الهيئة عبدالكريم البركاني أكد من جهته على أهمية اتباع المعايير العلمية في الترميم
وقال لـ"خيوط": "يتطلب إعادة ترميم المنشآت والمواقع الأثرية والتاريخية والدينية الكثير من الاهتمام، وأن هناك معايير وأسس علمية رئيسية لا يمكن الإستغناء عنها لتنفيذ مثل هذه الأعمال".
يضيف البركاني :أن استخدام المواد التقليدية من ذات البيئة التي تتواجد عليها المنشأة أو المعلم الأثري في عملية الترميم والصيانة هو أحد المعايير الرئيسية. يؤكد على أن الجهود المجتمعية في أوقات كثيرة لا تتبع تلك المعايير ولا تستشير أو تتواصل بالجهات المختصة أو المعنية.
ويختم البركاني حديثه لخيوط بالقول
إن استخدام الأدوات والوسائل الحديثة في الترميم يمكن أن يفقد المنشآت والمعالم والأبنية الأثرية عبقها وقيمتها وأصالتها. يؤكد على أهمية التعاون بين الجهود المجتمعية والجهات المختصة لضمان الحفاظ على التراث الثقافي بشكل صحيح.
أثر رجعي
تفاعل القضية وتحولها إلى قضية رأي عام استدعت من بعض مسئولي الهيئة النزول الميداني إلى قرية سماه بني النوار، حيث منعوا الأهالي من الاستمرار في الترميم والصيانة للمواقع الأثرية في القرية.
هذا الإجراء أتى في إطار الحفاظ على التراث الثقافي والآثار، وضمان أن يتم الترميم والصيانة بشكل صحيح ووفقًا للمعايير العلمية حسب ما أفاد المسؤولين ذاتهم.
في هذا السياق افاد مدير آثار ذمار فضل العميسي لمنصة "خيوط": " فيما يتعلق بقضية المقبرة بيت النواري تم بلاغي بذلك عن طريق وكيل الهيئة العامة للآثار. وبعد الزيارة الميدانية، وجدت أن أهالي القرية كانوا يعملون على تنظيف الأتربة حول القبور التي تساقطت من أعلى، وكذلك كانوا يعيدون بناءها وترميمها. هذا الإجراء يعتبر طبيعيًا واعتياديًا في كثير من المناطق اليمنية خاصة فيما يتعلق بتسوير المقابر وحمايتها وتجديد بعض القبور التي تتعرض للاندثار نتيجة عوامل الطبيعة"
لكن "تم توقيف العمل في المقبرة بعد اكتشاف قبور مضى عليها مئات السنين، وتم إبلاغ الأهالي بضرورة أخذ تصريح من مكتب الآثار والأوقاف. بعد مناقشة الوضع مع الهيئة العامة للآثار، تم التوصل إلى السماح للعائلات بترميم قبور عائلاتهم وأجدادهم، بشرط أخذ تصريح من جهات الآثار والأوقاف وأشراف مختص أثري على الترميم"
يذكر أن العديد من المواقع الأثرية مهددة بالاندثار، وإن بعض المواقع التي كانت موجودة في قائمة اليونسكو مهددة بالإلغاء بسبب الاهمال والتدخلات غير المختصة في عملية الصيانة والترميم. إلى جانب ذلك، هناك مئات القطع الأثرية التي تم نهبها وتهريبها إلى الخارج.
وفي سياق متصل أطلق نشطاء ومختصون وعلماء آثار ، حملات إعلامية لتسليط الضوء على الآثار الوطنية المنهوبة والمعروضة في متاحف دولية في الخارج. وتهدف مثل هذه الحملات إلى حشد الدعم لاسترجاعها بالتزامن مع توعية المجتمع بالحفاظ على هذا الإرث ودفع السلطات لتشديد الرقابة ومحاسبة المتورطين بنهب الآثار وتسهيل تهريبها