يحتفل عمّال العالم في مثل هذا اليوم (الأول من مايو) من كل عام، بعيدهم العالمي، وكالعادة ستمرّ الذكرى على العمّال اليمنيّين وهم يعيشون أوضاعًا صعبة بسبب حالة الحرب والانقسام وهشاشة حواضنهم النقابية.
تاريخيًّا، وقبل أن يتأطر العمّال اليمنيّون بنقابات تُدافع عن حقوقهم في مدينة مثل عدن قبل سبعة عقود، التهمت الكثيرَ منهم البحارُ ومراجل السفن وصهيد الفحم وسقالات البناء في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، حين تشتّتوا في الأصقاع بحثًا عن أرزاقهم في مهن صعبة وقاسية بعد أن تحولت بلادهم إلى جغرافيا معزولة وطاردة في آن، بسبب سياسات الانغلاق والاستبداد والإفقار التي اتبعها نظام الإمامة والنظام الاستعماري والإقطاعيون في المحميات، فاضطر معها الكثيرُ من الشباب لركوب البحر والالتحاق بمهن تتناسب ومحدودية خبراتهم وتعليمهم، وبدون حماية قانونية تقيهم من جشع أرباب الأعمال الذين وجدوا في تدني أجور العمال وعدم وجود نقابات تدافع عنهم، فرصةً لاستغلالهم.
في منتصف الخمسينيات، وفي ذروة المد القومي نشط عمل النقابات العمّالية في عدن ضدّ سياسات التمييز التي اتبعتها السلطة الاستعمارية التي انحازت للشركات الاحتكارية التي يمتلكها أو يديرها أجانب، بما فيها المصافي والميناء، على حساب العمّال، فاستطاعت النقابات وبسلسلة من الإضرابات، أن تنتزع بعض المكاسب الحيوية لمنتسبيها.
الحركة النقابية للعمّال، وُلِدت من أحشاء الحركة السياسية والوطنية وصارت جزءًا منها، وبخبراتها المتراكمة صارت جزءًا من التحولات التي بشرت بها الثورة اليمنية منذ مطلع الستينيات، وكانوا الحالة الأكثر وضوحًا في محاولة الانتقال المحدود من الحالة الفلاحية الريفية المغلقة إلى الحالة المدنية بانفتاحاتها التجارية والإنتاجية على محدوديتها.
وحينما قدَّم تيار اليسار أنموذج حكمه في الجنوب اليمني منذ الاستقلال في أواخر نوفمبر 1967 حتى مطلع التسعينيات، كان يوظف الشعارات العمّالية في خطابه السياسي الذي بقيَ يبشِّر لعقدين كاملين بعملية التحول التي ستقودها هذه الطبقة بنزوعها الديكتاتوري، غير أنّ اختبارات شتى بدّدت هذا الوهم، المستجلب من بطون الكتب وفوائض الأيديولوجيا، وعلى رأسها تعقيدات البنى القبَلية وطبيعة العلاقات الفلاحية في عموم المناطق الجنوبية، باستثناء عدن التي عاشت هي الأخرى لاحقًا، حالةً من الترييف القاسي مع موجات الهجرة السياسية لمقاتلي وأنصار نظام الحكم الجديد إليها، ابتداء من مطلع السبعينيات.
وفي الشمال اليمني، فتحت ثورة سبتمبر الباب واسعًا أمام رياح التحديث في المجتمع الخارج لتوه من ظلمات القرون، فنشأت الكثير من القطاعات الجديدة التجارية والصناعية التي صار العمّال جزءًا من استمرارها وتطورها في العقدين التاليين. وبفعل التحولات السياسية؛ تشكّلت بعض النقابات العمّالية في المصانع والمعامل، غير أنّ ضعف الوعي والتجيير السياسي لمواقف النقابات لصالح السلطات المتعاقبة بتواطؤ مع أرباب العمل، لعب دورًا معيقًا لتطورها وتعافيها.
والذي يجب ألّا يغيب عن البال أيضًا، هو إسهام العمّال اليمنيين في نشوء البنية التحتية لأغلب دول الجوار مع مرحلة الطفرة النفطية خلال عقدَي السبعينيات والثمانينيات، وقوبل تاليًا بجحود ونكران كبيرين، حين تحولوا -من وجهة نظر السلطات في تلك البلدان- إلى عمالة فائضة وغير مرغوب بها ابتداء من مطلع التسعينيات، وشكّلت عودتهم مع حرب الخليج الثانية، حالةَ ضغط على الاقتصاد الهش للدولة الوليدة "الجمهورية اليمنية".
الأزمات السياسية المتعاقبة التي تُوّجت بحرب السنوات الثماني العبثية أتت على كل حوامل الحياة المدنية، بما فيها التكوينات النقابية، فصار العمّال فريسة سهلة لتغول أرباب العمل الذين استغلوا حالة الفوضى والفساد والانقسام لممارسة أبشع صنوف الاضطهاد ضدّ العمّال، ومنه التسريح ومصادرة الحقوق، والامتناع عن دفع أقساط التأمين لمؤسسات وشركات التأمين، وإسقاط حقوق الرعاية.
ستتيح "خيوط"، من خلال هذا الملف، لقرائها مساحة معاينة لحال هذه الشريحة التي كانت ذات يوم شاهدة على التحول، على محدوديته، لكنها صارت اليوم غارقة في خيباتها وعزلتها.