في منتصف 2014، وفي مبنىً مكونٍ من أربعة طوابق في عَمّان، استقبلتنا الدكتورة الأردنية تسنيم، أخصائيةُ باطنيةٍ، مستعرضة ملفً ونتائجَ الفحوصات الطبية الخاصة بوالد أحد الصحفيين اليمنيين صحبه معه عند رحلته إلى الأردن لخوض برنامجٍ تدريبيٍّ خاصٍّ بعمله الصحفي.
الطبيبة الأردنية -التي عملت، حسب حديثها، مع نخبة من أكفأ الأطباء، جلهم من الجنسية اليمنية، وذلك خلال تنقلها للعمل في دول الخليج وأمريكا ودول أوروبية- عبّرتْ، وبصورةٍ غيرِ متوقعةٍ، عن دهشتها مما تلاحظه من إقبال اليمنيين على التداوي والعلاج خارج اليمن. مضيفة: "ما أعرفه هو أن لديكم نخبةً متميزةً من الأطباء بارعين ومتميزين في عملهم ينتشرون في الخليج وفي مختلف دول العالم".
ما يعيشه العالم –حالياً- من أزمةٍ لم يَشهدْ لها مثيلاً، نتيجة تفشي فيروس كورونا، يعيد إلى الأذهان ما قالته تلك الطبيبة الأردنية؛ خصوصاً مع ما يشاهده العالم من بروز كفاءاتٍ طبّيةٍ لامعةٍ تخوض غِمارَ التصدي لهذا الوباء الذي ينتشر بصورةٍ مروِّعةٍ أصابت العالم كله بالذهول والارتباك.
هنا يأتي الحديث عن طبيبٍ يمنيٍّ مقيمٍ في الصين منذ ما يقارب 25 عاماً، بما أظهره من براعةٍ وكفاءةٍ واقتدارٍ، في سياق عمله ضمن الكادر الطبي في الصين، في انتشال ووهان من كورونا؛ المدينةِ التي ارتبط اسمُها بظهور هذا الفيروس المرعب الذي يجتاح العالم.
يتحدث الإعلام الصيني بإجلالٍ عن الدكتور عمار البعداني، الطبيب اليمني الذي يعمل في الصين، لمساهماته وجهوده الملموسة في مساعدة "ووهان الصينية" في مكافحة الوباء الذي انتشر في العالم؛ الأمر الذي جعل الإعلام يطلق عليه "أحَدَ مُنقذي ووهان".
لكن الوضع يختلف داخل اليمن، البلدِ الموبوء بجائحةِ حربٍ وصراعٍ طاحنٍ منذ ما يزيد على خمسة أعوام، تخلّلها عديدُ أوبئةٍ وأمراضٍ، مثل الكوليرا والدفتيريا وحمى الضنك، حصدت أرواح الآلاف، والذي يشهد منذ عقودٍ نزوحاً كبيراً للكوادر المتخصصة، لاسيما في المجال الطبي، إلى الخارج، إضافة إلى اختلالاتٍ عميقةٍ في نظام الابتعاث؛ إذ تطغى التخصصاتُ الأدبيةُ على العلمية، في نظامٍ تعليميٍّ لا يبني أولوياته على ضوء احتياجاتِه العلمية والعملية.
تظهر مؤشراتُ مسحٍ شاملٍ، قامت به وزارة الصحة والسكان في 2014، حاجة المنشأة الصحية في اليمن، التي وصل عددها حسب نتائج المسح نحو (4207) منشآت، إلى رفدها بالكوادر المؤهلة، وخصوصاً المستشفيات والمراكز الصحية على مستوى المديريات والمحافظات.
وتصنف وزارة الصحة هذه المنشآت إلى ثلاثة مستويات: (3928) مركزاً صحياً، و(243) مستشفىً، و(36) مُجمّعاً صحياً؛ بينما يصل عدد المستشفيات الخاصة إلى (181) مستشفىً و(323) مستوصفاً، و(731) مركزاً طبياً، وهناك (1296) مختبراً، ونحو (2884) عيادةً، ما بين عامة وتخصصيةٍ وأسناٍن ومعاملَ وأشعة، إضافة إلى (1462) عيادةَ إسعافٍ، ونحو (7031) صيدلية ومخزن أدوية.
لا تتجاوز تغطية الخدمات الصحية نسبة 64% من السكان، جلها يتركز في المناطق الحضرية، وغيابٍ تامٍّ للكوادر المتخصصة في المنشآت الصحية
وفي الوقت الذي لا تتجاوز تغطية الخدمات الصحية نسبة 64% من السكان، جلها يتركز في المناطق الحضرية، تكشف نتائج المسح عن عجزٍ كبيرٍ في الأطباء والأخصائيين العاملين في اليمن، مقارنة بعدد السكان الذي يقترب من 30 مليون نسمة.
حسب التقرير الخاص بمؤشرات المسح، حصلت "خيوط" على نسخةٍ منه، فإن إجمالي عدد الأطباء في اليمن يصل إلى (4840) طبيباً، ونحو (12897) ممرضاً، وحوالي (16852) سريراً، و(1704) أخصائيين فقط، منهم (651) في صنعاء، و(457) في عدن، و(157) في حضرموت، بينما كانت محافظة ريمة هي الأقل بأخصائيّيْن اثنيْن، وقبلها محافظات مأرب والجوف والمهرة والمحويت بنحو 6 أخصائيين في كل منها؛ في حين لا يوجد في بعض المحافظات أيُّ أخصائي.
وبالنظر لهذه الإحصائية، فإن هناك طبيباً لكل أربعة آلاف نسمة، وأخصائياً لكل ثمانية آلاف؛ بينما تعاني بعض المحافظات شحاً كبيراً في الكادر الطبي، حيث يعمل فيها طبيبٌ لكل (14.634) نسمة وأخصائيٌّ لكل (80.000) نسمة؛ مع الأخذ في الاعتبار ضعفٌ في القدرات والمهارات إما بسبب نقص التأهيل والتدريب المتخصص أو عدم الاهتمام بالتدريب المستمر خلال الخدمة.
ويتجسد هذا المأزق في الكوادر المتخصصة، والذي لا يتوقف عند حدود القطاع الصحي فحسب، بل وفي كل المهن، وفق الباحث في المعهد الصحي بصنعاء، نبيل النقيب، في حال أراد المرء إنشاء مشروع خاص أو عام، يستعصي عليه إيجادُ كادرٍ متخصصٍ في إعداد الدراسات الفنية والتصاميم للمشروع، ونفس الحال في الحياة والصحة العامة، بحيث يذوق الأمرّين حتى يجد أخصائيَّ أشعة أو تخدير أو فني مختبرات أو أخصائياً استشارياً أو فيزيائياً.
ويتحدث النقيب لـ"خيوط" عن معاناة اليمن من مأزقٍ كبيرٍ كان يتم التغافل عنه منذ زمنٍ طويلٍ، وبدأ يتجسد الآن كمشكلةٍ واسعةٍ مستعصيةٍ على الحل بسبب أزمة فيروس كورونا، يتمثل في غيابٍ تامٍّ للكوادر المتخصصة في المنشآت الصحية باليمن، والتي يجتاحها جهازٌ متخمٌ بالموظفين والكوادر الإدارية التي لا تجيد سوى الأعمال المكتبية؛ بينما تجدها مفرغةً من الكوادر المتخصصة وبالتالي أصبح عبور اليمن إلى بر الأمان، في مواجهة هذه الجائحة التي لم يشهد العالم لها مثيلاً، مرهوناً بتوفر كادرٍ طبيٍّ كافٍ ومناسبٍ ومتعدد التخصصات، وتوفر مرافقَ صحيةٍ جاهزةٍ ومناسبة.
إجراءات وإمكانيات محدودة
مع أزمة كورونا، وضمن الاستعدادات والإجراءات الاحترازية الجارية في اليمن للتصدي للفيروس بمساعدة المجتمع الدولي، أطلق البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة نداءً إلى كل الأطباء والممرضين في اليمن للالتحاق بالخدمة، ووضع استمارة على موقعه الإلكتروني للمتطوعين.
وكانت وزارة الصحة العامة والسكان في حكومة صنعاء أعلنت، مطلع الشهر الماضي، حالة التعبئة الصحية الشاملة للأطباء والكوادر الصحية والفنيين وخبراء الحجر الوقائي، وكذلك فتح باب التطوع للدارسين في كليات الطب والمعاهد الصحية؛ في إطار الإجراءات الاستباقية لمواجهة أي طارئٍ أو تفشٍّ لفيروس كورونا "كوفيد –19"، سبقتها في ذلك وزارة الصحة في الحكومة المعترف بها دولياً والتي قامت بتخصيص مستشفيات، حكومية وخاصةٍ، في عدن، جنوب اليمن، كمراكز للتعامل مع أي طارئ يتعلق بفيروس كورونا.
اليمن تحتاج 1500 جهاز تنفسٍ، كمرحلةٍ عاجلةٍ أولى وعينات فحص كورونا المتوفرة قليلةٌ جداً
كما تم تخصيص نحو 30 مستشفى في معظم المحافظات، لتجهيزها واستنفارها في مواجهة فيروس كورونا، وتدريب الكوادر الصحية على مكافحة العدوى والوقاية الشخصية للعاملين والمتطوعين، وكيفية إدارة الحالات.
وأكد مسؤول في وزارة الصحة والسكان التابعة لأنصار الله (الحوثيين) حاجة اليمن بصورةٍ عاجلةٍ إلى نحو 1500 جهاز تنفسٍ، كمرحلةٍ عاجلةٍ أولى، وأن هناك جهوداً مكثفةً تُبذل في هذا الصدد.
وبحسب هذا المسؤول، فإن الوضع الراهن يتطلب تعاون المواطنين في التقيد بالإجراءات الاحترازية حرفياً، وإن على الجميع إدراكَ أن الدول العظمى، ذات الأنظمة الصحية المتطورة، فشل البعض منها في السيطرة على هذا الوباء نتيجة إهمال مواطنيها وعدم التزامهم بالإجراءات الاحترازية؛ وعلى رأسها الحد من حركتهم وتنقلاتهم وتجمعاتهم. إذ تعاني اليمن، حسب حديثه، من ضعفٍ في الإمكانيات والتجهيزات الصحية، بسبب الحصار المفروض من قبل "التحالف"، منذ ما يزيد على خمسة أعوام، إضافة إلى ما خلفته الحرب والقصف من أضرارٍ بالغةٍ في القطاع الصحي.
فيما كشف وزير الصحة في الحكومة التابعة لأنصار الله (الحوثيين)، طه المتوكل، عن افتقار المنشآت الصحية في اليمن إلى أجهزة التنفس الصناعي؛ إذ لا يوجد سوى (400) جهاز فقط، بينما أغلب معامل الأكسجين متوقفةٌ وتحتاج إلى صيانة.
كما أن عينات فحص كورونا المتوفرة قليلةٌ جداً، حيث لا تزيد عن (3500) عينة في صنعاء، وحوالي (3400) عينة في عدن.
وأبدى المتوكل تخوفه في حال دخل وباء كورونا اليمن، إذ قد تكون النتائج كارثية"، مؤكداً أن هذه الجائحة العالمية في حال دخلت اليمن، قد يصاب قرابة الـ 90% من السكان، حيث سيكون الانتشار سريعا بمتواليات هندسية حسب وصفه.
معاناة متعددة
في السياق، يُشخّص الدكتور محمد يحيي الرفيق، رئيس قسم العلوم الإدارية بجامعة ذمار، المشكلةَ الراهنة من زاويتيْ التعليم والصحة، باعتبارهما أبرز قطاعين منتجيْن للكوادر المتخصصة.
فبحسب دراسة استقصائية أعدها الدكتور الرفيق سابقاً قبل الحرب، فقد ارتفع عدد الموظفين الإداريين العاملين في القطاع الصحي إلى أكثر من 40% من إجمالي القوى العاملة في المجال الصحي في محافظات الجمهورية، والذي كان على حساب الكوادر الطبية المتخصصة؛ إذ يعاني هذا القطاع الهام نقصاً كبيراً في الكوادر الطبية والفنية، في ظل سوء توزيعها وعدم استغلالها بشكل أمثل.
فيما يتعلق بالمشروعات في الخدمات الصحية، تذكر الدراسة أن عدد المستشفيات العامة، الموزعة في كافة عواصم محافظات الجمهورية اليمنية، يصل إلى نحو (43) مستشفى؛ في حين أن محافظةً مثل ريمة لا يوجد فيها مستشفى عام. وإلى ما قبل الحرب بعام واحد، بلغ عدد المستشفيات في المديريات نحو (200) مستشفى.
كما تعاني اليمن مشكلةً كبيرةً في التخصصات المتعلقة بالصحة النفسية، فعدد الأخصائيين في هذا المجالمحدودٌ للغاية، حيث لا يتجاوز (41) متخصصاً، وفي مجال الصحة العامة بلغ عددهم (226) فقط.
ويذوق المواطنون الويلَ في العثور على مركز أو خبير أشعة. وتكشف الدراسة الاستقصائية للدكتور الرفيق أن المتخصصين في الأشعة لا يتجاوز عددهم (66)، وأن المتخصصين في التغذية لا يتعدى عددهم (19) متخصصاً.
والأهم من ذلك ندرة المتخصصين في التخدير، والذين لا يتجاوز عددهم (127)، وفي مجال الأطراف الصناعية لا يوجد متخصصٌ واحد. كما بلغ عدد المتخصصين في العلاج الطبيعي (18)، وفي طب المجتمع (24) متخصصاً، أما في مجال الفيزياء فـ(24) متخصصاً، فيما يبلغ عدد غير المتخصصين (21) فرداً.
يقول الرفيق لـ"خيوط" إن هناك العديد من المحددات، سواء لقطاع التعليم أو لقطاع الصحة، ويقارن نسبة الإنفاق في التعليم والصحة من إجمالي الإنفاق العام ومن الناتج المحلي الإجمالي، بحيث يتبين بأن تلك النسبة ضئيلةٌ جدا.
وتؤكد بياناتٌ رسميةٌ صادرةٌ عن وزارة الصحة والسكان أن نسبة السكان المتوفر لهم وسائل صرف صحي هي 23%، وحوالي 59% متوفرٌ لهم مياه صحية، وما نسبته 18% من السكان في اليمن مدخنون.
وتصل نسبة ما يصرفه الفرد في اليمن على الصحة، وفق تقديرات رسمية، إلى 66.33% من دخله؛ في حين تبلغ نسبة ما تخصصه الموازنة العامة لوزارة الصحة فقط 3.58%.