يمكن الجزم أنّ تداعيات الحرب الكارثية، خلال ثماني سنوات، قد طالت كلَّ أسرة يمنية ونالت من كل شرائح المجتمع، وخاصة في آثارها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وأهم تلك الشرائح موظفو الدولة في مناطق سلطة صنعاء، والذين يعانون الأمرّين جراء انقطاع مرتباتهم لأكثر من ست سنوات.
لم يقف الأمر عند ذلك، بل أعصابهم ونفسياتهم تتعرّض للاضطراب والعبث يوميًّا، بسبب اللعب بورقة المرتبات والتسريبات الزائفة والمقولات الكاذبة عنها من كلا السلطتين في صنعاء وعدن، فتارة ترتفع عند الموظف سقف التوقعات وتزدحم حساباته الخيالية عن الإجماليات التي سيستلمها، وترتبك أرقامه في حالة استلامها بالريال القديم أو الجديد أو بالدولار أو بالريال السعودي.
هكذا يعيش الموظف في وَهْم وسراب، بسبب تغريدات أو تسريبات من فلان أو علان، وللأسف كلٌّ من سلطتَي صنعاء وعدن استمرَأَتا الأمر بروح نرجسية مفرطة تجاه الموظف المنهك والمغلوب على أمره، فقضية دفع المرتبات تحتاج إلى مصارحة وشفافية من كلا طرفي الصراع، ولا بُدّ أن يتحلوا بالمسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه هذا الأمر بعيدًا عن المناكفات والمماحكات السياسية المقيتة، ولا بدّ أيضًا من توضيح الحقائق المرتبطة بصرف المرتبات وتحديد المؤسسات المسؤولة عنها، وما إمكانيات صرفها في الوقت الحاضر أو في المستقبل المنظور.
البنك المركزي ليس مسؤولًا عن دفع المرتبات
حدّد القانون مهام البنك المركزي في تنفيذ السياسة النقدية بما يضمن تحقيق استقرار الأسعار وتوفير السيولة المناسبة والملائمة على نحو سليم، بالإضافة إلى مهام أخرى مثل إدارة نظام سعر الصرف والاحتياطيات الخارجية الرسمية، وإدارة حسابات الحكومة وغيرها من المهام، ولا يوجد في قانون البنك المركزي ما يشير إلى أنّه المسؤول عن صرف المرتبات لموظفي الدولة، وتلك المهام متعارف عليها في قوانين البنوك المركزية في معظم دول العالم، باعتبار أن البنك المركزي سلطة مستقلة عن الحكومة، وقد تتعارض سياساته النقدية مع رغبات وتوجهات الحكومة.
الدلائل تشير إلى أنّ إجمالي إيرادات تحصيل الضرائب والجمارك من موانئ الحديدة تكفي لتغطية صرف نصف راتب شهريًّا على الأقل طوال السنة، وللأسف لم تفِ سلطة صنعاء بتنفيذ هذا الاتفاق، وظلت تستمتع بمعاناة الموظفين وتصرف لهم نصف راتب بالمتوسط في أربع مناسبات دينية فقط كل سنة، رغم احتفالها بمناسبات تساوي أشهر السنة وأكثر.
لذا، فإنّ الجهات المسؤولة عن صرف المرتبات هي وزارة الخدمة المدنية ووزارة المالية، فالأولى مسؤولة عن إعداد كشوفات المرتبات لكل مؤسسات الدولة، والثانية مسؤولة عن صرف تلك المرتبات من حساباتها لدى البنك المركزي، ووفقًا للقانون المالي، فإنّ وزارة المالية مسؤولة عن إدارة الميزانية العامة للدولة من خلال تحصيل الإيرادات العامة من عوائد النفط والغاز ومن الضرائب والجمارك والرسوم الأخرى، ومسؤولة عن الصرف على النفقات العامة وفي مقدمتها المرتبات والأجور، وغيرها من النفقات. بمعنى آخر، فإنّ البنك المركزي عبارة عن أمين الخزينة للحكومة ممثلة بوزارة المالية، ويمكن للحكومة أن تكلف أيّ بنك آخر للقيام بهذه المهمة.
شماعة نقل البنك المركزي
مع اندلاع الحرب في مارس/ آذار 2015، توقفت الإيرادات من عوائد تصدير النفط والغاز، والتي كانت تشكّل حوالي 70% من الإيرادات العامة، كما تراجعت بشكل كبير الإيرادات من الضرائب والجمارك وغيرها، ورغم ذلك، ظلت الحكومة في صنعاء ملتزمة بصرف مرتبات موظفي الدولة في جميع المؤسسات وفي عموم المحافظات دون استثناء، ويعود ذلك إلى استعداد البنك المركزي لإقراض الحكومة والسحب على المكشوف من الاحتياطيات النقدية المتوفرة لديه، لتغطية النفقات العامة من مرتبات ونفقات وتشغيل وغيرها، واستمر ذلك خلال الثمانية عشر شهرًا الأولى لبداية الحرب، حتى نفدت الاحتياطيات المتاحة للبنك، وذلك موقف يسجّل للحكومة ولقيادة البنك المركزي حينها.
تزامن ذلك مع قيام سلطة عدن بتعيين محافظ للبنك المركزي ومجلس إدارة له، وبحكم تلك القرارات نقلت بعض المهام إلى بنك مركزي عدن، مثل حق الإصدار النقدي، وإدارة الاحتياطيات الدولية، والارتباط بنظام التحويلات الدولية (سويفت)، بينما ظل البنك المركزي في صنعاء بمبانيه وقياداته الإدارية وموظفيه في مختلف القطاعات يمارس المهام المناطة به وفقًا للقانون، ويمارس الرقابة المصرفية على البنوك، وعلى شركات الصرافة وغيرها من المهام.
وبسبب تراجع الإيرادات العامة لدى وزارة المالية، وصاحب ذلك الإعسار المالي وندرة السيولة لدى بنك مركزي صنعاء، وعدم قدرته على إقراض الحكومة، روّجت سلطة صنعاء لمقولة أنّها عاجزة عن دفع المرتبات بسبب "نقل البنك المركزي إلى عدن"، ولو أنّ قرار تعيين محافظ البنك تأخر حينها شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنّ حكومة صنعاء كانت عاجزة عن دفع المرتبات رغم وجود البنك المركزي لديها.
وخلال السنوات اللاحقة، ظلت سلطة صنعاء تروج لتلك المقولة رغم أنّ الإيرادات العامة من الضرائب والجمارك والرسوم والزكاة تضاعفت عشرات المرات خلال السنوات الست الماضية، وأعفت نفسها من الالتزام بصرف مرتبات الموظفين في نطاق سلطتها، وحُجّتها "شماعة نقل البنك المركزي"، بينما كل الدلائل تشير إلى أنّ وزارة المالية هي المسؤولة عن دفع المرتبات، فالمصالح التابعة لها من الضرائب والجمارك استطاعت تحصيل وجباية أرقام قياسية من الإيرادات تمكّنها من دفع المرتبات الشهرية بكل يسر وسهولة، وفي أقل تقدير دفع نصف راتب شهريًّا للموظفين الذين انضمّ معظمهم إلى جموع الأسر الفقيرة، وأصبحوا "يتسوّلون" السلال الغذائية من المنظمات الدولية والمحلية، في مشاهد يندى لها الجبين، خاصة إذا كان المستحقون لتلك السلال من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحكومية.
نكث العهود من عدن إلى صنعاء
بعد تعيين محافظ للبنك المركزي، تعهّدت سلطة عدن بصرف مرتبات موظفي الدولة في عموم محافظات الجمهورية، وفقًا للكشوفات المعتمدة في ميزانية 2014، وللأسف تحول ذلك التعهد إلى سراب بعد صرف مرتبات بضعة أشهر، ولم تحفل بالمناشدات الدولية والإقليمية بضرورة الالتزام بصرف مرتبات الموظفين في مؤسسات الدولة كافة.
وكلُّ ما استطاعت أن تفعله، هو طباعة نقود جديدة بدون توفر احتياطيات من النقد الأجنبي، ممّا أدى إلى انهيار القوة الشرائية للريال، والتصاعد الجنوني لسعر صرف الريال مقابل العملات الأخرى، ونتج عن ذلك ارتفاع لهيب أسعار السلع والخدمات، وتدهور مستوى معيشة المواطنين محدودي الدخل، وفي مقدمتهم موظفو الدولة، في مناطق سلطة عدن وفي مناطق سلطة صنعاء، على حدٍّ سواء.
ورغم تمكن سلطة عدن من إعادة تصدير النفط وتزايد حجم الموارد المالية المتاحة للوفاء بصرف المرتبات، فإنّها انتهجت سياسة "لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم" تجاه معاناة موظفي الدولة في مناطق سلطة صنعاء، واكتفت بصرف مرتبات "النازحين"، حيث يحصلون على أقل من نصف قيمتها عند تحويلها إلى مستحقيها، بسبب رسوم التحويلات المفروضة من شركات الصرافة، ظلمًا وعدوانًا.
وعلى الطرف الآخر، كان موضوع صرف المرتبات أحد البنود الأساسية في اتفاق ستوكهولم، عام 2018، الذي نص على أن "تودع جميع إيرادات موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى في البنك المركزي اليمني من خلال فرعه الموجود في الحُديدة، للمساهمة في دفع مرتبات موظفي الخدمة المدنية في محافظة الحُديدة وجميع أنحاء اليمن". فالدلائل تشير إلى أنّ إجمالي إيرادات تحصيل الضرائب والجمارك من موانئ الحُديدة تكفي لتغطية صرف نصف راتب شهريًّا على الأقل طوال السنة، وللأسف لم تفِ سلطة صنعاء بتنفيذ هذا الاتفاق، وظلّت تستمتع بمعاناة الموظفين، وتصرف لهم نصف راتب بالمتوسط في أربع مناسبات دينية فقط كل سنة، رغم احتفالها بمناسبات تساوي أشهر السنة وأكثر.
الهدنة واستمرار السراب
مرّ أكثر من عام على الهدنة بين أطراف الصراع، لكنّ الموظف المنهك لم يلمس ثمرة تلك الهدنة في حصوله على راتبه من سلطة صنعاء، رغم أنّ وزارة المالية ومصالحها مستمرة في جباية الضرائب والجمارك، أضعافًا مضاعفة، وكأن الإيرادات العامة تصب في قربة مخرومة، فالهدنة تعني توفر موارد متاحة للوفاء بالتزامات الحكومة تجاه مئات الآلاف من الموظفين، الذين أصبحوا يرون في الهدنة سرابًا آخر يجلب لهم المزيد من الظمأ والمعاناة.
وجود خلل في تلك الترتيبات، سيؤدي إلى عدم توفر احتياطيات كافية من النقد الأجنبي، وقد يلجأ البنك المركزي، بعدن، لطباعة نقود جديدة لإقراض الحكومة، بهدف تغطية نفقات المرتبات وغيرها، وذلك يعني تدهورًا أكبر لسعر صرف الريال، وقد تصبح القيمة الحقيقية للمرتب أقل من خمس قيمته السابقة قبل الحرب.
وتتداول الأخبار عن وجود مفاوضات بين أطراف الصراع حول تمديد الهدنة وإمكانية التوافق على إعادة تصدير النفط والغاز واستغلال عوائدها لدفع مرتبات موظفي الدولة، ولا أحد يعلم متى ستتحقق أحلام اليقظة هذه، وكأن لعنة المرتبات ستظل تطارد موظفي الدولة حتى آخر رمق من حياتهم، كما أنّ صرف المرتبات من عوائد النفط والغاز تحتاج إلى ترتيبات مؤسسية وتنظيمية وإدارية يجب التوافق عليها بين أطراف الصراع:
- وأولها؛ الترتيبات المتعلقة بتصدير النفط، فهل سيتم التصدير من ميناء رأس عيسى على البحر الأحمر عبر الأنبوب الممتد من مارب إلى الحُديدة، والذي يحتاج إلى صيانة وإعادة تأهيل، أم سيتم التصدير عبر موانئ رضوم وقنا بشبوة، والتي تعتبر غير مجدية اقتصاديًّا، وكل ذلك يتطلب حوارات جادّة بين مؤسسات قطاع النفط من الطرفين، بهدف تحييد القطاع عن الصراعات والمناكفات، فثروات النفط والغاز تعتبر ثروات سيادية وتمتد على خارطة اليمن من شرقه إلى غربه، ويجب أن تصب عوائدها في مصلحة المواطنين في عموم اليمن.
- وثانيها؛ تصدير الغاز الذي يتطلب الكثير من الترتيبات مع الشركة المشغلة "توتال إنرجي"، والتي تحتاج العقود الموقعة معها إلى مراجعة وتمحيص لحماية حقوق اليمن السيادية، سواء في جانب التسعير لوحدة الغاز المسال أو في جانب حصة الحكومة من الأرباح أو في جانب كمية الإنتاج المحددة بالعقود أو في جانب الاحتياطيات المحددة للدولة.
- وثالثها؛ تفعيل الربط الشبكي بين مكاتب البنك المركزي في عدن وصنعاء والحديدة وغيرها من الفروع، لضمان توحيد وتدفق البيانات والمعلومات المالية والمحاسبية المتعلقة بكشوفات المرتبات، ووجود حسابات حكومية موحدة تصب فيها عوائد النفط والغاز والموارد السيادية الأخرى من الضرائب والجمارك في عموم البلاد، ومنها تصرف المرتبات بعملة موحدة في مناطق صنعاء وعدن، ليمثل ذلك الخطوة الأولى لإعادة توحيد البنك المركزي.
ووجود خلل في تلك الترتيبات سيؤدّي إلى عدم توفر احتياطيات كافية من النقد الأجنبي، وقد يلجأ البنك المركزي، بعدن، لطباعة نقود جديدة لإقراض الحكومة، بهدف تغطية نفقات المرتبات وغيرها، وذلك يعني تدهورًا أكبر لسعر صرف الريال، وقد تصبح القيمة الحقيقية للمرتب أقل من خمس قيمته السابقة قبل الحرب.
كل هذه المحاذير تحتاج إلى إيضاحات من طرفي الصراع، حتى لا تكون أخبار المرتبات "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا".
وختامًا، يمكن القول لكلٍّ من سلطتَي صنعاء وعدن: كفى لعب بورقة مرتبات الموظفين، فالموارد المالية المتاحة لديكم تمكنكم من صرف المرتبات، والتي تعتبر حقًّا دستوريًّا وقانونيًّا لجميع الموظفين، وعليكم تقع مسؤولية الوفاء بالعهود والعقود المبرمة بين الموظفين ومؤسسات الدولة، كما أنكم تتحملون وزر التمادي في حرمان الموظف من حقوقه المشروعة، فالواجب القانوني والأخلاقي يحتم عليكم التخلي عن المماحكات والمناكفات، والتحلي بالصدق والإخلاص في معالجة ما خلفته الحرب من دمار وويلات ليس في البنيان فحسب، بل في الإنسان وكرامته وعزته، ويأتي في المقدمة شريحةُ الموظفين الذين يعانون الأمرّين لتدبر سبل العيش الكريم لهم ولأسرهم... والله المستعان!