أدّى بناء مصافي الزيت البريطانية، ونقل القواعد العسكرية البريطانية من مصر إلى عدن في بداية الخمسينيات- أدّى إلى انتعاش الحركة العمرانية والتجارية، وأوجد كثيرًا من الصناعات الخفيفة المتنوعة، ووسّع النشاط الاقتصادي؛ إذ أوجد كثيرًا من الشركات الأجنبية مثل شركة "ماذر كات"، وشركة "س. س. س"، للعمل مع شركة النفط أو الشركة المقاولة معها "بكتل" و"ومبي" لبناء المصافي والمرافق التابعة لها، كما أدّى كلُّ هذا إلى إيجاد العديد من شركات المقاولات اليمنية للبناء، والتي قامت ببناء متطلبات القيادة البريطانية من منازل لأفرادها، ولقيادة سلاح الطيران بالدرجة الأولى.
وقد تطلب ذلك وجود عدة آلاف من الأيدي العاملة الماهرة والعادية للقيام بتلك الأعمال، ولشغل الوظائف التي وُجدت، ومِن ثَمّ فقد أخذت الشركات الغربية -الموجودة سابقًا– في التوسع في منشآتها، واستيعاب كثير من العمّال في أعمالها، وقد توزع العاملون في بعض المرافق حتى عام 1957، على النحو التالي:
- في المطاعم والفنادق والمنازل، أكثر من 20000 عامل.
- في أعمال البناء، أكثر من 10000 عامل.
- في القوات المسلحة، 11600 عامل.
ومع ذلك، فحتى أواخر عام 1955، لم تكن هناك نقابات عمّالية، ولا حركة عمّالية، ولا نشاط عمالي، ورغم قسوة الأعمال وشروطها المجحفة؛ حيث كانت أجور العمال محدودة، وضئيلة جدًّا، فالشاب الذي يريد الالتحاق بالعمل مع بعض الشركات كعامل فني، عليه أن يعمل ستة أشهر أو سنة بدون أجر، وفي السنة الثانية يتقاضى (39 شلنًا) كأجر شهري، وفي السنة الثالثة (45 شلنًا)، وفي السنة الرابعة يحصل على علاوة شهرية قدرها (10 شلنات)، وبذا يصبح أجره الشهري (55 شلنًا). وكانت ساعات العمل في الساعة السابعة صباحًا حتى الخامسة مساءً، بما في ذلك ساعات العمل في شهر رمضان، كما كانت العطلة الأسبوعية يومًا واحدًا فقط، هو يوم الأحد.
ورغم وجود بعض الجمعيات للموظفين والعاملين في بعض الشركات، إلّا أنّه لم يكن لأيٍّ منها أيّ نشاط نقابيّ أو اهتمامات عمّالية، رغم الظروف القاسية التي كان العمّال يعيشونها، وهذه الجمعيات هي:
1- جمعية مالكي السيارات وسائقيها.
2- رابطة العمّال والفنيين.
3- اتحاد عمّال وموظفي خطوط عدن الجوية.
4- جمعية موظفي سلاح الطيران.
بقيت الأمور تسير بهذه الصورة حتى أواخر عام 1955، إذ بدأ العمّال يحسون بالضياع والظلم وقسوة الظروف التي يعيشونها، وبالفارق في الأجور التي يتقاضونها، وتلك التي يتقاضاها عمّال المصافي؛ فقد أصبح العاملون القدامى الذين قضوا أكثر من عشرين عامًا في أعمالهم يتقاضون أقل من نصف الأجور التي يتقاضاها العاملون الجدد في المنشآت الجديدة، وذلك نتيجة لتفاوت شروط العمل التي استحدثت بعد تزايد الأعمال.
أخذ العمّال القدامى يتقدمون بمطالب إلى الشركات لتحسين أجورهم، إلّا أنّ الشركات رفضت الإصغاء إليهم أو الاهتمام بمطالبهم؛ فتبنّت الجبهة الوطنية المتحدة –التي كانت تنشط لمقاطعة انتخابات المجلس التشريعي– مطالبَ العمّال، وتقدّمت بها إلى الشركات باسم العمّال، إلّا أنّ الشركات رفضت مقابلة أي مسؤول في الجبهة أو التفاوض معه باسم العمال ونيابة عنهم؛ فأخذ المسؤولون في الجبهة يعملون على تكتيل العمّال في نقابات، وتوجيههم وقيادتهم، وتحوّلت مطالب العمّال من مطالبة بزيادة الأجور إلى المطالبة بالاعتراف بنقاباتهم، ودخل العمّال في مجابهة مع أصحاب الشركات الذين تكتلوا؛ للوقوف ضدّ مطالب العمال، وهي المطالب التي لم يألفوها من قبل.
وكانت السلطات البريطانية قد أجازت في عام 1942، تكوين النقابات العمّالية، إلّا أنه لم تُشكَّل أيّ نقابة بسبب عدم انتشار الوعي، ولعدم وجود تجمعات عمّالية؛ إذ لم تكن هناك كثافة عمالية يومها في المرافق والشركات الموجودة عدا محطة تموين البواخر بالفحم الحجري، ومع ذلك فقد تأسّست الجمعيات التي أشرنا إليها سابقًا بموجب ذلك القانون.
وعندما أخذ العمّال في أواخر عام 1955، يؤسّسون نقاباتهم، كان للسلطات موقفٌ آخر؛ فبدلًا من أن تضغط على الشركات للالتزام بالقانون الذي سنّته، وتعترف بالنقابات، عملت على مساندة الشركات في رفضها وتدعيم عنادها؛ ممّا دفع بالعمال إلى اللجوء إلى الإضراب؛ فتفجرت الإضرابات بين عمّال الشركات، ودام إضراب عمّال شركة (لوك توماس)، وهي أقدم شركة بريطانية في عدن، نحوَ شهر ونصف، وقد لجأت السلطات إلى الشرطة المسلحة المعروفة باسم (آرم بوليس) في محاولة لتفريق العمّال المضربين؛ ممّا أدّى إلى إصابة بعض العمّال، وسقوط أول شهيد للعمال في عدن الصغرى (البريقة).
عندما فشلت الشركات من إعادة تسيير أعمالها بالقوة، عمل بعضها على تركيز واجهات أخرى أجنبية ويمنية في بعض مؤسساتها؛ لتتولى هذه الواجهات الإدارةَ، والتصدي للعمّال، بزعم أنّها قد أصبحت مالكة لها، ولحقَ –نتيجة لذلك– الكثير من الضرر؛ إذ سرحوا من أعمالهم، وعاد البعض الآخر بأجر يومي، ومن الشركات التي انتهجت هذا الأسلوب شركة (لوك توماس)، وشركة (بول رايس)، وشركة (البس).
ومع ذلك، نجح العمّال في إضرابهم، وانتزعوا اعتراف الشركات بنقاباتهم شركةً بعد أخرى، بعد أن لحقت بهذه الشركات الخسائر المادية الفادحة، ودفع هذا النجاح العمّالَ الآخرين لتكوين نقاباتهم التي بلغت حتى أواخر عام 1956، سبعَ نقابات أخذ أعضاؤها يعقدون الاجتماعات المتوالية لتنسيق مواقفهم، وتوحيد كلمة العمّال أفرادًا وقيادة.
وفي 3 مارس 1956، أعلن عن تكوين مؤتمر النقابات العمالية الذي تكون من النقابات السبع، وكان تمثيل هذه النقابات في المؤتمر على النحو التالي:
عن نقابات العمّال الفنيّين:
السيد زين صادق - صالح الكعكي – محمد صالح سعيد.
عن اتحاد خطوط عدن الجوية:
عبدالرشيد بيج – عبدالله الأصنج – محمد عبده قاسم – سعيد الصومالي.
عن نقابات عمال شركة كوري براذرس:
عبده خليل سليمان – نور الدين قاسم.
عن نقابة عمّال شركة البس:
علي عثمان جرجرة – محمد ناصر محمد – عبدالوهاب شعوة.
عن نقابات عمّال لوك توماس:
عبدالقادر فروي.
عن نقابة المعلمين:
محمد عبده نعمان – جعفر علي عوض.
عن نقابة عمّال الميناء:
أحمد طميش.
وقد تكونت نقابات أخرى بعدها، وانضمّت إلى المؤتمر العمالي، وقد انتخب السيد زين صادق رئيسًا للمؤتمر، وعبدالله الأصنج أمينًا عامًا.
في أثناء ذلك النشاط العمّالي والإضرابات التي امتدت حتى نهاية 1956، أقدمت السلطات على اعتقال بعض العناصر النقابية من مواليد الشمال، ومنهم: محمد عبده نعمان من نقابة المعلمين، وأمين عام الجبهة الوطنية، ويحيى العلفي من عمال شركة (س. س. س) اللبنانية، وزميله الحاج صالح العشملي، وطردتهم من عدن بسبب نشاطهم النقابي، وطردت بعدهم الآلاف من العمّال بغية إضعاف الحركة العمالية.
جاء تكوين المؤتمر تجسيدًا للوحدة اليمنية، حيث ضم في عضويته وفي النقابات التي يمثّلها عمّالًا من شمال اليمن وجنوبها الذين توحدت مصالحهم وهمومهم ومشاكلهم.
_____________
(*) من كتاب لمحات من تاريخ حركة الأحرار، علي محمد عبده، الجزء الثاني، منتدى النعمان الثقافي، والمعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء، الطبعة الأولى 2003، ص (83-87).