من أوائل الكلمات التي بدأت أتهجّاها في طفولتي كلمة "عامل" في البطاقة الشخصية لوالدي، ومن أهم الأحداث التي أتذكرها من طفولتي حديثُ أهل القرية عن ظهور والدي في التلفزيون في تكريمه بيوم العمّال العالمي، حسب أبناء قريتي العائدين من المدينة بهذه البشارة لعائلتي وهم يشرحون لها سبب عدم عودته إلى القرية، كما هو معتاد كل خميس.
منذ طفولتي، أسمع عن عمل والدي في أحد مصانع مدينة تعز، كان الجميع يتحدث عن مثابرته ومبادرته وتميزه بين زملائه من عمّال المصنع، وهو ما جعله يترقى ويكسب ثقة إدارة المصنع ومُلاكه، واستمرت تلك السمعة التي حملها معه إلى موقعه الجديد كمدير لمشروعه الخاص الذي أسّسه وكافح من أجل نجاحه كعامل كفؤ يحمل صفة "المدير". ومنذ طفولتي وحتى الآن، سمعت الكثير من كلمات التقدير والإشادة من كل من عمل مع والدي وتعامل معه في مختلف المواقع والأماكن التي عمل فيها، وكان الناس يغمروني بلطفهم حين يعرفون أنّي ابن خالد عبيد، وينعمون عليّ ببعض من ذلك التقدير والاحترام، وهو ما حمّلني مسؤولية دائمة لضبط كل فعل بما يليق بتلك السمعة وذلك التقدير.
تعلمت من والدي أنّ العمل والكد قيمة سامية، وأن كل عمل له قيمته ويضيف للإنسان، ويستطيع أن يبثّ فيه من روحه، وأنه لا يوجد عمل مهم وعمل غير مهم، فكل جهد وعمل تحدد قيمته عنايةُ الفرد التي يبذلها له، ودأبه وشغفه فيه، وليس نوع ذلك العمل ولا مستواه.
كان والدي يردد على مسامعي، منذ طفولتي: "إذا كانت الأمة بحاجة لصناعة عود الكبريت، صار واجبًا على كل فرد فيها العمل لتأمين هذه الحاجة".
تمثّل والدي في كده وتعبه نموذج الصنائعيّ المبتكِر، يبتكر الحلول والآلات والأفكار، ولا يكل أو يمل من إخفاق التجربة الأولى والثانية والمئة، حتى يصل لهدفه، يبحث ويصوّب ويجرّب.
لقد كان والدي العامل يتدفق في كل نقاش، مذ كنت طفلًا، بمعرفة استثنائية، راكمها من خلال سلسلة طويلة من التجارب العملية، فمنذ وقتئذٍ وهو يناقشني في كل كبيرة وصغيرة، لذلك كان بالنسبة لي مصدرًا أساسيًّا لحيازة مفاتيح مستنيرة للقيم والمعارف والتصورات والمهارات اللازمة لشق طريقي الخاص، وقد كان طوال حياته بالنسبة لي "المثل الكائن"، عايشت اتساقه ونقاءه وسويته، عايشت الصدق والسخاء واللين والبساطة والتسامح، وعايشت حبه للناس كل الناس.
خلال ما مر من عمري، أدركت، على وجه اليقين، تجارب عدد لا محدود لنماذج ملهمة لكفاح العاملات اليمنيات والعاملين اليمنيين بطول البلاد وعرضها، تشابه تجاربهم وحكاياتهم مع حكاية أبي وكفاحه، ولولا تلك التجارب والحيوات الزاخرة والسخية، لما استمرت دفة الحياة في هذه البلاد بالصورة التي نعايشها في ظل كل الكوابح المنذورة عمدًا لإعطابها، ولذلك تحضرني وأنا أستحضر سيرة والدي العامل، كلُّ قصص وكفاحات العاملات اليمنيات والعاملين، وأوجّه لهن ولهم، في عيد العمال العالمي، بامتنان وغبطة، كلَّ التقدير والحبّ والتحايا.