في معمل لإنتاج البلك (نوع من أحجار البناء، يصنع من مادة الإسمنت)، في منطقة بمحافظة لحج (جنوب اليمن)، يقضي الشاب شوقي حفيظي (28 عامًا)، أغلب ساعات نهاره في صناعة هذه الأحجار الخاصة بالبناء، في برنامج يوميّ يتبعه منذ ثماني سنوات، من أجل كسب لقمة العيش والإنفاق على أسرته المكونة من ستة أفراد.
عملية شاقة تبدأ من السابعة صباحًا وتنتهي في السادسة مساء، يتصبب عرقًا تحت حر الشمس الساطعة لإنتاج زهاء 400 قطعة من الأحجار المسطحة من "البلك"، ليعود في آخر النهار بعشرة آلاف ريال نحو منزله.
يقول الحفيظي لـ"خيوط"، إنّه يعمل في صناعة "البلك" لانعدام فرص العمل الأخرى، لافتًا إلى مشقة العمل في هذه المهنة والتي تأخذ الكثير من الجهد والوقت، إذ تمر بمراحل عدة، تبدأ بجمع مادتَي "النيس" و"الكري" بعد جلبهما، وخلطهما بمادة الإسمنت، وتدويرها عدة مرات قبل وضعها في الآلة الخاصة بصناعتها.
ويسطّر عمّال اليمن في البناء والتشييد والإنشاءات ومختلف الأعمال في القطاعات الاقتصادية والخدمية والإنتاجية، قصصَ كفاح ملهمة، يواجهون فيها صعوبات وتحديات تفوق قدراتهم على تحملها، لا تتوقف عند حدود الحرب وتبعات الصراع والغلاء والانقسام المالي والنقدي، كما ترصد "خيوط" ذلك بتسليط الضوء على فئة عمّالية مهمة تعمل في مجال البناء بصناعة وإنتاج البلك وتوقيص (تقطيع وتشذيب) الأحجار.
جهود شاقة
يقدر استهلاك كيس الإسمنت الواحد (50 كيلوغرامًا)، بين (30-40) حبة بلك، حيث يقوم هذا العامل باستهلاك نحو عشرة أكياس من مادة الإسمنت، لكن أجره اليومي من عمله في مصنع البلك، ينفقه في مصروفه اليومي من الغذاء والوجبات ومستلزمات أخرى خاصة بالعمل، وهو ما لا يسمح له بتوفير مالٍ مناسبٍ يغطي احتياجات أسرته المعيشية.
وقيص الأحجار (تقطيعها وتشذيبها بآلة يدوية أو منشار) يسير في فلكها الحاج محمود المشولي، منذ ما يزيد على 40 عامًا، بمنطقة البرح (غربي محافظة تعز)، وهي المهنة التي باتت السند الرئيس له خلال سنوات الحرب والصراع في اليمن، التي تصل إلى تسعة أعوام.
يشاركه زميله العامل محمد جهيمة -الذي يعمل في ذات المصنع، وهو من مدينة الحُديدة- الحسرةَ على ضياع جهده في العمل في صناعة "البُلك"، حيث تهدره شركات الصرافة عند التحويل لأسرته؛ نظرًا لفارق الصرف بين محافظة الحديدة (شمال غربي اليمن) والخاضعة لسيطرة "الحوثيين"، وبين لحج في جنوب اليمن الخاضعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، وهو ما يجعل مهمته شاقة لجمع ما أمكن من المال من أجل إرساله في منطقة زبيد بالحديدة.
يقول جهيمة أنه منذ وصوله في السنوات العشر الأخيرة لم يعمل سوى في مهنة البلك، فهو لم يستطع من هذه المهنة، توفيرَ شيء غير توفير المصروف اليومي، حيث إنّ المردود المالي يعتمد على حجم الإنجاز، فضلًا عن توقف العمل بعض أيام الأسبوع؛ كون ظروف الناس الاقتصادية حدت من قدرات الناس الشرائية، فبات الناس يفكرون في الأولويات. وزاد من معاناة جهيمة، التحويلُ المالي حيث تأخذ شركات الصرافة نصف المبلغ المحول كعمولة مقابل التحويل، وهو ما يضيع عَرَق عمله لتوفير متطلبات أسرته في الحديدة.
تقدر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء (حكومي)، اطلعت عليها "خيوط"، وجود حوالي أربعة ملايين عامل في القطاعات والأنشطة غير المنظمة في اليمن، منهم 75% يعملون في القطاع غير الحكومي.
تشذيب الأحجار
وقيص الأحجار (تقطيعها وتشذيبها بآلة يدوية أو منشار)، يسير في فلكها الحاج محمود المشولي، منذ ما يزيد على 40 عامًا، بمنطقة البرح (غربي محافظة تعز)، وهي المهنة التي باتت السند الرئيس له خلال سنوات الحرب والصراع في اليمن التي تصل إلى تسعة أعوام.
مع تقدم العمر، ازداد الوضع سوءًا عند المشولي، فقد صار في نهاية الستينيات من عمره، في ظل تعرضه لعوارض صحية أضعفته، لكنه يتشبث بهذه المهنة ("وقيص" الأحجار الخاصة بالبناء) التي يقتات منها، كخيار وحيد للإنفاق على أسرته، إذ يؤكّد لـ"خيوط"، أنّ قدرته على العمل والكسب والعيش من هذه المهنة، تأثرت بوعورة المنطقة التي يقطنها، والتي أضعفت قدراته في تطوير وضعه .
ينجز محمود في اليوم عشر أحجار فقط، يقضي يومه في تسويتها، وهي مهنة صعبة ليست سهلة كما يقول، وتنجز وفق قياسات معينة قبل أن يشتريها منه الزبائن الذين يفدون من مناطق الوازعية والشمايتين في تعز، ومن مناطق مختلفة بمحافظة لحج.
في حين انقطعت السبل بالعامل علي هزاع، الذي لم يعد قادرًا على الذهاب نحو المناطق الأخرى، لتراجع نسبة فرص العمل، وعدم تلبية تلك الأعمال لمتطلبات أسرته، ليتخذ من مهنة وقيص الأحجار وتسويتها مهنة العيش الممكنة لكسب قوته في ظل الظروف الصعبة.
ويؤكّد هزاع، لـ"خيوط"، أنّ العمل في هذه المهنة عملية صعبة جدًّا وتحتمل مخاطر ومتاعب في ظلّ شح المردود منها، حيث لعب الفقر والبطالة دورًا كبيرًا في تراجع الإقبال على هذه المهنة، وبات الناس يفكرون في توفير المتطلبات الرئيسة لتوفير لقمة العيش.