تعد صحيفة "الطليعة" أول صحيفة أهلية صدرت في شمال اليمن، تحديدًا في مدينة تعز، يوم الأحد 3 ربيع الآخر سنة 1379هـ الموافق 4 أكتوبر سنة 1959م، لتكون ناطقة باسم "مكتب تحرير الجنوب". صاحبها ورئيس تحريرها (عبدالله عبدالرزاق باذيب).
جاء صدورها استجابة للحظة تاريخية حافلة بالكفاح الوطني ضدّ الاستعمار البريطاني، وفي أجواءٍ من الجدل والتنافس الأيديولوجي بين فصائل ومكونات الحركة الوطنية اليمنية التحررية. فقد ظهرت عدة اتجاهات، ورُفعت عدة شعارات، ضدّ الاستعمار الإنجليزي الذي كان قد دعا إلى إقامة كيان سياسي فيدرالي يضم المحميات وعدن تحت اسم "اتحاد الجنوب العربي". فـ"رابطة أبناء الجنوب" ذات التوجه القومي رفعت شعار "إقليم لا جمهورية"، ودعت إلى الاستقلال والوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. وكذلك "المؤتمر العمالي" و"الاتحاد اليمني" في عدن دعيا إلى الاستقلال والوحدة اليمنية الشعبية، وإلى إقامة "الجمهورية اليمنية". أما الجناح الثالث الذي مثلته بعض القيادات ذات التوجه اليساري، وعبرت عنه "الطليعة"، فقد دعا إلى التحرر الوطني الكامل والوحدة اليمنية مع تطوير الأوضاع المتخلفة في اليمن وضمان استقلاله.
اختير اسم "الطليعة" بما يتوافق ودورها النضالي وكفاحها الطليعي ضدّ الاستعمار البريطاني، حيث تبنّت نهجًا واضحًا اتسم بمقاومة الاستعمار، وفضح أساليبه ومخططاته في الجنوب اليمني. وهو الاسم الذي نال استحسان الكثير من القرّاء؛ "الطليعة هو الاسم الذي اخترناه لهذه الصحيفة... وهو الاسم الجدير بصحيفة تصدر في اليمن ذات التراث الخالد والروح الطليعية. فلقد كانت بلادنا في الطليعة دائمًا"، كانت أول دولة عربية انتهجت مبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وأول من أقامت العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الدول الاشتراكية، وأول دولة عربية تبادر إلى الانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة. وعليه تم اختيار اسم "الطليعة" للصحيفة لتكون هي الأخرى في طليعة النضال الوطني ضدّ الاستعمار البريطاني.
تحدّدت أهداف "الطليعة" منذ افتتاحية العدد الأول، والتي تنسجم مع طموح واتجاه رئيس التحرير الذي عمل على ترجمتها في خطاب الصحيفة، والتي كانت السبب المباشر في إصدارها، وهي على النحو التالي:
1- مقاومة مشاريع الاستعمار وفضح أساليبه ومخططاته في الجنوب.
2- تطوير الأوضاع المتخلفة في الشمال.
3- حماية وتأمين استقلال اليمن ضد مؤامرات الاستعمار وأطماع الطامعين في الداخل والخارج.
4- العمل من أجل يمن حر موحد سعيد.
كما تلخصت (رسالة الطليعة) في السعي إلى تحقيق الوحدة العربية التي يضمها وطن واحد ترفرف عليه راية الحرية والمحبة والعدالة الاجتماعية، وجعل نفسها منبرًا لأقلام الشرفاء والمؤمنين بحرية ووحدة الشعب العربي وحقه في حياة كريمة.
وبعد استئناف صدورها –جراء توقفها بسبب الضغط والتآمر الاستعماري عليها– جدّدت "الطليعة" تأكيدها على مواصلة رسالتها؛ إذ قالت: "تعود الآن في ظروف مشابهة لترفع عاليًا راية الكفاح ضدّ الاستعمار، وراية الدعوة إلى التطور الاقتصادي المستقل من أجل صيانة الاستقلال الوطني، ومن أجل التحرر التام والوحدة اليمنية، ومن أجل التقدم والازدهار والرفاهية والغد الباسم".
ربطت "الطليعة" علاقة جيدة مع السلطة الإمامية فرضتها طبيعة العداء المشترك للاستعمار البريطاني، والدعوة إلى وحدة اليمن الطبيعية. تبدّت في كثير من مقالاتها لكأنّها رسمية الخطاب والتوجه. تركزت مقالاتها على العناوين الرئيسة التالية:
1- الوحدة اليمنية
كانت "الطليعة" وحدوية في خطابها ومواقفها. لم تتخلَّ عن هذا المبدأ طوال مراحل صدورها، ولم تغفله كل أعدادها التي أكّدت عليه وسعت إلى تحقيقه، وجعله من أولويات مهامها وأهدافها؛ "بل الوحدة اليمنية أولًا" مقدمًا على الوحدة العربية، وقالت: و"الذين لا يؤمنون بالوحدة اليمنية لا يمكن أن يكونوا إلا كافرين لوحدتنا العربية، ونحن لن نستطيع تحقيق وحدتنا العربية ما لم نحقق وحدتنا اليمنية أولًا". ومثلما قدمت الوحدة اليمنية على الوحدة العربية، قدمتها –أيضًا– على المشاريع الانفصالية التي روج لها الاستعمار واستجاب لها بعض الناس مثل مشروع الحكم الذاتي لعدن الذي طرح من قبل تحت شعار "عدن للعدنيين"، ومشروع الاتحاد الفيدرالي للمحميات المطروح تاليًا تحت اسم "اتحاد الجنوب العربي"، واعتبرت الدعوة إليهما أو مجرد الترويج لثقافتهما خيانة وطنية عظمى وصفتها بـ"مؤامرة على اليمن" يحيكها الاستعمار البريطاني ويباركها عملاؤه من السلاطين، وقالت في هذا الصدد: مثلما فرضت بريطانيا مشروع الحكم الذاتي لعدن من قبل، ها هي تعود الآن وتفرض من جديد مشروع الاتحاد الفيدرالي للمحميات كردّ فعل لاتحاد اليمن المستقل مع الجمهورية العربية المتحدة، وكوسيلة لإضفاء الصفة الشرعية لوجودها، إلى جانب محاولة تشديد قبضتها على المنطقة وقطع الطريق على وحدة عدن والمحميات مع اليمن الأم، "ولعلنا ندرك الآن لماذا بدأ الانفصاليون في حركتهم قبل أكثر من خمس سنوات تحت شعار "الحكم الذاتي لعدن" و"عدن للعدنيين"، ولماذا عادوا –هم أنفسهم– يدعون إلى دولة واحدة في الجنوب تتألف من عدن والمحميات. إنهم يغيرون مواقعهم تبعًا لتغير مواقع السياسة البريطانية".
وفي سبيل الوحدة اليمنية، خاضت "الطليعة" سجالًا سياسيًّا وإعلاميًّا مع مختلف القوى والتيارات ذات الاتجاهات المغايرة لرؤيتها بلغ حد المهاترة والتخوين. من نماذج ذلك، سلسلة "معارك مفتعلة في صحف عدن" التي خصصتها لهذا الشأن، والتي تناولت فيها العديد من القضايا السياسية الشائكة –حينئذٍ– والمتعلقة بالوحدة اليمنية وقضايا التحرر اليمني.
وفي سبيل الوحدة اليمنية، خاضت "الطليعة" سجالًا سياسيًّا وإعلاميًّا مع مختلف القوى والتيارات ذات الاتجاهات المغايرة لرؤيتها بلغ حد المهاترة والتخوين. من نماذج ذلك سلسلة "معارك مفتعلة في صحف عدن" التي خصصتها لهذا الشأن، والتي تناولت فيها العديد من القضايا السياسية الشائكة –حينئذٍ– والمتعلقة بالوحدة اليمنية وقضايا التحرر اليمني. فقد اتهمت القوى التي لا تقول بضم مستعمرة عدن والمحميات إلى اليمن الأم تحت حكم الإمامة بالتحالف مع الاستعمار، وشكّكت في وطنية أعضائها وقوميتهم، قائلة: "ولقد آن الأوان لكي يعرف الشعب أنّ الرابطة ليست فارسة القومية العربية في اليمن، وإنما هي هيئة انفصالية تشدها أحلام السلاطين، وأن الأصنج ليس فارس الوحدة اليمنية وإنما هو ربيب الانفصاليين والإنجليز وخائن الطبقة العمالية والطفل المدلل لشركة خطوط عدن الجوية البريطانية، و"الوجه الشعبي" الزائف لعلي لقمان فتى الانفصالية الأول في عدن، وأنّ الاتحاد اليمني ليس فارس الجمهورية اليمنية، وإنما هو مجرد احتياطي للاستعمار وحليف للقوى الانفصالية في عدن ومجرد حزب انتهازي، وأنهم كلهم انفصاليون يخدمون -بقصد أو غير قصد وبوعي وبلا وعي– خططَ الاستعمار وأهدافه القريبة والبعيدة في الجنوب والشمال"، وقالت: إنّ الشعارات التي ترفعها تلك الأطراف سابقة لأوانها، إن لم تكن شعاراتية زائفة أكثر منها حقيقية واقعية، حيث القضية الأولى هي الاستقلال والتحرر والوحدة اليمنية وتطوير الأوضاع المتخلفة في الجزء المستقل من اليمن. ومن أجل الحفاظ وتحقيق ذلك، واصلت هجومها اللاذع على من أسمتهم بالانفصاليين حلفاء الاستعمار حيث اتهمتهم بممارسة الوصولية والانتهازية بغية الوصول إلى سدة الحكم بطريقة غير شرعية، ووصفت تحالفهم المؤقت أو التكتيكي –حسب تعبيرها– بـ"شركة الرابطة، الأصنج، الاتحاد اليمني، المحدودة" أي إنها كيانات منتجة استعماريًّا تهدف إلى تلبية رغبات وأطماع الاستعمار. المهم في الأمر أنّ هذه المقالة تجلى فيها اتجاه الصحيفة نحو قضايا الوطن وقضايا (التحرر، الوحدة، الاشتراكية)، وهي الرؤية التي جعلت صاحبها يتحالف –حينًا– مع الإمام أحمد نتيجة لتقارب الأخير مع دول الكتلة الشرقية، وتوافق بعض رؤاهما تجاه الاستعمار، حيث اختتمت هذه السلسلة بالقول: إنّ المعارك الدائرة في صحافة عدن، إنما هي مفتعلة من قبل الاستعمار البريطاني بهدف زعزعة الأمن والاستقرار في اليمن الأم والتأثير في الاستقرار.
2- الكفاح والتحرر
يشكّل الكفاح الوطني المتمثل في محاربة الاستعمار البريطاني، الهدفَ الاستراتيجي لصحيفة "الطليعة"، إن لم يكن هو الأساس في إصدارها، المتزامن مع فتح "مكتب تحرير الجنوب" في تعز لذات الغرض. ولقد جسدته واقعًا، وكرست معظم مواضيعها لخدمة هذا الهدف النبيل. تجلى من خلال خطابها الثوري ذي النزعة اليسارية الموجه صوب الاستعمار وعملائه. فقد استهلت عددها الأول بالتشهير بسياسات الاستعمار وفضح مخططاته؛ "الإنجليز يتآمرون على بترول ثمود"، وانتقدت عقد الاتفاقيات غير المتكافئة بين حكومة عدن الاستعمارية وبين سلاطين المحميات حول موضوع البترول، واعتبرتها غير شرعية، وأنّ إبرامها مع سلاطين غير شرعيين يعدّ نهبًا وتعدّيًا على الثروة الوطنية، وتآمرًا عليها وعلى الوطن. وقالت: إنّ بريطانيا سوف تماطل في تنفيذ تلك الاتفاقيات، ولم تبدأ باستخراج البترول على الفور ريثما تنفذ مشروع الاتحاد الفيدرالي في الجنوب، لتصبغ من ثَمّ الاتفاقيات التي تنوي عقدها مع السلاطين بصبغة شرعية زائفة، وهو ما عارضته ورفضته "الطليعة". كما أنّها فضحت الأعمال الإرهابية التي كانت تقوم بها بريطانيا من ترويع للمواطنين بضرب الطائرات والاعتقالات والاستحواذ على الثروة وإحكام قبضتها على المحميات للحيلولة دون تحقيق وحدة اليمن... إلخ. لذا طالبت "الطليعة" من الشعب اليمني التيقظ ووحدة الكلمة ووحدة الكفاح الوطني؛ "فلنعِ مسؤوليتنا ولنقف جميعًا جبهة كفاحية واحدة متراصّة، ولنثق في أنفسنا وفي قوانا المذخورة الكامنة، ولنثق أكثر من ذلك أننا لسنا وحدنا في المعركة، وأنّ معنا كل قوى التحرر العربي وكل الشعوب المحِبة للسلام". كما حذرت من عقد أية اتفاقية غير متكافئة بين أي سلطنة وكلٍّ من أمريكا وبريطانيا.
3- التوجه اليساري
عمدت "الطليعة" إلى تقديم إصدار عددها الأول إلى 1 أكتوبر عام 1959م، برغم أنه سجل عليه 4 أكتوبر من نفس العام، وذلك لكي يكون متزامنًا مع الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، كنوع من التكريم لهذه المناسبة والمساهمة في نشرها تلك الاحتفالية، وتأكيد انحيازها إلى جانب المعسكر الاشتراكي. وهو ما جعل بعض الباحثين يعدّونها من طليعة الصحف اليمنية الملتزمة أيديولوجيًّا بنهج الاشتراكية، إلى جانب يسارية صاحبها باذيب، الذي شكّل مع زملائه أول تجمع ماركسي في اليمن، وحاول ترجمة هذا الاتجاه في صفحات الطليعة. فهناك العديد من المقالات التي تبدي انحيازًا واضحًا نحو دول الكتلة الشرقية لا مجال لحصرها وتحليلها هنا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قالت في إحدى افتتاحياتها: إنّ اليمن تتجه بسياستها نحو الجبهة العربية التحررية ونحو القوى العالمية للسلام المتمثلة بدول الكتلة الاشتراكية. وطالبت في أكثر من عدد بتمتين الصداقة اليمنية مع تلك الدول، وعلى رأسها الصين والاتحاد السوفيتي، الذين آزرتهم في سياستهم ضدّ الغرب، لا سيما في مجال سباق التسلح الذي شهده العالم آنذاك. كما تمنّت في مطلع العام الجديد أن تستقبله وكلها أمل بانتصار قوى التحرر والاشتراكية وسيادة السِّلْم العالمي، وهو ما يبرهن صحة انحيازها وحقيقة التزامها، بل يحدد بوصلة اتجاهها.