في كثير من محطات تاريخ اليمن القديم والوسيط، كان التجنيد ضمن قوات محاور الصراع والانخراط في الحروب خارج الجغرافية اليمنية، السمةَ الأبرز للتحشيد والتجييش. وكانت البيئات الجافة الطاردة (المناطق القبَلية والبدوية) هي المخزن الاستراتيجي للمقاتلين الذين سهل استقطابهم بالمال والشعارات الدينية والمغريات الأخرى، ولهذا كانوا عماد الجيوش التي تمدّدت شمالًا وشرقًا وغربًا. وإن عائلات برمتها تركت مضاربها وقراها في الداخل اليمني، واستوطنت البلدان الجديدة التي وصلت إليها، وصارت لاحقًا جزءًا من نسيح هذه المجتمعات وثقافتها.
من السخرة إلى المهنة
ولو تتبعنا بعضًا من حالات تجنيد المقاتلين خلال المئة العام الماضية، لوجدنا الكثير ما يشير إلى ملابساتها وظروفها؛ فمع الحرب العالمية الأولى 1914-1918، قام الأتراك بتجنيد مئات الشبان اليمنيين في صفوف قواتهم -طوعًا وإكراهًا- كما كانت تفعل مع الشبان في البلدان التي كانت تحت سيطرتها، خصوصًا في الشام والعراق فيما عرف بـ( الجهادية). لم يعُد أغلب هؤلاء الشبان؛ بسبب موتهم في ظروف الحرب والأوبئة، والقلة منهم من استوطن بلدانًا جديدة وكوّنوا أسرًا في الأردن وفلسطين وسوريا، ويقال أيضًا في بعض بلدان البلقان، حيث خاضت القوات التركية آخر حروبها، للدفاع عن الأراضي التي كانت تحت سيطرتها منذ بدأت بالتوسع غربًا باتجاه أوروبا في القرن الثامن عشر.
في سنوات الحرب الجمهورية الملكية (1962-1970)، انخرط مئات المقاتلين القبليين في صفوف القوات الملكية؛ بسبب الأموال الكثيرة التي كانت تضخها السعودية لحلفائها من بيت حميد الدين ومنظومة الحكم في المملكة المتوكلية التي أزاحتها ثورة سبتمبر بإسناد مصري، لتتحول اليمن إلى مركز للصراع الإقليمي بالوكالة. كان المال في هذا الاستقطاب هو الفاعل الأول، أكثر من الولاء الأيديولوجي والمذهبي.
مع ذروة الحرب العالمية الثانية (1938-1945)، استقطب المتحاربون الكونيون (دول التحالف ودول المحور) ألوف المقاتلين من دول العالم الثالث، ومنهم اليمنيون الذين تجنّدوا في صفوف الطليان والألمان في دول إفريقية؛ منها إثيوبيا، وتجنّدوا في صفوف القوات الفرنسية والبريطانية في مستعمرة عدن وجيبوتي والصومال، وكان الدافع في ذلك اقتصاديًّا بحتًا، ولعب الجهل المركب دورًا أساسيًّا في هذا التجنيد. ولم تزل قصيدة محمد أنعم غالب (الغريب) هي المعاينة الأبرز أدبيًّا لهذه الحالة حين قال في قصيدته الرائدة التي كتبها حين كان طالبًا في القاهرة نهاية الأربعينيات:
"الحرب قامت منذ شهر/ والغلاء نار/ تجارة التطواف/ لا توفر الرغيف/ الحرب قامت منذ شهر/ والمجندون يمرحون/ ويشترون المتعة الأخيرة/ الحرب مربحة/ الحرب لي عمل/ أنا المحارب الشجاع/ أجيد إطلاق الرصاص/ رصاصتي ما أخطأت هدف". وسجل اسمه في دفتر المجندين، ولم يزل يذكر ما في الحرب من أهوال: "حاربت لا دفاعًا عن وطن/ حاربت من أجل الرغيف/ بجانب الفاشيست/ وفي الليالي السود بين الدم واللهب/ رأيت لي أصحاب/ كانوا من اليمن في الجانب المضاد/ حاربتهم وحاربوني/ لا دفاعًا عن مُثل/ وكان لا يهم من يعيش أو يموت".
في ذروة الحرب الجمهورية الملكية (1962-1970)، انخرط مئات المقاتلين القبليين في صفوف القوات الملكية بسبب الأموال الكثيرة التي كانت تضخها المملكة العربية السعودية لحلفائها من بيت حميد الدين ومنظومة الحكم في المملكة المتوكلية التي أزاحتها ثورة سبتمبر بإسناد مصري، لتتحول اليمن إلى مركز للصراع الإقليمي بالوكالة. وكان المال في هذا الاستقطاب هو الفاعل الأول، أكثر من الولاء الأيديولوجي والمذهبي.
حروب الوكالة الدينية
مع الاجتياح السوفيتي لأفغانستان في العام 1980، نشط التيار الإسلامي وقام بتجنيد الآلاف من الشبان للقتال في صفوف القوات المناوئة للحكومة الأفغانية المسنودة بالقوات السوفيتية. التمويلات الضخمة لهذه العملية والدعم الاستخباراتي الغربي والتدريب، أتاح لهذا التيار بناء أذرعه العسكرية والأمنية داخل منظومة السلطة، وقام التيار باختبارها أولًا في حروب المناطق الوسطى (بين الجبهة الوطنية الديمقراطية والجبهة الإسلامية)، وتاليًا في حرب صيف 1994، حين كان (المجاهدون العائدون) هم رأس الحربة في اجتياح المحافظات الجنوبية، وتاليًا في تفكيك المنظومة الثقافية والاجتماعية والعسكرية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والتعدي على المعالم والمنشآت والمزارات والأضرحة.
لم يمضِ وقت طويل على حرب صيف 1994، حتى انخرط مئات المقاتلين اليمنيين المحسوبين على التيار الديني أيضًا في حرب الشيشان الأولى، بين 1995 و1996، إلى جانب مقاتلين عرب من دول أخرى ضد القوات الروسية التي أرادت إخضاع الإقليم في عهد الرئيس بوريس يلتسن، وتاليًا في عهد خليفته فلاديمير بوتن، بين 1999 و2009، وقد عُرف هؤلاء بـ(المجاهدون العرب في الشيشان). وفي حرب البوسنة والهرسك 1992 و1995، خاض المقاتلون اليمنيون أيضًا حربًا (مقدسة) أخرى بدوافع دينية، انتزع منها التيار الكثيرَ من المكاسب في العالم الذي تشكّل بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب الباردة وسيادة القطبية الواحدة التي صعدت معها التيارات الانعزالية والمتشددة دينيًّا، مثل (طالبان والقاعدة) وتناسلاتهما اللاحقة.
مع الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله في 2003، نشطت التيارات الدينية في إرسال المئات من مقاتليها إلى صحراء الأنبار بتسهيلات إيرانية وسورية، حيث أعاد تنظيم القاعدة بناء نفسه خارج أفغانستان بقيادة (أبو مصعب الزرقاوي)، وصار لاحقًا يعرف باسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، الذي تمدّد في العراق وسوريا، وكان الطرف الفاعل في حروب الوكالة حتى اليوم، ولم تخلُ معاركه من منحاها الطائفي في البلد الملغوم طائفيًّا، وأدّت هزيمته في 2017 إلى سيطرة التيار الطائفي الشيعي على كل مفاصل الدولة.
انخراط اليمنيين في حروب الوكالة وتحت لافتات وطنية ودينية، كان ولم يزل بسبب الظروف السياسية والاقتصادية وعدم الاستقرار التي مرت بها البلاد في محطات تاريخية مختلفة، وإن مهنة مثل هذه يذهب ضحاياها المئات من الشبان الذين سدت أمامهم الأبواب، ووجدوا "الموت مدفوع الثمن" في الخارج، يتساوى مع الموت جوعًا في الداخل.
حين يتساوى الموتان
في الحرب اليمنية المستعرة منذ عشرة أعوام، أدّت أطراف النزاع أدوارًا فاعلة في تجنيد عشرات الألوف من الشبان للانخراط في دورات الصراع، وكان للظروف الاقتصادية الصعبة للأُسَر التي فقدت مواردها خلال سنوات الحرب، الأثر المهم في دفع أبنائها الشبان للتجنيد.
وأنا أتابع تقارير صحافية عن عزوف الطلاب عن الالتحاق بالجامعات اليمنية، وكذا تسربهم من التعليم الثانوي، وجدت أنّ واحدًا من أوضح الأسباب في ذلك هو أنهم يفضلون التجنيد في صفوف التشكيلات العسكرية المدعومة من أطراف الحرب بسبب العوائد المالية التي يجنونها، في ظل انعدام الفرص وتوقف المرتبات وانهيار قيمة العملة.
كان لمقتل الدبلوماسي اليمني السابق في سفارة اليمن في موسكو أحمد السهمي في مايو الماضي وهو يقاتل في صفوف القوات الروسية في حربها ضد أوكرانيا المستعرة منذ فبراير 2022، صداه الكبير، وفتح الباب واسعًا أمام أسئلة الكثيرين حول الأسباب التي قادت هذا الدبلوماسي وغيره من الطلاب اليمنيين وطالبي الهجرة واللجوء، إلى الانخراط كمجندين في هذه الحرب التي لا تعنيهم لا من قريب ولا بعيد. أما الإجابة المتفق عليها، فهي أن عدم الاستقرار السياسي بسبب حالة الحرب وما ترتب عليها من صعوبات المعيشة، أنتج مثل هذه الحالة الفاقعة.
الخلاصة في الأمر:
إن انخراط اليمنيين في حروب الوكالة وتحت لافتات وطنية ودينية، كان ولم يزل بسبب الظروف السياسية والاقتصادية وعدم الاستقرار التي مرت بها البلاد في محطات تاريخية مختلفة، وإن مهنة مثل هذه لا تتطلب الكثير من المؤهلات الذهنية، وتلعب شبكات التجنيد والسمسرة الأدوار الأولى في التحشيد والتجنيد أحيانا تصل إلى درجة الاحتيال بإيهام المتقدمين بوظائف أمنية اعتيادية في دول الجوار، وبدلا عن ذلك يجدون أنفسهم في خضم المعارك في الأراضي الأوكرانية، وقد ذهب ضحايا هذه العمليات المئات من الشبان الذين سُدّت أمامهم الأبواب، ووجدوا "الموت مدفوع الثمن" في الخارج يتساوى مع الموت جوعًا في الداخل.
استدراك:
في مطلع الثمانينيات وقبلها بقليل، انخرط العديد من المتطوعين اليمنيين من الشمال والجنوب في صفوف الفصائل الفلسطينية في لبنان، وشاركوا في القتال ضد القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني وبيروت، وفي الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، شارك مئات المقاتلين النظاميين وبغطاء في صفوف القوات العراقية. هاتان الحالتان بحاجة إلى قراءة مختلفة قليلًا من زاوية المشروعية والتحيزات السياسية.