في اليوم العالمي للمرأة والفتاة في ميدان العلوم، (11 من فبراير كل عام)، يُطرح سؤال جوهري حول موقع المرأة اليمنية في هذا الحقل، ومدى قدرتها على اختراق الحواجز الثقافية والاجتماعية التي تحول دون مشاركتها الفعالة، وماهية البنية الفكرية التي تجعل دخول المرأة اليمنية إلى العلوم معركة معرّضة للانتكاس منذ بدايتها.
المشكلة ليست فقط في وجود عراقيل تعليمية أو اقتصادية، بل في طبيعة العلاقة بين المعرفة والسلطة، وفي التصورات العميقة التي أعادت تشكيل وعي المرأة بنفسها ودورها داخل المجتمع. فهل تُقصى المرأة عن العلوم بقرار صريح، أو أن الإقصاء يتم بطريقة غير مرئية عبر أنظمة ثقافية واقتصادية وسياسية؟ في اليمن، حيث يتشابك التاريخ مع البُنى الثقافية العتيقة، تتحول الأسئلة البسيطة حول دور المرأة في العلوم إلى متاهة من التعقيدات في جوانب عدة.
التهميش الناعم
إذا كان التساؤل حول مكانة المرأة في العلوم يتطلب تفكيك البنية الثقافية/ الفكرية، فإن أول ما يجب فهمه هو العلاقة بين السلطة والمعرفة. إن المعرفة والسلطة متلازمتان حسب ميشيل فوكو، فالذي يملك الحق في إنتاج المعرفة هو من يتحكم في بنية السلطة. في المجتمع اليمني، يبدو أن المعرفة العلمية ليست فقط حكرًا على الرجال، بل هي جزء من منظومة أوسع من الامتيازات الذكورية التي تجعل العلم امتدادًا لسلطة الرجل، وليس ميدانًا محايدًا متاحًا للجميع.
إن إخراج المرأة اليمنية من نفق التهميش العلمي، يتطلب ثورة فكرية تتجاوز مجرد توفير فرص التعليم، لتصل إلى إعادة تشكيل المفاهيم التي تصوغ ذاتها وعلاقتها بالمعرفةـ وهنا يكمن التحدي الحقيقي: تحرير المرأة لا يكون بإدخالها إلى الجامعات، بل بتحرير الفضاء المعرفي نفسه من القيود التي تجعل وجودها هناك استثناءً وليس قاعدة.
المجتمع اليمني، شأنه شأن المجتمعات التقليدية الأخرى، يمنح الرجال حرية الحركة التعليمية، بينما يحدد للمرأة مساحات ضيقة للتعلم في بعض الحالات. العائق لا يكمن فقط في إتاحة الفرصة لدخول المؤسسات الأكاديمية، بل في النظرة الثقافية التي ترى المرأة جسدًا أكثر منه عقلًا مفكرًا. وهذا يعكس ما أشار إليه بيير بورديو حول "العنف الرمزي"، حيث لا تحتاج الهيمنة الذكورية إلى قرارات قمعية مباشرة، بل تتجذر في الوعي الجمعي بحيث تبدو طبيعية وغير قابلة للمساءلة.
وما دام المجتمع اليمن يُحكم بتقاليد متجذرة، فإن الأعراف الدينية والثقافية والاجتماعية تتداخل في صياغة أدوار المرأة، وغالبًا ما يكون هذا التداخل حائلًا دون تطورها العلمي. لا يتعلق الأمر بمجرد "رفض" وجود المرأة في مجال العلوم، بقدر ما هو "تهميش ناعم"، حيث يُنظر إليها أولًا باعتبارها كائنًا منزليًّا، ثم لاحقًا –وربما بشكل استثنائي– كعقل قادر على التفكير والإبداع، هذه الفجوة المعرفية تبدأ منذ الصغر؛ إذ إن المدرسة والجامعة لا توفران بيئة مشجعة للفتيات، فضلًا عن غياب التخصصات العلمية المتقدمة في بعض الجامعات، مما يحد من الطموح العلمي لديهن.
وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية أكثر واقعية، نجد أن النساء اليمنيات لا يُمنعن رسميًّا من دخول الجامعات، لكن ذلك لا يعني أن الطريق مفتوح لهن بشكل متكافئ، فالتحديات تبدأ منذ الطفولة، حيث يتم توجيه الفتاة لا شعوريًّا نحو أدوار محددة، ويتم إقناعها بأن طموحاتها يجب أن تكون ضمن إطار "المقبول اجتماعيًّا".
إن النظام التعليمي في اليمن يعاني من مشكلات بنيوية تجعله غير مؤهل لإحداث تحولات جذرية في وعي المرأة، فالمناهج الدراسية لا تتضمن نماذج نسائية بارزة في العلوم، مما يرسّخ غياب القدوة العلمية، ويجعل الفتيات غير قادرات على تخيل أنفسهن عالِمات أو باحثات، وحتى عند دخول الجامعات، نجد أن النساء غالبًا ما يُوجَّهن نحو تخصصات معينة دون غيرها، مما يُعيد إنتاج الفصل الجندري داخل المجال الأكاديمي.
البنية الثقافية وتعليم المرأة
أن البنية الثقافية تضع لكل جنس أدوارًا محددة تتماشى مع تصوراتها عن الطبيعة البشرية. في اليمن، يُنظر إلى قيمة المرأة بمقدار مطابقتها للدور الاجتماعي المرسوم لها مسبقًا، لا بمقدار قدرتها على الإبداع أو الاكتشاف. إن البنية الثقافية لا تعني فقط العادات والتقاليد، بل تشمل أيضًا الأنظمة اللغوية والرمزية التي تعيد تشكيل فهم المجتمع للمرأة.
وهنا يظهر إشكال عميق؛ إذا كانت المرأة جسد في نظر المجتمع، فإن دخول المرأة للعلوم لن يُنظر إليه بصفته حقًّا طبيعيًّا، بل استثناء يحتاج إلى تبرير، أما إذا كانت المرأة كائنًا معرفيًّا مثل الرجل، فإن حرمانها من هذا المجال يصبح شكلًا من أشكال العنف الثقافي الذي يمارسه المجتمع ضدها، وبين هذين التصورين، تعيش المرأة اليمنية حالة من التناقض: فهي تُشجع على التعلم، ولكن بحدود، ويُسمح لها بدخول الجامعة، ولكن دون تجاوز الأطر التي حددها المجتمع.
نجد هنا أن دخول المرأة اليمنية ميدان العلوم ليس ترفًا معرفيًّا أو خيارًا مهنيًّا، بل هو فعل مقاومة ضد أنظمة فكرية تحاول إبقاءها خارج المعادلة ورهينةً لحدود رسمت لها سلفًا. المعرفة هنا ليست مجرد تراكم معلومات، بل هي في جوهرها أداة لإعادة تشكيل الذات والعالم.
المرأة اليمنية ليست بحاجة إلى مقاعد دراسية فحسب، بل إلى فضاء يسمح لها بتجاوز الدور النمطي الذي حُدد لها سلفًا. إن دخولها ميدان العلوم ليس مجرد خطوة نحو العدالة الاجتماعية، بل هو ضرورة حضارية لإنقاذ المجتمع نفسه من الركود الفكري، إن السؤال ليس: "كيف نساعد المرأة اليمنية على دخول العلوم؟"، بل: "كيف يمكن لمجتمع أن يزدهر بينما نصفه يُمنع من التفكير؟".
القيود؛ بنيوية أم طارئة
إذا كنا نبحث عن نهضة علمية حقيقية تشمل المرأة اليمنية، فلا بد من تغيير المفاهيم الجوهرية التي تضعها في خانة التابع لا الفاعل. إن تمكينها في ميدان العلوم لا يقتصر على فتح الجامعات أمامها أو إتاحة فرص العمل، بل يبدأ أولًا بتغيير النظرة الاجتماعية إلى المرأة باعتبارها "إنسانًا مفكرًا" لا مجرد كيان ذي وظيفة اجتماعية محددة.
إن العوائق التي تواجه المرأة اليمنية في مجال العلوم لا تتعلق فقط بالمؤسسات التعليمية، بل هي أعمق بكثير، إذ تشمل: البنية الاجتماعية والمعتقدات الثقافية، فمنذ الصغر، تتلقى الفتاة اليمنية رسائل ضمنية تجعلها ترى في الزواج والأمومة الغايةَ القصوى لحياتها، مما يحدّ من طموحها العلمي، وإذا وُجد هذا الطموح نجد أن التخصصات العلمية تُعتبر "ذكورية" في المخيلة الشعبية، بينما يُدفع بالمرأة إلى مجالات مثل "الرعاية والتدريس".
إن العائق الأعمق يكمن في البنية المعرفية التي تُعرّف دور المرأة داخل المجتمع. كيف يُنظر إلى المرأة كوجود؟ أهي ذات مستقلة أم كائن وظيفي مرتبط بحاجات الآخرين؟ هذه الإشكالية ليست يمنية فقط، بل هي جزء من أزمة أعمق في المجتمعات التي لم تحسم بعد مسألة الفردانية والذات الحرة.
إن إخراج المرأة اليمنية من نفق التهميش العلمي يتطلب ثورة فكرية تتجاوز مجرد توفير فرص التعليم، لتصل إلى إعادة تشكيل المفاهيم التي تصوغ ذاتها وعلاقتها بالمعرفةـ وهنا يكمن التحدي الحقيقي: تحرير المرأة لا يكون بإدخالها إلى الجامعات، بل بتحرير الفضاء المعرفي نفسه من القيود التي تجعل وجودها هناك استثناءً وليس قاعدة.
هذه العوامل تُعيد تشكيل وعي المرأة، بحيث تصبح ممتثلة لدورها الاجتماعي، بدلًا من أن تكون مبدعة فيه. وهنا يكمن التحدي: كيف نعيد تعريف دور المرأة في المجتمع بحيث لا يكون دخولها لميدان العلوم استثناءً، بل قاعدة؟
المعرفة شكلًا تحرريًّا
إذا كان العلم هو أحد أشكال التحرر، فإن دخول المرأة اليمنية إلى هذا المجال يجب أن يُنظر إليه ليس بصفته امتياز، بل بصفته ضرورة حضارية. لكن كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟
المسألة ليست مجرد حديث عن فرص تعليم أو عمل، بل هي معركة فكرية تهدف إلى إعادة تعريف موقع المرأة في المجتمع، واختبارًا لمدى قدرته على تجاوز موروثاته المقيِّدة، والتوجه نحو مستقبل أكثر انفتاحًا. إن كل تقدم علمي تحققه المرأة هو في جوهره تحرر من القيود الذهنية قبل أن يكون تحررًا من العوائق الخارجية.
في البداية، لا بد من إعادة تفكيك الخطاب التقليدي ومساءلة التصورات المسبقة التي تجعل المرأة "كائنًا منزليًّا" لا "كائنًا معرفيًّا"، وخلق خطاب جديد يعيد تعريف العلم ليس باعتباره أداة مهنية، بل جزءًا من هوية الإنسان بغض النظر عن جنسه، وإيجاد بيئة تعليمية داعمة، توفر برامج تعليمية تستهدف الفتيات في الأرياف والمناطق الفقيرة، وتشجيعهن على دراسة العلوم، وتسليط الضوء على النساء اليمنيات اللواتي نجحن في مجالات علمية، وجعلهن جزءًا من المناهج الدراسية والإعلامية، وبناء شبكات دعم للمرأة في الأوساط الأكاديمية والعلمية، بحيث لا تشعر الفتاة أنها تسير وحدها في طريق مليء بالتحديات.
يجب إنتاج خطاب جديد يعيد للمرأة حقها في المعرفة، وإعادة تشكيل صورة المرأة في الخطاب الديني، والفلسفي؛ فغالبية الفلسفات القديمة (مثل أرسطو، وأفلاطون)، في بعض جوانب أفكارها نظرت إلى المرأة باعتبارها كائنًا عاطفيًّا غير مؤهل للتجريد العلمي، وهو تصور استمر في الفلسفة الإسلامية التقليدية.
من الامتثال إلى الإبداع
المسألة ليس مجرد حديث عن فرص تعليم أو عمل، بل هي معركة فكرية تهدف إلى إعادة تعريف موقع المرأة في المجتمع، واختبار لمدى قدرته على تجاوز موروثاته المقيِّدة والتوجه نحو مستقبل أكثر انفتاحًا. إن كل تقدم علمي تحققه المرأة هو في جوهره تحرر من القيود الذهنية قبل أن يكون تحررًا من العوائق الخارجية. وما لم يُكسر الحاجز الذي يفصل المرأة عن حقها في التفكير، ستظل الإنجازات العلمية مجرد استثناءات، لا تحولات بنيوية حقيقية.
في نهاية المطاف، السؤال الأهم ليس فقط: كيف نُمكّن المرأة من دخول ميدان العلوم، بل: كيف نعيد تعريف المجتمع نفسه بحيث لا يكون هناك حاجة للحديث عن "تمكين المرأة"، وكأنه مسألة طارئة، بل باعتباره جزءًا من بنية المجتمع الطبيعية، ففي مجتمع يتمتع بالعدالة الفكرية، لن يكون هناك يومٌ عالمي للمرأة والفتاة في العلوم؛ لأن دخولهن هذا المجال لن يكون حدثًا استثنائيًّا، بل واقعًا بديهيًّا لا يستدعي الاحتفاء، بل الاستمرار والإنتاج. إننا بحاجة إلى إعادة صياغة السؤال: "كيف نحرر البنية الفكرية التي تجعل التمكين ضرورة أصلًا؟".