من حين لآخر تُشَنّ حملات تحريض مخططة ضد العمل الإنساني في اليمن، سواء بشكل عام ومُرسل، تستهدف العمل الإنساني ومنظمات المجتمع المدني، أو بصورة مخصصة ضد جهة محددة أو مجال محدد، تُستخدم في هذه الحملات الكثير من المعلومات والأحكام المغلوطة والاتهامات المطلقة .
ومع التأكيد على سوء هذه الحملات وسوء الأطراف التي تحركها، وعلى التقدير العالي لكل عمل حقيقي في هذا المجال مع الناس على الأرض والتأكيد على أهميته، فإنّ الردّ الفعّال على تلك الحملات لا يمكن أن يكون بالدفاع بالتوضيحات والشروحات على شبكات التواصل، بل بالمزيد من العمل مع الناس على الأرض، مع الاستماع للملاحظات والانتقادات الوجيهة ودراستها والاستفادة منها، وتقييم ما هو نافذ من عمل وإدراك نقاط الضعف ومعالجتها .
البقاء مع الناس والفئات الضعيفة المتضررة من الحرب، ومضاعفة الجهود للإسهام في التخفيف من الآثار الكارثية للحرب على اليمنيين، رغم ارتفاع المخاطر والضغوط مهمة إنسانية سامية يستحقها ملايين اليمنيين في مختلف المناطق، وهي أدوار تستحق الاعتراف والتقدير .
وعلى أهمية إدراك تلك الأدوار، ينبغي أن نُدرك كعاملات وعاملين في المجال الإنساني، أننا مؤتمنون على إدارة موارد ومتاحات عامة، الواجب خضوعها للمحاسبة والتدقيق وفق أعلى المعايير، وأن الامتثال الذاتي، الفردي والمؤسسي، في ظل الوضع الاستثنائي الذي نعمل فيه، لا يزال هو العامل الأساسي، لخلق نماذج جديدة في إدارة الموارد العامة، تختلف عن كل الأداءات التي ساهمت بإيصالنا لكل هذا الخراب الجمعي .
ما نقوم به من أدوار مع الناس في مختلف الجوانب، إسهامات قيمة لصالح مجتمعنا، وستكتسب هذه الإسهامات قيمة مضاعفة، إذا قمنا بها وَفق آليات صحيحة، وبطرق صحيحة، من خلال مؤسسات ملتزمة بالحوكمة والشفافية والمساءلة، وهذا حق للمستفيدين من أبناء مجتمعنا، واحتياج ذاتي لتعزيز وتقوية كفاءة وجودة آليات الخدمة في هذا المجال، والتزام أخلاقي ومهني، وسبيل لضمان الاستدامة في ظل طوفان من التحديات، ولخلق جيل جديد من المؤسسات والعاملات والعاملين الناجين من لوثة الفساد والفشل.
واجب الوقت المُلح الآن خلقُ نماذج جديدة لمؤسسات مجتمع مدني قوية تتسم بالكفاءة والفاعلية والمؤسسية والمهنية والاحترافية والتخصص، تبني استجابتها على الدراسة والتخطيط لا على الانفعال والموسمية، تعمل بأعلى جودة وبأعلى المعايير
وفي ظل التقييم والتقويم الذاتي، من المهم الاعتراف بوجود اختلالات جمّة في هذا المجال، أحدُها ولا شك وجودُ نماذج للفساد، والإثراء غير المشروع، وأحد أشكال مكافحة هذه الاختلالات إيجاد نماذج مؤسسية وفردية ممتثلة للحوكمة والمساءلة، بالإضافة إلى الكثير من الخطوات الأخرى المطلوبة من داخل مجتمع العمل الإنساني لمحاصرة التلوث بالفساد وآثامه .
ليؤدي المجتمع المدني دورًا فاعلًا لصالح الناس – وهي وظيفته الأصيلة والطبيعية - ويكون أهلًا لذلك الدور السامي وللفرص المتاحة، عليه تجاوُز العديد من الإشكالات الذاتية والتشوهات الخُلقية التي صاحبت تشكُّل جيل كامل من المؤسسات ولازمت مسارها وحورت وظيفتها وأفرغتها من مضامينها الخلّاقة، ولهذا بدت كثير من تلك المؤسسات مشلولة أمام اختبارات جدارتها وكفاءتها وفاعليتها مع اندلاع الحرب وما رتّبته من آثار على الناس في مختلف الجوانب، حيث تبخرت الكثير من المؤسسات والمنظمات مع اشتعال الحرب وتوسعها، وانسحبت الكثير منها في مختلف المناطق بمختلف مجالاتها التنموية والحقوقية والطبية والإغاثية، وأغلقت جماعة الحوثيين الكثيرَ من المؤسسات في مناطق سيطرتها، والبعض منها تحولت إلى مجرد منصة لهذا الطرف أو ذاك، والنادر المُشرف تلك المؤسسات التي واصلت تأدية واجبها مواجِهةً للكثير من التحديات والعوائق والمخاطر .
لقد مثّلت الحرب وتداعياتها تلك القشّة التي قصمت ظهر المجتمع المدني اليمني، فقد سبقت الحرب إشكالات وتشوهات ذاتية في الأغلب الأعم، أدّت بمجملها دور سلبي، ما صعّب وضع المجتمع المدني أمام العوامل الخارجية التي خلقها الوضع العام في اليمن وعززتها الحرب، ومن تلك الإشكاليات الذاتية والتشوهات الخُلقية على سبيل المثال: ارتباط المؤسسات عملها ومصيرها بأشخاص، انعدام المؤسسية وغياب الحوكمة، الشكلية والموسمية، الدعائية، الفساد وغياب الشفافية، عدم التخصص المهني وانعدام الكفاءة .
ويلزم من أجل النجاة من تلك اللوثات أن تتكفل الكوادر والكفاءات – غير الملوثة - بجهود إحيائية وتصحيحية تقدم نماذج لمؤسسات مدنية مختلفة عن الجيل السابق من المؤسسات والكوادر المدنية، نماذج مُتعافية من تشوهات وإشكاليات - ذلك الجيل - التي ساهمت بتقويض المجتمع المدني وإفراغه من مضامينه الخلاقة وتعطيل وظائفه وطاقاته وإمكاناته وإهدار فرصه تشويه صورته في الذهنية العامة .
واجب الوقت المُلح الآن خلقُ نماذج جديدة لمؤسسات مجتمع مدني قوية تتسم بالكفاءة والفاعلية والمؤسسية والمهنية والاحترافية والتخصص، تبني استجابتها على الدراسة والتخطيط لا على الانفعال والموسمية، تعمل بأعلى جودة وبأعلى المعايير مع الاحتكاك بالتجارب العالمية الرائدة والتوْءَمة معها، وضمان الشفافية والمساءلة والحوكمة، من أجل بثّ الروح في المجتمع المدني من جديد وإعادة الاعتبار له وتحسين سمعته وإعادته لوظيفته الطبيعية المتمثِّلة في خدمة الناس وقضاياهم .
ورغم ما رتبته الحرب، وما زالت، من آثار وتحديات ومخاطر فلا يزال لدى المجتمع المدني فرصٌ حقيقية للإسهام بشكل فاعل في التخفيف من آثار الحرب على ملايين المدنيين الذين علقوا وسطها في مختلف جوانب العمل الإنساني الكثيرة والمتنوعة، ليس فقط في ظل الحرب، بل حتى ما بعد توقفها، يبقى دور مؤسسات المجتمع المدني مهمًّا ومحوريًّا؛ للإسهام في التعافي والسلام والتنمية والعدالة .