تلعب البنوك دورًا محوريًّا في الوساطة التمويلية عن طريق جذب المدخرات وإعادة توظيفها في الاستثمارات التنموية والتجارية وغيرها، ويعتمد نجاحها على اتساع قاعدة المدخرين وتنويع ودائعهم من جانب، وعلى حجم إقبال المستثمرين والمقترضين للحصول على الائتمان اللازم لتمويل مشاريع في مختلف القطاعات.
وخلال فترة السبعينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، ساهمت البنوك بشكل رئيسي في تسهيل حركة التجارة الخارجية، حيث وصلت قروضها في هذا الجانب إلى أكثر من 90% من إجمالي القروض، لكنها لم تساهم بشكل فعال في العملية التنموية باستثناء حالات خجولة لتمويل مشاريع استثمارية وتنموية محدودة، ويعد ذلك إخفاقًا في الوظيفة الأساسية للبنوك، والتي يشبهها البعض بالجهاز العصبي للاقتصاد، لدورها الفعال في تنمية كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية، وفي النصف الثاني من عقد التسعينيات ساد الاعتقاد أن البنوك الإسلامية ستتكفل بحدوث نقلة نوعية في حشد المدخرات من كل شرائح المجتمع، وستساهم في تمويل مشاريع استثمارية تعود بالنفع على المستثمرين والاقتصاد ككل، إلا أن بيانات الميزانية الموحدة تشير إلى أن كلًّا من البنوك التقليدية والإسلامية لم تكن عند مستوى التوقعات، وظل أداؤها هامشيًّا في دفع عجلة التنمية وتطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة، وانطبق على البنوك الإسلامية المثل القائل "ارحبي يا جنازة فوق الأموات".
أفرزت ظروف الحرب قطاعًا بنكيًّا موازيًا يتكون من كبار الصرافين ولهم القدرة على تقديم التسهيلات المصرفية للتجار، فضلًا عن فتح الصرافين حسابات جارية للعملاء بالمخالفة لتراخيصهم؛ مما جعل سيولة ضخمة خارج رقابة البنك المركزي، وبالتالي فرصة للمضاربة بالعملة وغسيل وإخفاء للأموال
ويرجع تواضع أداء البنوك إلى عدد من العوامل، منها هيكلية، ويتطلب تغييرها الكثير من الجهد والعقود من الزمن، ومنها ذاتية مرتبطة بإدارة البنوك وتعاملاتها ومستوى خدماتها الائتمانية إقراضًا وإيداعًا.
فالعوامل الهيكلية في الاقتصاد، تتمثل في:
(1) عدم انتشار الخدمات المصرفية بين السكان، فالتقارير تشير إلى أن حوالي 5 من السكان يمتلكون حسابات بنكية، إضافة إلى تركز خدمات البنوك في المناطق الحضرية وانعدامها في المناطق الريفية، حيث يعيش 70% من السكان، كما أن البنوك الفاعلة والنشطة يمكن عدها بأصابع اليد الواحدة.
(2) ضعف القدرة الائتمانية والتمويلية للبنوك، فحسب بيانات 2014، بلغت إجمالي الأصول في الميزانية الموحدة للبنوك حوالي 1.81 تريليون ريال، وإذا قيمناها بأسعار صرف الريال في نفس العام، فإنها تساوي 13 مليار دولار، وهو رقم متواضع إذا قارناه بميزانية البنوك في الدول المجاورة، بل إن هذا المبلغ قد يساوي إجمالي الأصول لواحد من البنوك متوسطة الحجم في تلك الدول.
(3) ضعف القدرة الادخارية لدى السكان بسبب انخفاض مستوى الدخل وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، إضافة إلى ضعف الوعي المصرفي لدى غالبية المواطنين.
وبالنظر إلى بيانات البنوك في عام 2014 "قبل الحرب"، يمكن القول إن معظم مؤشرات قياس الأداء للبنوك كانت في وضع غير مرضٍ من حيث كفاية رأس المال وجودة الأصول والسيولة والربحية والإدارة، ويعود ذلك إلى تواضع حجم رأس المال المطلوب لإنشاء بنك، والذي لا يتجاوز 6 مليار ريال، وبأسعار صرف اليوم فهو بحدود 10 مليون دولار؛ مما جعل البنوك في موقف ضعيف للمساهمة في توليد النقود وتنوع خدماتها بإبداع وابتكار، إضافة إلى تراكم الديون المتعثرة والتي شكلت حوالي 40% من إجمالي القروض، والإفراط في إقراض الحكومة عن طريق الاستثمار في أذون الخزانة وسندات الحكومة، التي بلغت حوالي 1.3 تريليون ريال وشكلت قرابة 70% من إجمالي القروض والسلفيات المقدمة للمتعاملين معها، مما يعني تراجع دورها في تمويل الأنشطة الاقتصادية والتجارية للقطاع الخاص، وتعريض ودائع المتعاملين للمخاطر العالية، إضافة إلى عجز البنوك عن تسويق خدماتها المصرفية في جانب الودائع وتنويعها أو في جانب القروض وتوزيعها لتشمل معظم المناشط الاقتصادية، ذلك أن الودائع والقروض هما الجناحان اللذان تحلق بهما البنوك في فضاء الربحية والاستدامة المالية.
وجاءت الحرب لتضيف الملح إلى الجروح العميقة في جسد البنوك، وللأسف لم يعد البنك المركزي – صنعاء، قادرًا على نشر بيانات دورية عن التطورات النقدية والمصرفية، بل لم يعد للبنك المركزي موقعًا على الإنترنت لنشر تلك البيانات أو أي معلومات أخرى، حتى تتضح آثار وتداعيات الحرب على البنوك، التي تتجلى في:
- انهيار الملاءة المالية للبنوك مقيمًا بالدولار، فإذا اعتمدنا بيانات 2014، فإن إجمالي أصول البنوك بلغت 2.8 تريليون ريال، وتقييمها بالدولار تراجع من 13 مليار دولار إلى 4.7 مليار دولار، بسبب تزايد سعر الصرف.
- بروز ندرة السيولة لدى البنك المركزي – صنعاء، وعدم قدرته على توفيرها للبنوك بسبب تراكم الدين العام المحلي للحكومة من كل من البنك المركزي والبنوك، مما أفقد البنوك قدرتهم على القيام بالأنشطة المصرفية المتعارف عليها في جذب الودائع وتقديم القروض والسلفيات.
- تدهور ثقة المودعين والمتعاملين مع البنوك بسبب وضع سقوف محددة للسحب من الحسابات الجارية، وعدم تسييل الودائع الآجلة، إضافة إلى رفض قبول الودائع بالعملة الأجنبية، مما دفع معظم الشركات والتجار لحفظ النقدية "الوطنية والأجنبية" خارج إطار البنوك.
- انكشاف حسابات البنوك مع البنوك المراسلة بالخارج، وعدم قدرتها على تغذية تلك الحسابات بسبب الحرب وتداعياتها، وأصبحت البنوك عاجزة عن تقديم التسهيلات لتمويل التجارة الخارجية من الواردات، مما جعل الصرافين يقومون بهذا الدور.
أفرزت ظروف الحرب قطاعًا بنكيًّا موازيًا يتكون من كبار الصرافين، ولهم القدرة على تقديم التسهيلات المصرفية للتجار وفتح اعتمادات مستندية وخطابات ضمان وحوالات خارجية وغيرها من الخدمات، فضلًا عن فتح الصرافين حسابات جارية للعملاء بالمخالفة لتراخيصهم، مما جعل سيولة ضخمة خارج رقابة البنك المركزي، وبالتالي فرصة للمضاربة بالعملة وغسيل وإخفاء للأموال.
- النقل الجزئي للبنك المركزي إلى عدن وتجريم استخدام العملة الجديدة في صنعاء ومناطقها، أوجد نظامًا بنكيًّا يعمق التشطير الاقتصادي بين صنعاء وعدن، وأثّر سلبًا على تعامل البنوك مع المودعين من أفراد وشركات وتجار، والذين أصبحوا غير قادرين على سحب أموالهم من حساباتهم في عدن إلا بدفع رسوم تحويل تصل إلى أكثر من 30%، أي إن انتهازية الصرافين تمارسها البنوك مع عملائها والخاسر دائمًا هو المواطن والتاجر والشركة وغيرهم.
وإجمالًا، فإن معظم المؤشرات تدل على أن البنوك اليمنية تمر بمرحلة صعبة في ظل الحرب والحصار، وأنها بعيدة عن الالتزام بمبادئ اتفاقية بازل المنظمة للعمل المصرفي على المستوى العالمي، والضامنة للحوكمة والشفافية في عمل البنوك وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي والرقابة المصرفية الفعالة، وإذا طبقت معايير الشفافية وتم الإعلان عن بيانات ومؤشرات الأداء للبنوك، فإن معظمها -إن لم يكن كلها- ستكون على شفا هاوية الإفلاس، وهذا يضع مسؤولية كبيرة على عاتق البنك المركزي في كل من صنعاء وعدن لممارسة الدور الرقابي الفعال، وضمان سلامة أداء البنوك للقيام بدورها في الحفاظ على أموال المودعين من جانب وعلى المساهمة في تحريك عجلة النشاط الاقتصادي والتجاري بالبلاد.
كما أن الوضع الخطير للملاءة المالية للبنوك يحتم على جميع الأطراف الجنوح للحوار والسلام والاستقرار، ومد حبل النجاة لإنقاذ القطاع المصرفي من الأوضاع المتدهورة التي يواجهها، وإنقاذ البلاد عامة من ويلات الحرب والدمار.