- إيجابيات الثورة.
تحل علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة والخمسين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر والذكرى السابعة والخمسين لثورة الرابع عشر من أكتوبر، وكلٌّ سيعبر عن ذلك كما هي العادة كما يحلو له وما يعبر به عن نفسه وعن رأيه ومصلحته الخاصة، بين من يرى فيها تحولاً تاريخياً عن حق كما رأى فيها قادتها والغالبية العظمى من الشعب، ومن رأى فيها مجرد انقلاب عسكري كما هو رأي اليسار الشوفيني المتطرف وقتها على الأقل، ومن يرى فيها اليوم انحرافاً وخروجاً للأرض عن طاعة السماء...الخ.
ولأننا من أصحاب "التهمة الأولى" باعتبار الثورة اليمنية بجناحيها سبتمبر وأكتوبر هي تحول تاريخي إيجابي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى فإننا ونحن في العقد السادس من عمر هذه الثورة لن نكرر مجرد الحجة القاطعة تجاه الآخر بما أنجزته هذه الثورة على ارض الواقع، بدءاً من إعلان مبادئ الثورة الستة الخالدة بكل دلالاتها الوطنية والقومية والإنسانية بدلاً من الحق الوراثي والسلالي غير المقدس في السلطة والثروة من دون الناس، والذي لم ينزل الله به من سلطان، مروراً بإخراج صنعاء وتمددها إلى حيث هي الأن بعد أن كانت تغلق أبواب سورها المنيع قبل حلول الظلام بعد أن يكون عسس الإمام قد فتشوا أسواق وسماسر المدينة بحثا عن أي "قبيلي عقّ والديه" لم يكن قد غادر المدينة قبل مغيب الشمس إلى قريته في الضواحي أو مقاهي خارج السور على الأقل، وانتهاء بتحرير جنوب الوطن من الاستعمار وتوحيد أكثر من أربعة وعشرين سلطنة وإمارة ومشيخة، وصولاً إلى وحدة الوطن كله في الثاني والعشرين من مايو 1990، حيث لم يقوَ أحد على التشكيك بأيّ من ذلك وغيره من المنجزات إلا من يدعي القدرة على حجب ضوء الشمس في رابعة النهار.
2- فيما هو أهم من الإنجازات (معادلة التوازن والاختلال).
أما الأهم من هذا وذاك في تقديرنا اليوم، فهو ما نحرص من خلال هذا الحديث في مثل هذه المناسبة العظيمة وندعو من خلاله أعداء الثورة والوحدة اليمنية قبل أنصارهما، ومن أجلهم لا ضدهم، لأن نتدبر معاً حقيقة المعادلة الاجتماعية والتاريخية الثابتة التي يحتكم إليها واقع وظروف المجتمع اليمني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؛ "معادلة التوازن والاختلال بين المركز والأطراف" أو بين القمة والقاعدة، أو بين الحاكم والمحكوم، وهي المعادلة التي تستمد يقينها العلمي والموضوعي من طبيعة الأرض وكمية ونوعية مصادر عيش الإنسان عليها، والتي تقول "إن كل مراحل الاستقرار والازدهار في التاريخ والحضارة اليمنية قد اقترنت دوماً بحالة التوازن بين مركز الدولة وأطرافها أو بين القمة والقاعدة أو الشراكة بين الحاكم والمحكوم في السلطة والثروة على الأصح، مقابل أن كل مراحل الاختلال والانهيار والتمزق قد اقترنت دوماً بأحد أمرين: إما بطغيان المركز أو الحاكم على الأطراف وإلغاء حقها وشراكتها في السلطة والثروة وعمل فرعون، أو ادعاء أنه قدَر الله وإرادته على الأرض، وإما بطغيان الأطراف على المركز أو على مفهوم الدولة والوحدة الوطنية بدوافع مناطقية أو قبلية أو طائفية، والنتيجة في كلا الحالتين هي أن لا غالب أو مغلوب ولا منتصر أو مهزوم، بل الكل خاسر ومهزوم أمام ما هو أسوأ من مساوئ كلا الطرفين، وهو التدخل والغزو الخارجي الذي يستدعيه طغيان بعضنا على بعض وبوهم نصرته لبعضنا على البعض الآخر، وهذه هي معادلة الإيقاع التاريخي العام لمسار الأحداث في اليمن؛ "إما توازن وشراكة بين المركز والأطراف تساوي سلام واستقرار وازدهار، أو اختلال بطغيان المركز على الأطراف أو العكس تساوي تمزيق وانهيار واحتلال وهيمنة خارجية".
ما يجري البحث عنه بمعادلة الاختلال، من الحق غير المشروع في السلطة والثروة من دون الناس، وبخطأ العنف والكراهية ودعاوى الحقوق المكذوبة من السماء أو الوراثية المرفوضة من الأرض، يمكن الحصول عليه كحق مشروع
3- من الايقاع العام إلى الوقائع المباشرة:
إذا كان ذلك هو الإيقاع التاريخي العام لمسار الأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية بشكل عام، والذي يتوجب على كل عاقل- والمخطئ منا قبل المصيب، والظالم قبل المظلوم، والقاتل قبل المقتول، أن نقرأه في ماضي وحاضر ومستقبل هذا الوطن، ونتّعض به تعزيزاً لكل ما هو صواب وتجنباً لكل ما هو خطأ، فإن تعزيزه بيقين الوقائع التاريخية الكثيرة والمباشرة، لهي الحجة القاطعة على ما نقول، بدءاً بما هو صائب من معادلة التوازن بين الحاكم والمحكوم في قول ملكة سبأ بلسان القرآن الكريم: "يا أيها الملاء أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون"، وقولهم لها: "نحن أولى قوة وبأس شديد والأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين. قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون"، مقابل ما هو خطأ في معادلة الاختلال في حينه يوم أن انفرط عقد مجلس المُثامَنة أو الثمانية لمركز الدولة على أيام ذو نواس ودوران الصراع فيما بينهم، فاتحين بذلك الطريق لهدم الدولة والمجتمع، ومشرعين الباب على مصراعيه أمام الغزو الحبشي، مروراً بما هو صواب من المشروع الوطني لسيف بن ذي يزن لتحرير اليمن من الأحباش واستعادة العمل بمعادلة التوازن والشراكة بين المركز والأطراف، والذي أسقطه خطأ الأقيال والأذواء باغتيالهم لسيف والعودة إلى معادلة الاختلال والتمزق، وفتح الباب من جديد أمام الانهيار الداخلي والاحتلال الفارسي الخارجي، مقابل مشروع عبهله بن كعب العنسي للتحرر من الفُرس، وحتى انتصار الإسلام بأهل اليمن وانتصارهم على الفرس والروم في عقر دارهم بالإسلام.
4- التوازن والاختلال في ظل الإسلام.
كما أن صواب معادلة التوازن في عصور الإسلام الأولى في ظل الدولة الصليحية والرسولية في اليمن وما شهدته اليمن لأكثر من ثلاثة قرون في ظل هاتين الدولتين من الاستقرار والازدهار، والتي تجاوز فيها الاهتمام بحقوق الإنسان إلى الاهتمام بحقوق الحيوان والنبات. وحتى الدولة القاسمية التي شهدت اليمن في قرنها الأول أجلّ وأسمى مراحل ازدهار الفكر الإسلامي والفلسفي على يد الإمام الشوكاني ومدرسته العقلانية في العالم الإسلامي كله، في زمن كان قد أُغلق وحُرّم فيه باب الاجتهاد في مصر والشام والعراق في القرنين الخامس والسادس الهجريين، حتى افسدها حُكْم وطغيان عبدالله ابن حمزة، والمتوكل على الله إسماعيل، يوم أن قال، حينما طُلب إليه تخفيف المظالم عن الناس: "إن الله لن يعاقبنا على ما نأخذه منهم بقدر ما سيعاقبنا على ما نتركه لهم"، باعتبارهم "كفار تأويل" في نظره، فتحاً بذلك الطريق ليس لسقوط ونهاية الدولة فحسب، بل وباب جحافل غزاة البرتغال والترك والإنجليز، وصولاً إلى "أحمد ياجناه" القائل في ساحة الشهداء بتعز: "حقنا والشاهد الله ومن كذّب جرّب وهذا الفَرَس وهذا الميدان"، ثم وصولاً إلى ما هو صواب في المبدأ الأول من مبادئ الثورة والجمهورية القائل: "التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات"، وانتهاء بما هو خطأ من الفساد واقتتال الأخوة الأعداء بين جمهورية الحصبة وجمهورية النهدين أولاً، وحتى ما هو أخطأ من الخطأ، والماثل اليوم "بجنون دعاة المهدي المنتظر والحق الإلهي المقدس في السلطة والثروة من ديون الناس"، وتقسيم الناس إلى "أسياد" و"عبيد" و"قناديل" و"زنابيل"، في الألفية الثالثة وزمن ثورة المعلومات وهندسة الوراثة وتكنولوجيا النانو وهوية الإنسان العالمي، في قرية عالم اليوم الصغيرة الكبيرة. إنها المعادلة القديمة الجديدة للصراع بين المشاريع الوطنية لمعادلة التوازن والشراكة بين المركز والأطراف، المفضية إلى الاستقرار والازدهار، وبين مشاريع الهدم اللاوطنية لمعادلة الاختلال بطغيان المركز على الأطراف أو العكس، والمفضية إلى الانهيار والاحتلال الخارجي.
هل آن الأوان لأن يتمسك أصحاب الصواب بصوابهم، لا كمجرد خيار سياسي أو نزعة وطنية مشروعة تجاه ما هو خطأ أو جريمة في نظرهم فحسب، بل وليؤمنوا بيقين، بمعادلة التوازن والاختلال هذه كحقيقة علمية مادية وموضوعية، وأن لا يفكروا باستئصال أو الغاء من يخالفهم الرأي
5- مشروع الثورة والجمهورية والوحدة في مفترق الطرق
وإذا كانت الثورة والجمهورية والوحدة عن حقّ، هي المشروع المعاصر لمعادلة صواب التوازن والشراكة بين المركز والأطراف، مقابل ما قبلها من معادلة اختلال الاستبداد الملكي الإمامي في الشمال والاستعمار الأجنبي في الجنوب، فإن هذا المشروع يمرّ اليوم بمفترق طرق بالغة الأهمية والخطورة بين المشروع الوطني المتعلق بمعادلة التوازن الضامنة للوحدة والاستقرار والازدهار، وبين المشاريع الصغيرة المتزايدة الحدة والتهور للطائفية والمناطقية والسلالية الضاربة أطنابها اليوم في جسد الوطن، كداعي أساسي، لا لتمزيق الوحدة الوطنية وتقويض الأمن والاستقرار فحسب، بل والمطيّة الأولى للغزو الأجنبي الوشيك لمشروع "نار فارس" القديمة/ الجديدة في اليمن من جديد من جهة، ومخالب "قرن شيطان نجد" من جهة ثانية، وحتى "بعارير أم القوين" وما خفي ورائهم هو أعظم من قوى الاستكبار والاستعمار العالمي الجديد.
6- ما يُبحث عنه بالخطأ يمكن الحصول على ما هو أفضل منه بالصواب
مع التأكيد في النهاية على أن ما يجري البحث عنه بمعادلة الاختلال، من الحق غير المشروع في السلطة والثروة من دون الناس، وبخطأ العنف والكراهية ودعاوى الحقوق المكذوبة من السماء أو الوراثية المرفوضة من الأرض، يمكن الحصول عليه كحق مشروع، بل وما هو أجدى وأفضل ألف مرة منه، بمعادلة التوازن والشراكة والأمن والاستقرار والازدهار والديمقراطية، وعبر بطاقة صندوق الاقتراع، بدلاً من فوهة البندقية، والتنافس من أجل الافضل، بدلاً من التناحر بما هو أسوأ، والعيش في قلب وعقل وعلم زمان ومكان الحاضر والمستقبل، بدلاً من استحضار أوهام وخرافات الماضي، خصوصاً إذا ما تيقّنا بأنه لم ولن يكون هناك منتصر أو مهزوم ولا غالب أو مغلوب، ولن يكون في مقدور أحد أن يلغي الآخر، وأن المنتصر الوحيد، وبلا حرب، هو الغازي الأجنبي، في حين أن الممكن لتفادي كل ذلك والحل الذي لا حل غيره ولا بديل سواه للحفاظ على الوطن وكرامة أهله، هو التمييز بين الخطأ والصواب أولاً، والانتصار على أخطائنا في نفوسنا ثانياً، وأخيراً، لأن "الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، إشعال شمعة خير من لعن الظلام.
فهل آن الأوان لأن يتمسك أصحاب الصواب بصوابهم، لا كمجرد خيار سياسي أو نزعة وطنية مشروعة تجاه ما هو خطأ أو جريمة في نظرهم فحسب، بل وليؤمنوا بيقين، بمعادلة التوازن والاختلال هذه كحقيقة علمية مادية وموضوعية يحتكم إليها المكان والأرض والإنسان بالضرورة، في هذه البقعة من العالم التي اسمها "اليمن"، بل الأكثر والأهم من ذلك، هو أن لا يفكروا باستئصال أو الغاء من يخالفهم الرأي من أهل الخطأ، انطلاقاً من ردّ الفعل والمعاملة بالمثل وحتى ولو كان البادئ أظلم، بقدر ما ينبغي إعانة المخطئ على الرجوع عن خطئه، والذي هو دائما أبرز ضحاياه في النهاية، وتبصيره بحقيقة ويقين معادلة التوازن والاختلال التي يتوجب على الجميع الاحتكام إلى جانبها الإيجابي، وتجنب الانتحار بجنون التهور في الاتجاه السلبي، مع يقين العلم بأن ما يتم البحث عنه بالخطأ، من سلطة وثروة غير مشروعة، يمكن الحصول على ما هو أفضل منه ألف مرة بالصواب وبالطرق المشروعة، لأننا في البداية والنهاية جميعاً يمنيون، ونبحر على ظهر سفينة واحدة اسمها اليمن، وعاصفة الموج والغرق اليوم لا تفرّق بين مخطئ ومصيب، أو "زنبيل وقنديل".
وكل عام وثورتنا ووحدتنا ويمننا بخير إن شاء الله.