بمقطوعة (وطن)، المقطوعة الثامنة والأخيرة، نهض الجمهور في المسرح ومن خلف الشاشات؛ مصفقين، تملأ عيونهم دموع الفخر والفرح؛ تقديرًا وإعجابًا بالأداء الراقي والمبهر للملحمة الموسيقية التي قدّمتها الأوركسترا اليمنية-المصرية بقيادة الشاب المتقد بالحماس والإبداع محمد القحوم.
وظّف القحوم -مؤلف المقطوعات الثمان- ملامح من أنغام التراث اليمني في مقطوعات أوركسترالية، جسدت تنوع وثراء الفن والموروث اليمني ككل، إضافة إلى توزيع وتأليف جمل جديدة تم وضعها في قالب أوركسترالي مليء بالدهشة والخيال.
وحدة النغم وواحدية المشاعر
ابتدأت الحفلة بمقطوعة (الكاسر) المستوحاة من التراث الساحلي في حضرموت ثم المقطوعة الراقصة التي تتضمن ثنائية (الحرب والسلام) التي تمارس في المناسبات والأعياد في محافظة حضرموت.
ركزت المقطوعة الثالثة (خطر غصن القنا) على العود اليمني القديم "الطربي أو القمبوس" إلى جانب المزمار، إضافة للدسعة الصنعانية، وهو إيقاع قديم ممتد لأكثر من 500 سنة، تعتمد أساسًا على التنك والصحن الصنعاني.
مقطوعة (مدروف الأصابة) المقطوعة الرابعة استوحاها القحوم من لون غناء الزربادي التراثي المنتشر في حضرموت الوادي، الذي وصفه الموسيقي الألماني "جيورقين إليزينر" بالنوع (البولوفوي) الذي يعد من أجمل وأعرق الإيقاعات التقليدية في العالم.
وظّف القحوم -مؤلف المقطوعات الثمان- ملامح من أنغام التراث اليمني في مقطوعات أوركسترالية جسّدت تنوع وثراء الفن والموروث اليمني ككل، إضافة إلى توزيع وتأليف جمل جديدة تم وضعها في قالب أوركسترالي مليء بالدهشة والخيال
(علم سيري) المقطوعة الخامسة المستوحاة من اللون اليمني العدني، ترتبط بالأعراس، وتحديدًا بطقس توديع العروسة، اعتمدت المقطوعة على العود، فيما حملت المقطوعة السادسة اسم (ليل دان)، مزجت بين الروح اليمنية والإيقاعات المصرية، يليها مقطوعة (مزمار الهبيش) المستوحاة من رقصة (الهبيش) أو الشرح الساحلي البدوي، تنتشر في حضرموت الساحل، حيث صاحب هذه الرقصة المزمار وحركة الضرب بالقدمين على الأرض بالتزامن مع التصفيق بالأكف في تكامل إيقاعي مذهل.
وانتهى الحفل بالمقطوعة الثامنة (وطن) التي تغنّت بالنشيد الجمهوري اليمني، تخللها موال متعدد الألوان إضافة إلى الآلات الإيقاعية الشعبية، مثل "الطاسة والمرافع اليمنية".
مشروع وطني برؤية حضرمية
"نغم يمني على ضفاف النيل" هو ثاني حفل أوركسترالي ترعاه مؤسسة حضرموت للثقافة بالتعاون مع وزارة الثقافة اليمنية ووزارة الثقافة المصرية؛ حيث استمر التحضير له قرابة 12 يومًا؛ من 19 نوفمبر حتى 9 مارس، وبمشاركة 120 عازفًا أوركستراليًّا وموسيقيًّا تراثيًّا من اليمن ومصر ودول أخرى.
يهدف مشروع السيمفونيات التراثية إلى الحفاظ على الهُوية اليمنية وإبراز الفنون الغنائية اليمنية ودمجها في فن الأوركسترا، حيث كان الحفل الأول الذي نظمته مؤسسة حضرموت منفردة في كوالالمبور بماليزيا وحمل اسم "أمل من عمق الألم"، شارك فيه قرابة 90 عازفًا، وركز على التراث الحضرمي. "ما تزال جهود التطوير مستمرة، وستعمل مؤسسة حضرموت للثقافة بكامل طاقتها لإبراز الفنون اليمنية وإخراجها للحيز العالمي"- تقول الدكتورة تقوى العبد لـ"خيوط".
مضيفة: "تعمل المؤسسة بقيادة المؤسس المهندس عبدالله بقشان على ثلاثة محاور؛ هي الأدب، والمسرح، والموسيقى، لكنها في الوقت نفسه تراهن في استمرارية أنشطتها على الشباب الشغوفين، الذين يحملون على عاتقهم راية الفن والثقافة"، تنهي العبد حديثها لـ"خيوط".
احتفاء اليمنيين… احتفاء بالحياة!
اكتظ المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة بالضيوف والمدعوين الذين عبروا عن حماسهم وابتهاجهم بهذه الفعالية، وشاركوا غبطتهم مع الملايين الذين تفاعلوا عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي "أعادت لي هذه الفعالية الذاكرة، وأبرزت عراقة وعظمة الحضارة اليمنية، هذا ما قالته سيمفونيات المايسترو القحوم الذي عكس للعالم ولنا -نحن الذين طحنتنا الصراعات- أن هذا الإبداع لا يأتي إلا من بلد زاخر بتراثه، غني بفنونه وثقافته"، يقول ريدان المقدم -إعلامي- لـ"خيوط" .
ويعبر المقدم عن غبطته بالقول: "أسرت قلبي (فروحة)، وهي تعزف على الصحن الصنعاني، لقد اقشعرّ بدني من كل الدفق الحميم الذي أعادنا لبلادنا، لكن الشجن بلغ ذروته حين اختتمت أنامل العازفين المقطوعات الثمان بالنشيد الوطني للجمهورية اليمنية؛ لقد كنا بخير وفي أحسن حالاتنا، فيا ليت كل ليالي اليمنيين سيمفونيات كتلك التي قال فيها القحوم هذا هو يمننا!"، اختتم المقدم حديثه.
الموسيقى في مواجهة الحرب
"لا شيء كالفن يبهج النفوس، ويزيل ركام الحقد وصراع النفوس، هكذا كانت حفلة (نغم يمني على ضفاف النيل) أكثر ما جمع اليمنيين، انتصرت فيها سيمفونية (وطن) على جذوة الشقاق بدواخلنا، منيرة شعلة الحب للوطن اليمني الكبير"- يقول الدكتور فارس البيل، أستاذ الأدب والنقد لـ"خيوط". ويتساءل البيل: "ألا يرى الساسة كيف وحّد اليمنيين نَغَمٌ؟! وها هم يلتفون حول الجمال والسلام ولا يرونكم! يحتفون بالحياة ولا يأبهون بموتكم، يُقبلون على المحبة ويكرهون صراعاتكم".