حميد الشامي؛ الاحتفاء بالشعر في هيئته

الغياب الأكثر حضورًا في البياض
محيي الدين جرمة
November 14, 2024

حميد الشامي؛ الاحتفاء بالشعر في هيئته

الغياب الأكثر حضورًا في البياض
محيي الدين جرمة
November 14, 2024
.

الأضواء لا تشكل بالنسبة للشاعر اليمني حميد الشامي أولوية، بل الأضواء عينها تنبهر لحالة وطراوة نصه القادم من مخيلة المياه العميقة وشعرية المصمت، إذ تعثر في قصيدته على تأملات جارحة بفنها، قصيدة لها نكهتها الخاصة.

حينما نقرأ تجربته وشعريته، فإننا نقرأ نصوصًا في هذا المستهل، فنجد المعنى يتخلّق أمامنا، كتفتح زهور صباحية، تشرح النظرة المطلة من "حرضة دمت" إلى هاوية العالم. 

هكذا يقترن الشاعر بقصيدته كمخلص لحياة تفاصيله وعزلته الواسعة؛ إذ تغرقنا الأنهار بشعر وصفاء قلّ أن يوجد. 

حميمية وصدق فنيّ راقٍ في علاقته بوجوداته، كمنحوتات مثَّال بصير بجوهر قوالبه، ومرمر الصمت في أحجاره، حيوات مادته ينفخ فيها من روح الشعر وخيالاته التي تبلل ظمأ العطش.

شاعر ونصوص كما لو أننا لم نتعرف إليه وإلى نصوصه من قبل ولم نسأل غير مرة.

لماذا لا نزوره في معتزله لنكتشفَنا من خلاله؟

ونسأل من خلاله: هل الشعر يستعصي على الاندماج من حوله بحضورات تؤكد عدمها بنفي وجودها، في حين المجتمع حاضر بقوة في وصف الشاعر وذات العالم الرحب الذي لا توفره خطابات ما تكرسه أنظمة البارود في حياة بشر تصطرع.

الشعر موطن لنص الشاعر لا سواه، تعشش اللغة في وردة وريده، فالرؤية لديه هي التغاير الذي يسبق مجتمعه وزمنه معريًا لحظة الانحطاط السياسي العام، الذي يسود اللحظة المعتمة في أجواء ملبدة بالوضوح العاري عن الصحة.

وكما في تأويلات اللحظة الراهنة بتناقضاتها، وتقاطعها، بظلامها المضيء عتمة وشفقًا من لوامع القصيدة وومضات الشعر وشذراته، نتأبد في عبارة نصوصه وجمالاته، فتتسع الرؤية ولا يضيق شاعرها. تنفتح نصوصه على حفرياتها، لتخلق عالمًا بديلًا من فنّ الصورة وإدانة المثال في تنمطه.

وبينما نتوق لمصافحة الشعر عبر مخياله الثري في صورة علاقته وحساسيته باللغة والتوليد بسيمياء العبارة، تقترح لحظة الشاعر المندمج بحيواته، تركيبات وجملًا من الصور والمشاهد الفاعلة في حواس التلقي دون أن يعوزها تسجيل الشعر كموقف لا محض فرجة. 

نودّ لو شافهناه إن رغبت نصوصه فينا بزوادات المطر، بقدر ما نحتاج للجلوس معه تحت ظلال وعشبة خيال لحظته. وآنية زهوره طرية بنداوة رمانها وصورها وصباحاتها وغيم غيومها الجسورة في عنب الطموح. 

كون بكامله وأنت تقرأ نثاراته ولوامع نسيجه بشفافية، تكتب دونما تصورات مسبقة. شاعر حقيقي، قصيدتُه احتفاءُ الشعر بنا، وألمُها لَا يَضِيق فِي تلمّس آلام الخراب في الجِهَات.

شعره هو الحدث في حضور تجربة لها "مشمومها" الخاص، ولغتها وفكرها الشعري وألوانها التي تعبق في طيف المختلف، تتفوق الطيف نفسه لتصير مزاجًا من رهافة ألوان، كجرح ناءٍ.

أَمّا لُغة نصوصه فتختلف وَلَا تكرّر ظلالًا سبق أن عبرت طرقًا كثيرة، تجتاز حدود ما وراء الحدود. الأغنية هي الجهات. والعزلة قصيدة باكرة الضوء فيما سيأتي من عبارات وصور ليست محض لحظة، أو اشتغال عابر، إنّها معرفة وجودنا عبر القصيدة. فلسفة خاصة سيمكن لوارِدها اكتشاف نبعها، اكتشاف نفسه. هي باختصار، تجربةٌ أثيرة ودودة، لا تحب سوى التواري، لكنه التواري الأكثر حضورًا وعطرًا في البياض. 

ولمن يسأل عن فاكهة المتخيل الشعري لديه: صورة قدت من روح وريح. عضوية النصوص. لحم اللغة المضيء، ما سيأتي له آصرة بجمالات خاصة، رقة وغبشة فجر أثير بلا إيقاظات من خارج معطى الشعر، بل من دواخل شاعرها. تصفو كلما أمعنّا بشفافية نصوص مكتوبة في مختبر عتال ماهر، متأمل بصنعة القصيدة الفارقة وجودتها، شغف لا يحد. فيما ندلف تقرؤنا النصوص، نقرؤها، فنتوهج. وبينما ندرك جماليات الممكن نلامس تفكيك شقاق واقعنا في اللامتوقع، لكن بالشعر لا بغيره.

شعرٌ تنضح منه صداقة الماء والنوافذ المطلة على زجاج البحر البعيد، سحب تتكاثف متهاطلة داخل اللغة، في مختبر شاعر يكاد من فرط نصّه يُحيي عزلات كثيرة الكآبات، يحررها متخفّفًا بلحظته من تكلس السياسة. عزلته نصوص فارهة كحفرياته وصوره، إذ يحاكي نص موسيقى تجعل الأعصاب تقبل عدوها، والكلب يعض نفسه.

•••
محيي الدين جرمة

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English