في الصباح، دارت معركة (الصافية) بين جيوش السلطان الظافر عامر بن عبدالوهاب والعساكر الغورية المغيرين من مصر، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للقوات اليمنية.
عند حلول الظلام، تسلل وهبان إلى جبل نقم، وارتقى حيدًا مُشرفًا على ما تحته، وتطلع إلى محطة الجراكسة المعسكرين عند باب ستران.
مواقد النار كشفت مواقع تمركزهم، كانوا يحاصرون صنعاء من كافة جهاتها.
حملت الرياح إلى أنفه روائح اللحوم المشوية، كانوا يرقصون ويعربدون، وأَحسَّ باهتزاز ذرات التراب تحت قدميه الحافيتين من دمدمة طبولهم وعجيج أناشيدهم الحربية المنتشية بالنصر.
كانوا يُمعِنون في إقلاق سكينة المدينة المحاصرة، لتثبيط الروح المعنوية للأهالي، وبثّ الرعب في أفئدتهم.
بالكاد لمح على الأسوار تحركات حذرة لفلول جيش السلطان المعتصمين بالصمت والدعاء، ووراء السور كانت تلوح أضواء قناديل باهتة في أحياء متفرقة من المدينة.
الفظائع التي ارتكبها الجراكسة في المدن التي اجتاحوها (زبيد، تعز، ذمار)، أوغرت صدر وهبان، وأضرمت فيه الحمية، فتاقت نفسه لمنازلة الجراكسة وقطف رؤوسهم بسيفه، لكنهم جيش وهو وحده.
جفل حين سمع دويًّا يشبه ارتطام المعول بالصخر الأصم، فتساءل إن كان هذا صوت السلاح الذي قتل صاحبه الكَولي.
ارتجت اليمن كلها بخبر السلاح الفتاك الذي جلبه الغزاة؛ عصي تُطلق لهبًا وتُردي الفارس الصنديد من بعيد.
تفاقم بغضه للجراكسة، وعدَّهم طغمة من الجبناء لا يجرؤون على حرب اليمنيين في مواجهة متكافئة.
تناهى إلى سمعه نهيم فيل، لم يسبق له أن شاهده، ولكنه سمع أن السلطان كان يملك عددًا منها، استخدمها في حروبه، ولكنها لم تنفعه في معركته مع الجراكسة.
هبت رياح تنذر بهطول المطر وتعبق برائحة التراب المبلول، فقرر الانصراف والعودة إلى قريته في بلاد بني بهلول.
شالت الرياح القوية عمامته، تتبّع مسارها، وكما توقع ألفاها عالقة بأغصان شجرة أَثْل، فارتاح باله؛ لأنها كانت أثيرة عنده، إذ تلقاها هديةً من عمه عند عودته من الحج.
لكنه توقف عن سعيه إليها حين رآها تخفق بشدة رغم سكون الريح، ثم ظهر فيها سراب ماء يتموج، وبرز شكل مخيف، تارة يتشكل على هيئة رأس، وتارة يترقق في دوامات متسعة. ارتمى وهبان على الأرض متتبعًا غريزته، وتوارى خلف حشائش كثيفة.
بعد ثوانٍ، تشكّل الرأس بوضوح، وأخذ يشرئب مستطلعًا المكان، فلما تحقق أن لا أحد يراه، وثب واستقر على الأرض! تجمد الدم في عروق وهبان، وتصبب العرق من صدغيه وإبطيه.
جاس المخلوق بنظره ما حوله، فلما اطمأن، نضى عنه ملابسه اللاصقة ببدنه، رآه وهبان يقشرها كما تُقشر جدته الدرداء حبة العنب من قشرتها. ظهر تحت نور نصف القمر عاريًا وله جسم بشري. تساءل وهبان: ما هذا المخلوق؟!
رمى المخلوق ثوبه في النبع، فذاب فيها، وشيئًا فشيئًا هدأ فوران المياه، وعادت العمامة القرمزية إلى طبيعتها، مجرد خرقة عادية، ثم انتزعها ولفها على خصره.
طار خفاش فوق رأسه فتبعه!
تردد وهبان؛ هل يتبعه أم يلوذ بالفرار، لكن فضوله تغلب على خوفه، فتعقبه وهو يشك أنه جني اتخذ هيئة آدمية.
انحدر المخلوق إلى آكام الزبيب، فلاح قُدامه رجل متربع على الأرض يأكل طعامًا، فباغته من خلفه وخنقه بالخرقة، فلم يستطيع المغدور الفكاك من قبضته وفحص بقدميه حتى كف عن الحركة.
جرّد القتيل من ملابسه وارتداها، وربط الحزام على وسطه، ولف العمامة على رأسه، فلما فرغ من سلبه، نزع الجنبية من غمدها وجز بها رقبة القبيلي، ثم سل السيف ووضع الجمجمة على صَفَاة، وفلقه نصفين، ودفن كل فلقة في ناحية، ثم دحرج الجثة إلى أسفل الوادي، وطمر آثار الدم، وقبع في الموضع الذي كان فيه القبيلي، وكأنه ينتظر أحدًا.
كان وهبان يرتعد من فروة رأسه إلى عقبيه، هلع عظيم انقض عليه، وأدرك أنه يشهد هُولَة لم يسمع بها أحدٌ من قبل.
اشتد وجيبُ قلبه حين تناهى إلى سمعه وقع حوافر حصان، تجمّد في مكمنه كأنه حجر، إنما فجأة تراخت أعصابه وتحسّنت نفسيته حين هبت نسائم تتضوع بعبير المسك، استنشق الرائحة الزكية ملء رئتيه، وخمّن أن القادم من علية القوم.
وقف المخلوق إجلالًا للفارس. تحادثا بصوت خفيض، فلم يمكنه سماع ما يقولانه. ثم صعدا باتجاه صخرة ينضح منها الماء الزلال في موسم الأمطار، فلما وصلا ترجل الفارس وأورد حصانه ليشرب، وملأ قربته ورفعها إلى فمه، وهو يعبّ الماء البارد كالثلج ،غافَله المخلوق وضربه بحجر على قذاله، فخرَّ الفارس على وجهه. هاج الحصان وصهل، وأراد المخلوق المسح على عنقه ليهدأ، فنفر منه وراح يعدو مسابقًا الريح لما اكتشف حقيقته.
حمل المخلوق الفارس على عاتقه، وهبط منحدرًا إلى باب ستران. لاحقه وهبان حتى وصل إلى نقطة قريبة من محطة الجراكسة، فلم يجسر على الاقتراب أكثر.
أحاط الجراكسة بالمخلوق، ثم أدخلوه مع حمولته إلى معسكرهم، وتابعه وهبان بنظره حتى غاب بين الخيام.
تقهقر وهبان وقفل عائدًا إلى بلاده وهو في حيرة بالغة مما رآه.
في اليوم التالي، سقطَتْ صنعاء بيد الجراكسة، وارتكبوا فيها من الأفعال الشائنة ما تشيب له رؤوس الأطفال، وتعجز الألسنة عن وصفه.
تناقلت جبال اليمن وسهولها النبأ المشؤوم، وقرَّت الحسرة في النفوس، وانخفضت الرؤوس العالية من العار.
في الليل، لبّى وهبان دعوة عمه الشيخ غثيم -الذي أهداه العمامة القرمزية عند عودته من الحجاز- وحضر الاجتماع في بيته.
ذكر لهم الشيخ غثيم طرفًا ممّا جرى من أحداث جسام في ذلك اليوم:
"بعد شروق الشمس، طلب أمير العسكر الغورية الإسكندر بن محمد، إحضار السلطان عامر بن عبدالوهاب إلى خيمته. وحصلت بينهما مراجعة، فلم يتم المراد للغوري، فامْتَشَعَ سيفه وأطار رأس السلطان الأسير بضربة واحدة، وأمر برمي جثته خارج خيمته لتدوسها الأقدام، وأما رأسه فأمر بتعليقه على سن رمح، والطواف به على مقربة من أسوار صنعاء، وسمع أمير صنعاء علي بن محمد البعداني بالخبر فلم يصدق، فلما اعتلى السور وعاين بنفسه هلاك مولاه، اصطكت ركبتاه وزاغ عقله، فطلب الأمان مقابل أن يسلّم لهم المدينة، فدخلوا من باب ستران من دون حرب، لكنهم نقضوا العهد، وأزهقوا الأرواح حتى امتلأت الشوارع بالجثث، والدماء اختلطت بالتراب ولطخت الجدران، وأحرقوا سوق البز، واقتحموا البيوت والقصور وفعلوا الفاحشة بالنساء وسلبوهن حُليّهن، ونهبوا الأموال والبضائع من بيوت التجار، وبالجملة فعلوا من المنكرات ما لا يتصوره عقل، وأما الأمير البعداني فأهانوه وضربوه وسجنوه في سجن القلعة".
علّق يزحم، أكبر أبناء الشيخ: "سمعنا أن السلطان الظافر نجا من الغورية ولم يأسروه". رد الشيخ: "صحيح، وهو كان ناويًا أن يتسلل في الليل إلى حصن ذي مرمر يتحصن فيه ويعيد تعبئة قواته، ولكن الدليل الذي استعان به، طمع في المال فأسره وسلّمه للعسكر الغورية".
سأله وهبان: "ما اسمه هذا الخائن؟"، التفت إليه الشيخ: "قالوا اسمه الزلابية". كان الشيخ فطِنًا قوي الفراسة فسأله: "أتعرفه؟"، تلوَّن وجه وهبان وأشاح بنظره: "لا".
اغرورقتْ عينا وهبان بدموع القهر، وأدرك بعد فوات الأوان أنه ضيَّع فرصة إنقاذ السلطان من الأسر، وإنقاذ مدينة صنعاء من المصير المروع الذي ذاقته.
رمقه الشيخ متأملًا وهو الخبير بأحواله، فسأله عن الفرس الدَهْمَاء من أين جلبها، فرد عليه وهبان أنه وجدها هائمة ترعى في شعاب نقم ولا صاحب لها. لم يصدقه الشيخ، وظل يوالي النظر إليه شزرًا.
رتبوا خمسة من شباب القرية الأشداء لحراسة مداخل القرية وحقولها، وهبان أحدهم، وانفض الاجتماع، وعاد كل واحد إلى داره.
من عجائب الأقدار، أنّ السلطان طومان باي شنق على باب زويلة في يوم الإثنين، الثالث عشر من أبريل 1517، وانقضَت بقتله دولة المماليك في مصر. وبعده بيومين، قُطع رأس السلطان عامر بن عبدالوهاب، وعُلِّق على سن رمح أمام باب ستران، وبقتله انقضت دولة الطاهريين في اليمن.
بعد أن بلغ الجراكسة في اليمن نبأَ مقتل سلطانهم وزوال دولتهم في مصر، على يد السلطان العثماني سليم الأول، انسحب أميرهم الإسكندر بن محمد من صنعاء، واتجه جنوبًا إلى تعز، وترك حامية من الجراكسة، يناهز عددهم الثلاثمئة، تحت قيادة الجركسي حمزة بالي.
منحتهم البنادق تفوقًا في القتال، فكانت الحامية الجركسية تشن الغارات على القرى المحيطة بصنعاء، وتسلب القرويين محاصيلهم وأقواتهم، وتقتحم بيوتهم وتنهب أموالهم وحلي نسائهم، وتعود إلى صنعاء تجر خلفها الغنائم.
وكان يغزو معهم أحلافُهم من قبائل اليمن، الذين ارتضوا خدمة أسيادهم الجدد، فكانوا عونًا لهم على بني قومهم، وعيونهم التي تستطلع وترصد تحركات مناوئيهم، والحمّالين الأذلاء الذين يوصلون الغنائم إلى القلعة مقابل الفتات الذي يتنازل عنه أربابهم الجراكسة.
حرّض وهبان قبائل بني بهلول وسنحان، ودعاهم للاستعداد لصدّ هجوم الجراكسة ومن معهم من أوباش القبائل، وحذّرهم أن الغارة وشيكة.
تمكّن وهبان من دخول صنعاء مرات كثيرة، ممتطيًا ناقةً محملة بالقَضْب (العلف)، الذي كان يبيعه لمزوّد خيول الجراكسة.
تعرف على الحواني المحدِّد (الحدّاد)، الذي أصلح عددًا من بنادق الجراكسة، وعرف كيف تعمل، وصهر لهم ذخيرة تناسبها.
أخبره الحواني أن البندقية سلاح ناري يُعبّأ من الفوهة بقذيفة كروية من الفضة، وتطلق بواسطة فتيلة وبارود، لكنها ليست دقيقة في التسديد، ومداها المؤثر لا يزيد على مئة ذراع.
وصادق قراريط القَشَّام (بستاني)، الموكل بتزويد القلعة باحتياجاتها من البقل والجرجير والكراث، وما شابه من الخضار الورقية من بساتين صنعاء.
وعرف منه أسرارًا لا تخطر على البال. وكانت أهم معلومة حصل عليها، تتعلق بعمامته القرمزية الموشاة بخيوط ذهبية، إذ وصفها له، وسأله أن يبحث بين القوم عمّن يتعمم بها، فما أبطأ عليه، وأخبره أن قبيليًّا اسمه الزلابيا يلفها على رأسه، وأن المذكور مقرب جدًّا من الجراكسة، فلا يرفعون رجلًا ولا يدًا في البلد إلا بعد مشورته.
سأله وهبان إن كان يقدر أن يميز وجه الزلابيا من بين ألف وجه، فرد قراريط أن للزلابيا وجهًا لا يُنسى؛ طلعة مخيفة تجهض النساء الحوامل!
حدد له موعدًا والتقيا في آكام الزبيب أسفل جبل نقم، حفر وهبان الموضعين اللذين دفن فيهما المخلوق رأس الرجل الذي قتله، وضمهما، فصعق قراريط، وقال له إنه رأس الزلابيا. أخبره وهبان أن هذا هو الزلابيا حقًّا، وأما الآخر فشبيه له!
منذ سقوط صنعاء، كان وهبان يبات أحيانًا في كهوف جبل نقم، وهي كهوف عتيقة حفرها القدماء لاستخراج الحديد الذي كانوا يصنعون منه السيوف اليمانية المعروفة بصلابتها.
كان يسري في الليل على ظهر الكحلاء؛ فرس السلطان المغدور به، ويحوم حول البقعة التي فيها شجرة الأثل، باحثًا عن ذلك الشيء الذي لا اسم له، لعله يجد تفسيرًا يحل الأحجية التي لو لم يرَها بعينيه لمّا صدقها ولا آمن بوجودها.
بعد أن يكل من الطواف حول شجرة الأثل، كان يرجع إلى قريته، أو إذا تكاسل يصعد إلى الكهوف ويختار أكثرها غورًا، ويرقد فيها مع فرسه.
تُوفِّي مبخوت البهلولي، والد وهبان، وعمره عام واحد، وترك خلفه ولدَين وبنتًا، وكان هو أصغرهم، وتكفل عمه غثيم برعايتهم والنفقة عليهم. تعلم القراءة والكتابة، وحفظ جزء عمّ، واشتغل منذ نعومة أظفاره في حقول العنب والرمان والسفرجل والبلسن والعلس التي يملكها عمه، وتدرّب مع أولاد عمه الأربعة على فنون القتال وركوب الخيل، وبَزَّهم جميعًا في القوة والمهارة.
تزوجت أمه ورحلت مع زوجها إلى كوكبان، وما لبثت غير بضع سنين ثم توفيت. قالوا إنها أصيبت بداء اليُبس (الشلل) ثم تداركها الله بلطفه واختارها إلى جواره.
خطب وهبان ابنة عمه ظبية، فاشترط عليه عمه غثيم مهرًا لها ألف حرف (نقود مسكوكة من الفضة)، وكسوة ثلاثة قمصان عنبرانية، وأوقية عود، وثمانية فناجيل صيني، وأربعة سجاجيد ومثلها حُصُر من سعف النخل. قبل وهبان الشروط، وهو لا يعلم من أين سيتدبرها.
الفارق بين وهبان وظبية في العمر أربع سنوات، هو في الثامنة عشرة وهي في أوان البلوغ، ولعلها تولعت به لتفوقه على أقرانه بالشجاعة وقوة البأس، وأما عمه فلم يكن متحمسًا لتزويجه بابنته، لما يراه من رقة حاله وانشغال باله عن أشغاله.
هاجم الجراكسة ومن معهم من أوباش القبائل أراضيَ قبيلته، وطبّقوا تكتيكًا حربيًّا بارعًا؛ فمن الجنوب زحفت القبائل الموالية للغزاة، واشتبكتْ مع رجال بني بهلول وسنحان، ومن الشمال أغارت عصابة من الجراكسة على مساكن قريته وفتكوا بأهلها، ولما سمع القرويون البنادق تلعلع من ناحية قريتهم، تداعت صفوفهم ووهنت عزيمتهم، وارتد قسم منهم لإغاثة النساء والأطفال. بعد تشتت قبائل بني بهلول وسنحان، انقض حمزة بالي بخيالته ورماة البنادق على القوة الرئيسية من الخلف، وحاصرهم بين فكيّ كماشة، وحصدهم حصدًا، ولقي وهبان مصرعه مع خمسمئة مقاتل من بني بهلول وسنحان.
أفاق وهبان محمومًا وجبينه يرشح عرقًا، كان قد نام مسندًا ظهره على شجرة الأثل، وفرسه الكحلاء بقربه تحمحم برقة شفقةً عليه ممّا يكابده في منامه. نظر إلى النجوم، فقَدّر أنّ وقت الإمساك قد اقترب، كانت تلك ليلة السابع والعشرين من رمضان. نهض وامتطى الكحلاء، وعاد أدراجه إلى مسقط رأسه، وصورة قاتله لا تُفارق خياله.
توقف الجراكسة عن الإغارة على القرى المحيطة بصنعاء خلال شهر رمضان المبارك، وعقدوا العزم على استئناف غاراتهم بعد انقضائه.
عرف وهبان هذه المعلومة الثمينة من صديقه القشام قراريط، فأدرك أنّ الدور قادم لا محالة على قرى سنحان وبني بهلول الواقعة شرق مدينة صنعاء، التي لا يفصلها عن عصابات الجراكسة سوى جبل نقم الذي ينتصب حاجزًا طبيعيًّا بينهما.
بحسب الخطة، سبك الحداد الحواني ذخيرة فاسدة وسلّمها لأمين المخزن في القصر، وفي صباح عيد الفطر المبارك خرج مع عائلته من باب شعوب -الباب الشمالي لمدينة صنعاء- مُدعيًا أنه يودّ معايدة أخواله في قرية الجراف، وخرج وهبان لملاقاته في منتصف الطريق على فرسه الكحلاء.
على عادته في الحذر، كمنَ في رابية مرتفعة بين أجمة أشجار كثيفة، ويده على مقبض سيفه، وهو يدعو في سرّه أن يُنجي الله صديقَه.
كان الناس يدخلون ويخرجون أفواجًا من باب شعوب، ثم رأى جماعة صغيرة راكبين على ثلاثة حمير تتخذ طريق قرية الجراف، فأدرك أنه صاحبه وعائلته، وأنهم قد مروا بسلام.
تفقد اللجام والسرج، فصهلت الكحلاء مُفصِحة عن جوعها، تبسم وهبان وأخرج من جرابه قبضة زبيب أسود وأطعمه لفرسه.
هو أيضًا كان جائعًا، بعد صلاة العيد تناول حبة كعك من يد عمه غثيم، ولم ينتظر وجبة الإفطار الدسمة، ولم يستمع للنداءات من الداعين له لموائدهم، وانطلق يسابق الريح وفاءً بوعده.
كان يُفضِّل فرسه على نفسه، ويدَّخر الزبيب الأسود الفاخر الذي تشتهر به قريته، من أجلها.
تذكر ابنة عمه ظبية، التي سلمت عليه سلام العيد وصافحته، في لحظة مختطفة من الزمن بعيدًا عن العيون، وكيف ترك عطرها أثره في راحته، فرفع كفه إلى أنفه محاولًا تمييز رائحة كفها من بين عشرات الأكف التي صافحها منذ الصباح.
وهو منشغل بخواطره، لاحت فصيلة من الجراكسة يعدون على خيولهم وراء عائلة الحواني، وسرعان ما أدركوهم وأحاطوا بهم. ومضت برهة كأنما يحققون مع رب العائلة، ثم دنا منه فارس جركسيّ وشقّه نصفين بضربة واحدة من رأسه إلى دبره أمام أنظار زوجته وأطفاله الأربعة.
فار الدم في عروق وهبان حين سمع صراخ امرأة الحواني وأطفاله، وحملته النخوة على نجدتهم، فركب الكحلاء وانحدر إليهم كالصاعقة ممتشقًا حسامه. صهلت خيول الجراكسة، فتأهبوا لملاقاته، وعمّروا بنادقهم وأشعلوا فتائلها.
كانوا عشرة، عليهم دروع من الزرد، ويحمون رؤوسهم بخوذ حديدية سابغة، فلا يظهر من وجوههم سوى العيون التي تقدح شررًا.
قبل مئة ذراع، حاد وهبان عنهم والتف حولهم، فأمطروه بوابل من بنادقهم ولم يصيبوه، وظل يدور حولهم بفرسه متجنبًا المدى المؤثر لرصاصهم، فاستبد الغضب بقائدهم الذي قتل الحواني، وكان جركسيًّا ضخم الجثة، يوازي حجمه ضعف حجم وهبان، فشهر سيفه ولكز حصانه ومال باتجاه وهبان مُطلِقًا صيحات مرعبة، فتقهقر وهبان وأظهر أنه انهزم، فطارده القائد الجركسي، فلما ابتعد ألف ذراع عن أصحابه، كرّ عليه وهبان ونازله، وتطاير الشرر من سيفيهما، وشعر وهبان بأن الكحلاء تكاد تميد من تحته من قوة ضربات الجركسي، فاستبسل في قتاله واشتاق لقتله، وما زال يراوغه حتى لاحت الفرصة فطوح بسيف خصمه، وسحب الجركسي رمحه فعاجله وهبان فبتر فخذه، وسقط القائد الجركسي صارخًا والدم يتدفق من رجله، أجهز عليه وهبان ولوّح برأسه مستفزًا أصحابه، فهبّ الخيالة الجراكسة في طلبه.
اختبأ وهبان في كهوف جبل نقم، ودبّ الخور في قلوب الجراكسة، فلم يجرؤوا على ملاحقته، وحاصروا مداخل الكهوف مترقبين خروجه إليهم، فلما احتجبت الشمس وراء الأفق يئسوا منه وعادوا أدراجهم إلى صنعاء.
خرج وهبان بعد انسحابهم، وسلك طريق قريته. ولِحظّه السعيد، كان مشايخ بني بهلول وسنحان مجتمعين في ديوان عمه الشيخ غثيم. دخل عليهم ووضع رأس القائد الجركسي بين أيديهم، وعرض عليهم البندقية التي غنمها، فأعجبوا بجسارته، وتعلقت به أبصارهم وأفئدتهم.
كانوا قد عقدوا العزم على الجلاء عن قراهم إلى بلاد خولان خوفًا من بطش الجراكسة، فنقض وهبان شورهم، ودعاهم للحرب دفاعًا عن أراضيهم وذراريهم، وأشعل فيهم الحمية، فوافقوا بالإجماع، وعاهدوه أنه القائد المطاع.
أمرهم بتعبئة مقاتليهم، وألا يضعوا أسلحتهم لا في ليل ولا نهار؛ لأن هجوم الجراكسة وشيك.
انصرف وهبان إلى بيت جده لأمه، ورقيَ إلى غرفته، وتمدد على فراشه متعبًا، ونام متوسدًا غمد سيفه.
رأى في المنام رقبته باسقة كأعناق الخيل، وأنه يسيح في الأرض أسرع من الريح.
ناداه جده قاسم ليصلي الفجر، فنهض نشيطًا وفي روحه نفحة سعادة هي ما تبقى من آثار حلمه الذي نساه. لبس درعه وتوشح سيفه وتحزم بجنبيته، وحمل على كتفه البندقية، وقصد جامع الهادي، شاكي السلاح، وبعد الفراغ من الصلاة دعا رجال قريته إلى أن يكونوا على أهبة الاستعداد، فالعدو قادم إلى قريتهم لا محالة.
خرج من الجامع واتجه مباشرة إلى الحظيرة، متفقدًا الكحلاء، فأطعمها وسقاها، ثم أخذ لجامها وأراد التحرك، سدَّت عليه جدته مِقْبِلَة البابَ فاردةً ذراعيها، ونهته عن المسير إلى أيّ موضع، وسألته عن الرأس المطروح بين الأعلاف، فلما أخبرها أنه رأس قائد جركسي كبير، ولولَتْ وراحت تضرب على رأسها، فضحك منها وهبان، ووعدها أن يجلب لها مئة رأس أخرى!
أقسم لها أنه لن يبرح مراعي قريته، فاطمأنت وناولته قرص شعير ورجَتْه أن يفطر به، فتناوله منها وقضم منه إرضاءً لها، ثم مضى وقد اشتعل فتيل ضوء من جهة المشرق.
امتطى الكحلاء وأخذ جولة على ظهرها إلى جبلَي صَرْفَة ودَجَّة، وهو يهندس في رأسه خططه الحربية.
بعد أن أنهى تطوافه في شِعاب الجبلين الشامخين، انحدر إلى الوادي، فلقي عمه غثيم في الحقل مع أولاده الأربعة وقد لبسوا عدة الحرب. سأله الشيخ غثيم وهو يرسل بصره إلى جهة الشمال، متى يتوقع غارة العسكر الغورية، رد وهبان أنه لا يعرف متى بالضبط، ولكن عيونه في صنعاء أخبروه أن العسكر الغورية أوقفوا غاراتهم بسبب شهر رمضان، وإذا انقضى فإنهم سيستأنفون غاراتهم.
أطلق الشيخ غثيم زفرة حارة من صدره، وتأمل قريته الضاربة جذورها على رأس تلة مرتفعة، وهو يخشى أن تُرَوَّع وتُستباح حرماتها.
حذّره وهبان: "إذا وصل واحد من القبائل قريتنا فأمسِكوه وتحقّقوا أمره، فلعله جاسوس يستطلع أحوالنا".
كلَّف الشيخ غثيم أولاده باستضافة الزوّار الغرباء عن القرية في دارهم، والتلطف في التحري عن أسباب زيارتهم، حتى يظفروا بحقيقتهم.
سأله الشيخ ما هي خطته، قال وهبان إنه وضع خطة محكمة لهزيمة العسكر الغورية، وطلب من عمه دعوة مشايخ بني بهلول وسنحان للاجتماع مرة أخرى في داره، فوعده بتلبية طلبه.
اعتلى صهوة الكحلاء وانطلق إلى قرية الجراف حانثًا باليمين التي حلفها لجدته، فلما وصل تلثم وسأل عن عائلة الحواني، فأخبروه أن المرأة وأطفالها الأربعة قد رحلوا مع الضوء الأول إلى بني حشيش.
سأل عن جثمان الحواني ماذا فعلوا به، قالوا له إن العسكر الغورية منعوا رفع جثته من مكانها، ونصبوا خيمة وحرسًا عندها. ذكروا ومشاعر الفخر تعتريهم أنّ فارسًا يمانيًّا مقدامًا لا يعرف أحد هويته، قتل جركسيًّا يحمل رتبة أمير عشرة، فعلى ظنهم -أي الجراكسة- أنه سيعود فيظفروا به!
وأما زوجة الحواني وأطفاله فلم يعفوا عنهم إلا بعد أن راجعهم شيخ قرية الجراف، ورهن نفسه بدلًا عن المرأة وبنيها، فأطلقوهم بعد مشقة بالغة، وما يزال الشيخ محبوسًا في خيمتهم والقيود في رجليه ويديه.
نقلوا إليه أنّ واحدًا من شياطين القبائل خرج في إثر عائلة الحواني، فهم في شك من أمره؛ منهم من يقول: ذهب يتحسس أخبارها ويرى من يتصل بها، وقائل يقول: إنه ينوي قتلها وقتل صغارها بإيعاز من أسياده الأجانب.
سألهم وهبان عن صفته، فوصفوه له، فلم يطمئن قلبه، فسألهم إن كان متغنجًا يختال في مشيه، فردوا عليه بأنه يضع قدميه ويرفعها كالجمل، فتنفس الصعداء وتبيّن له أنه لم يكن ذاك المخلوق الذي يخشاه.
لوى عنان فرسه واقتفى أثر القبيلي متخذًا درب بني حشيش، فلما أدركه قبض عليه ووضع نصل جنبيته على حلقه، فاعترف أنّ الزلابيا هو الذي بعثه وراء عائلة الحواني لينظر في أيّ بلاد نزلوا وفي أيّ بيت حطوا، وما كاد يكمل كلامه حتى شعر بتدفق الحمم البركانية في حلقه، وذابت آخر أنفاسه.
تابع وهبان طريقه، فألفى المرأة وصغارها يمشون على أقدامهم وقد حملوا أمتعتهم على ظهورهم. بادرهم بالسلام وأنزل اللثام، وعلى الفور عرفته المرأة وشكرته على صنيعه، ترجل عن فرسه، وأخبرها أن الحواني صديق عمره، وأنه عازم على الثأر له، لا مِن قاتِله فحسب، ولكن من كل العساكر الغورية.
رفع قسطًا من المتاع على جانبي فرسه وأصعد المرأةَ وبنيها؛ ثلاثة ذكور وبنت واحدة، أكبرهم في الخامسة وأصغرهم عمره بضعة شهور، وحمل باقي متاعهم على ظهره، ومشى معهم راجلًا حتى بلغوا بلاد بني حُشَيش، وأوصلهم إلى دار أخوال الحواني، فاستضافوه وأكرموه ومكث عندهم حتى مغيب الشمس.
وعرف من مضيفيه معلومة مهمة، فلم يفوت الفرصة واستغلها لصالحه.
في خامس أيام العيد، تدافع من القلعة مئتا فارس جركسي، دربكة خيولهم تفزع الطير في السماء، يتبعهم ألفاف من القبائل يفوق تعدادهم الثلاثمئة راجل، وقصدوا سعوان شمال جبل نقم، ثم انعطفوا شرقًا باتجاه وادي جناح.
تصدتْ لهم قبائل بني بهلول وسنحان، وعلى رأسهم الشيخ غثيم، لكن سرعان ما انهزم أصحاب الأرض فزعًا من السلاح الناري الذي استخدمه الفرسان الجراكسة بكثافة، ولجؤوا إلى جبلَي صرفة ودجة، فكفوا عن مطاردتهم، وصعدوا إلى قرية بيت عقب طمعًا في نهبها، وتفرق أوباش القبائل في الحقول كالجراد ينهبون المحاصيل، وقد غرّهم النصر السريع الذي كسبوه.
ولما توسطت جموع الجراكسة القرية، وجاسوا خلال بيوتها، وقد أُغلقتْ أبوابها ونوافذها، وأُخليت من النساء والأطفال، أشعل وهبان النيران من سطح بيت جدّه وكبّر بصوت جهوري، فردّدت الجبال صدى تكبيراته، وتصاعد الدخان مؤذنًا بالهجوم المضاد، فانقض المئات من أبطال بني بهلول وسنحان على الفرسان الجراكسة من الأسطح، وتدافعوا نحوهم من الأبواب، ونضحوهم بالسهام من النوافذ، واشتبكوا معهم بالسيوف والرماح والفؤوس، وحاصروهم في أزقة القرية الضيقة، وأشعلوا الحرائق وقذفوا بالحطب والتبن المشتعل على خيول الجراكسة، فاضطربت وألقت مَن عليها وركضت على غير هدى، ووقعت مذبحة لم يقع للجراكسة مثيل لها منذ وطئت أقدامهم اليمن.
قتل وهبان وحده خمسة من الجراكسة، ووصل إلى أميرهم حمزة بالي وبارزه حتى أسقط سيفه من يده، وكاد يشق رأسه نصفين لولا الخوذة التي أنقذته، فلوى زمام جواده ولاذ بالفرار غير عابئ بسمعته وكبريائه، وتبعه من بقي على قيد الحياة من الجراكسة، فلم يتوقفوا لالتقاط أنفاسهم إلا خلف أبواب القلعة في صنعاء.
وكرّ الشيخ غثيم بمن معه من المقاتلين على حلفاء الجراكسة من القبائل، واجتاحوا وادي جناح، وأعملوا فيهم السيف، فما نجا منهم إلا من كان سريع الجري!
حصر الشيخ غثيم رؤوس العسكر الغورية، فعدّها مئة رأس، فأعلن في الحشد المنتصر أنه زوَّج بنته من وهبان، وأن وهبان سلَّم مهرها مئة رأس جركسي.
تلقى وهبان التهاني من الكبير والصغير، وجلجلت زغاريد الفرح، لا في قريته فحسب، بل وفي كل قرى بني بهلول وسنحان قاطبة.
تفقد وهبان جثث رجال القبائل القتلى، فلم يجد بينها جثة الزلابيا، فتحسَّر لنجاته، وأسرَّ في نفسه أن يطارده ويقتلع عِرقه قبل أن يمتد ويتجذر.
تبرع مشايخ بني بهلول وسنحان بالذبائح، فصار لوهبان عرس لم يشهد أحد مثله من قبل ولا من بعد، وفي الليل زُفت إليه ظبية، وأصاب الهدف من أول رمية، فلما نامت العيون، انسل من قريته خفية، وقد جرَّ الكحلاء خلفه.
كيف علم وهبان بموعد الهجوم؟ دأب الجراكسة على اتخاذ أسلوب الهجوم الصاعق على القرى والقلاع لمفاجأة الخصوم، فكان قادة الجراكسة يُخبرون جنودهم بالزمان والمكان في الليل بعد إغلاق أبواب صنعاء، حرصًا على السرية وعدم تسرب خبر الغارة، لكن هذه الإجراءات الحازمة كانت فيها ثغرة نفذ منها وهبان.
عقد الجراكسة صفقة مع حاييم، وهو من يهود بني حشيش، واتفقوا على أن يزودهم بحاجتهم من بنت الكَرْم، فكان يبعث إليهم ما بين ثلاثة إلى أربعة جمال محمّلة بدِنان الخمر، يحملها إليهم واحد من أولاده، فكانت تصل إلى صنعاء ضحى، ويُدخِلون القافلة إلى القلعة، ويأمرون الولد اليهودي بشرب قدر يسير من كل دنّ، تحرزًا من أن تكون مسمومة، ثم يحبسون الولد إلى العشي، فإذا أزف وقت وجبة العشاء وما يزال الولد حيًّا، أمر الجاشنكير بإخراجه مع إبله، وأذن بتوزيع دنان الخمر على الأمراء والجنود الجراكسة.
فلما انقضى نهار رابع عيد الفطر، وأُغلقتْ أبواب صنعاء كالعادة، أصدر الأمير حمزة بالي أوامره للعسكر بالتجهز لغزو بني بهلول في الصباح.
عرف القشَّام قراريط بالخبر من الجاشنكير المكلف بطعام الجراكسة وشرابهم، إذ كان مساعده الذي لا يستغني عنه، وذراعه اليمين في توفير احتياجات مطبخ القلعة، ودون أن يثير ريبة أحد، التقى الفتى اليهودي وطلب منه أن يخبر أباه أن يرسل في الغد خمسة أقداح من البر البوني، وكانت هذه كلمة السر.
فلما أُذن للولد بالانصراف، خرج رفقة جماله من باب ستران، واعترضه وهبان في الطريق، في موضع متفق عليه، وعلم منه موعد الغارة.
بعد أن حطمتْ قبائل بني بهلول وسنحان هالة الهيبة التي تُحيط بالجراكسة، ومرّغوا شرفهم في التراب، ارتفعت معنويات أهالي صنعاء إلى عنان السماء وقويت قلوبهم، وما كاد الليل يُرخي سدوله حتى انتفضت المدينة عن بكرة أبيها في ساعة واحدة، وانقضوا على العسكر الغورية كالسباع الكاسرة بما تيسر في أيديهم من سيوف وخناجر ومناجل وفؤوس وقضبان الحديد وهراوات الخشب الصلب، ولاحقوهم في الأسواق والطرقات، وداهموا القصور والثكنات، وداسوا جثثهم بالأقدام، وعلقوا الرؤوس في أبواب الحوانيت، ولم تنجُ منهم سوى شرذمة قليلة احتمت ذليلة في القلعة، والناس قد أحاطوا بهم، يرجمون القلعة بالحجارة، ويتوعدونهم بالانتقام.
أقبل وهبان من قريته متلهفًا، وهو الذي رتب مع قادة المقاومة في داخل المدينة لذلك الهجوم المنسق، فرأى النيران تشتعل في كل أسوار صنعاء مُحولة الليل إلى نهار، فابتهج أن صنعاء قد ثارت على الغزاة، وسيطر أبناؤها على المدينة.
وصل إلى باب شعوب المفتوح على مصراعيه والأشاوس من أهالي صنعاء في حركة نشطة يتدفقون منه دخولًا وخروجًا لتأمين مدينتهم، والتقى بصديقه قراريط القشَّام، فسأله عن الزلابيا، وكان قد أوصاه بضرورة قتله قبل أيّ أمر آخر، فقال له إن أهالي صنعاء جادّون في طلبه، ولكنهم لم يجدوا له أثرًا! استدرك قراريط قائلًا إنه ربما لجأ إلى القلعة مع من تبقى من العسكر الغورية.
انطلق إلى باب ستران، فوجد طائفة من الأهالي يحرسون الباب لكيلا يفرّ منه الجراكسة إلى خارج المدينة، فسألهم وهبان إن كان أحد قد خرج من الباب، فنفوا ذلك قطعًا.
خطر بباله خاطر، ولكنه تردد. لحق به قراريط على خيل من خيول الجراكسة، ودعاه لدخول المدينة ليحتفل مع الأهالي بالنصر المؤزر.
لم يحفل وهبان بدعوته، ترجل عن فرسه وحمل قوسه وجعبة سهامه على كتفه، وناول رسن الكحلاء لصديقه، وقال إنه سيصعد إلى نقم.
سار وهبان في ظلمة حالكة، وكفه على مقبض سيفه متأهبًا لنزالٍ ضارٍ مع المخلوق الغامض الذي تقمص شخص الزلابيا.
حين وصل إلى الينبوع، تحسس التراب، فوجد فيه بللًا، فصدّق حدسه وأدرك أن شبيه الزلابيا في الجوار.
سار بخطوات خفيفة حذرة لا صوت لها، باتجاه شجرة الأثل، ولمح شبيه الزلابيا شاخصًا أمام الشجرة، وسمعه يسجع بأرقام وحروف مقطعة. ثم ظهر سراب ماءٍ بين الأغصان، انتبه وهبان أنه يهم بالمغادرة من حيث أتى، فسحب سهمًا وشدّه على وتر قوسه وسدّد على عنقه، مرَّ شبيه الزلابيا في السراب، كما يمر الإنسان من أحد الأبواب، واختفى والسهم في إثره.
ولن يعلم وهبان أبدًا، إن كان السهم قد أصابه أم لا، وهل نجح في قطع دابره، أو أنه سيظهر في المستقبل مرة أخرى.