في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين الفائت، نقبت بعثة أثرية فرنسية في محافظة شبوة، وتضمنت بعض تقاريرها وجود آثار تدل على بشر سكنوا المنطقة منذ العصر الحجري القديم، والذي يحدد علم الآثار انتهاءه في حدود 12 ألف سنة ق.م. وفي منتصف ثمانينيات القرن العشرين أيضًا، أفادت بعثة إيطالية، عند نزولها إلى وادي "يلا" بمحافظة مأرب، أن المخلفات البشرية الموجودة في المنطقة تعود إلى العصر الحجري القديم. أما آثار العصر الحجري الحديث وما تلاه من ظهور المعادن، فهناك الكثير من تقارير التنقيب الأثري في اليمن، تفيد بوجود حضارة إنسانية شهدت تطورات وانتكاسات قبل أن تندثر الكثير من معالمها وآثارها المادية.
الحديث عن الحضارة اليمنية يأخذ عدة جوانب في اليمن، أبرزها الزهو والتعصب واستجرار الماضي التليد بطريقة أسطورية، حيث إن هناك من يقول إن اليمن هي موطن البشر الأول، ومن يقول إنه كان لها دور في خروج البشرية من العصر الحجري، مستدلّين بأن أول صناعة للخنجر كانت في جنوب الجزيرة العربية (اليمن حاليًّا). وبالمقابل، هناك من يقول بأن الحضارة اليمنية القديمة كانت متواضعة مقارنة بالحضارات الأخرى، كالبابلية والآشورية والمصرية واليونانية، والأوروبية عمومًا. وفي هذا التقرير تقدم "خيوط" آراء عدد من الباحثين اليمنيين حول أهمية هذه الحضارة وحجمها بين الحضارات الأخرى.
يقول الباحث في النقوش اليمنية القديمة، محمد عطبوش، إن كل ما لم تؤكده الكتابات والنقوش، يبقى محل شك، وفي إطار الغموض. ويضيف: "صحيح أن تاريخ اليمن غني وثري، لا شك في ذلك، لكنه لا يزال مليئًا بالأسرار، رغم أنه قد تم العثور على أكثر من 50 ألف نقش، لكنها ما زالت محدودة، وهناك الكثير لم يكشف بعد". كما ينتقد عطبوش فكرة المقارنة المنتشرة بين الحضارات والشعوب، ويقول في ذلك إن "الحضارة اليمنية ليست أكثر من الحجاز، ولا أقل من مصر، والشام، لكل حضارة سياقها التاريخي الخاص".
بالمقابل، يقول الكاتب، والناشط محمد المقبلي، وهو مهتم بالتراث والتاريخ، إن "الاعتزاز بالذات الحضارية أمر جيد للغاية، ولا علاقة له بالادعاء النرجسي"، مشيرًا إلى أن هذا الاعتزاز "ليس حكرًا على اليمني، بل إن هناك عربًا، يتحدثون عن اليمن بصفتها أصل العروبة".
عدنان الصنوي: تجولت في متحف ميتروبوليتان في نيويورك، باحثًا عن أقدم قطعة أثرية يحتويها هذا المتحف، فوجدتها في قسم المشرق العربي، وهي عبارة عن طاولة شواء ذهبية تعود لأحد ملوك اليمن القدماء.
ثمة دلائل كثيرة تشير إلى أن الإنسان القديم في اليمن، كان يتميز بالذكاء ومتقدمًا في تفكيره، مثلًا، القدرة على بناء سد مائي ضخم مثل سد مأرب، في القرن الثامن قبل الميلاد، كان يعتبر بمثابة معجزة في ذلك الوقت، ولم تتوقف إنجازات الإنسان عند هذا السدّ، بل انعكست في بناء القصور ودور العبادة وإنتاج السلع التجارية. وفي المعمار توالت تلك الإنجازات، من قبيل بناء أول ناطحات سحاب في العالم، مثل قصر غمدان وبنايات مدينة شبام حضرموت، التي يصل ارتفاع بعضها إلى نحو 25 مترًا، وتم بناؤها قبل ما يقارب 500 عام، حسب أغلب المصادر، ولا تزال المدينة آهلة بالسكان حتى اليوم. لكن، هذا التاريخ العريق يجعل اليمني لا يلتفت إلى الخلف إلا بالكثير من الزهو، وهو ما يبرره محمد المقبلي بما يعنيه التاريخ للشعوب. يقول المقبلي: "التاريخ بالنسبة لنا هو الهُوية، والتعريف العام للشعب الذي يسكن هذه الجغرافيا، وإرثه الحضاري، يحدد من خلال التاريخ".
عن تاريخ اليمن، بنظرة مختلفة، يقول الباحث في الفلكلور اليمني، أحمد العرامي، إن "حضارة اليمن، هي واحدة من أهم حضارات الشرق القديم. ليست أقدم حضارة، ولا أعرق حضارة، ولا أهم حضارة، لكنها بالنسبة لليمنيين، ووضعهم الحالي، ولليمن، كمجتمع، وهُوية، ودولة، مفاجئة؛ كوننا لدينا كل هذا من دون أن ندركه". ويقدر الباحث العرامي زمن نشوء حضارة اليمن بثلاثة آلاف عام، ويقول إنه "رغم عراقة الحضارة اليمنية، هناك تجاهل لها في الدرس التاريخي بشكل عام، وفي كتابات حول الشرق القديم، نادرًا ما تحظر اليمن، بل إنها غائبة حتى في الأدبيات اليمنية، ومناهجهم المدرسية والأكاديمية".
وعن العراقة وقدم الحضارة اليمنية، يروي الصحفي ومراسل قناة فرانس 24، عدنان الصنوي، قصة زيارته لمتحف ميتروبوليتان الشهير في نيويورك. يقول الصنوي إنه تجول باحثًا عن أقدم قطعة أثرية يحتويها هذا المتحف، فوجدها في قسم المشرق العربي، وهي عبارة عن طاولة شواء ذهبية تعود لأحد ملوك اليمن القدماء.
في الاستفادة من التاريخ
في مطلع أبريل/ نيسان 2021، تابع العالم مهرجان نقل المومياوات في مصر، إلى متحف جديد، في فعالية هدفها الأساسي كان لصالح السياحة في البلاد. وفي المملكة العربية السعودية يجري العمل على مشروع ضخم، لتحويل مدينة "العلا" أنموذجًا عالميًّا للمدن الأثرية، وهي المدينة التي كانت مستوطنة تابعة لمملكة معين اليمنية، اسمها "دادان" أو "ديدان". وكذلك مدن مثل باريس، وروما، يصفها البعض بأنها أشبه بالمتحف المفتوح، وهكذا نجد في كل دول العالم، أنه مهما بلغت البلدان من حداثة، إلا أن هناك تنافسًا مستمرًا على ادعاء الأقدمية، كمحاولة لاحتكار التاريخ، والارتكاز على جذوره، للاستفادة منها بما يخدم الحاضر والمستقبل.
غير أن معالم التاريخ في اليمن وضعها مختلف، رغم امتلاكه تاريخًا جدير بأن يجعل من الحاضر أفضل مما هو عليه، لكن البلد لا يزال غارقًا في حروب تدمر الحاضر والمستقبل، وليس فقط الإرث التاريخي. وبعيدًا عن الاستفادات المادية المعروفة، كالسياحة وغيرها، هناك توظيفات معنوية للتاريخ يمكنها أن تعود بالمنافع للبلاد.
يتحدث الباحث في الفلكلور أحمد العرامي، والذي سبق له أن ساهم في إعداد تقارير حول السياسات الثقافية في المنطقة العربية، عن ذلك قائلًا: "شيء مهم جدًّا، أن يستدعي اليمنيون حضارتهم، مثل أي مجتمع استدعى حضارته، الغرب استدعى اليونان، ومصر استدعت مصر القديمة، وأيضًا العراق استدعت بابل"، ويضيف أن "المرجعيات القديمة لها معرفة تجريبية، وأهميتها في كونها دنيوية، لا تحتوي على أي قداسة".
بينما يصف الكاتب والناشط السياسي محمد المقبلي، التاريخ بالمحفز للتقدم والحداثة، "لما له من إسنادات، بما في ذلك الحداثة السياسية والمدنية"، ويشير إلى معلومة مفادها أن "أول عملية فصل للدين عن السلطة حدثت في اليمن، وكان سلوكًا متقدمًا جدًّا آنذاك"، وذلك حين قام الملك السبئي كرب إل وتر، بـ"فصل الدين عن السياسة، عندما كان هو الملك والكاهن، وقرر أن يسمي نفسه بالملك، تاركًا السلطة الدينية لمؤسسة خاصة". ويضيف المقبلي أن "اليمن كان سباقًا أيضًا في إعطاء السلطة للمرأة، وأنه من خلال التحقيقات التاريخية، يمكن الاستفادة من التاريخ في ثلاثة محاور: إعادة صياغة الشخصية اليمنية وفق الإرث الحضاري، والتأكيد على شخصية الدولة من خلال التراث المادي واللامادي، وكذلك العمل على حفظ ذاكرة اليمنيين".
ويقول الباحث محمد عطبوش عن الاستفادة من التاريخ بأن "هناك استفادات كثيرة يمكن أن نحصل عليها من التاريخ، ومن قراءته بشكل صحيح، ومن هذا الإرث الثقافي الكبير"، بعيدًا عما يصفها بـ"الآراء الشعبوية التي جعلت من التاريخ مجرد آراء عصبوية".
الضرر الذي لحق بالتراث
يقال إن أحد الملوك الفرنسيين تجنب الحرب، في لحظة كان فعل كهذا يعتبر "عار"، وبرر عدم خوضها قائلًا بأنه لا يمكنه احتمال تدمير قطعة أثرية واحدة في باريس. ويدون تولستوي في روايته الشهيرة "الحرب والسلم" أن أحد القادة الروس تجنب مواجهة جيش نابليون في موسكو، وانسحب إلى خارج المدينة، تاركًا الجيش الفرنسي يقتحمها دون أي مقاومة، وذلك حفاظًا على بنية المدينة وسكانها.
عطبوش: الحرب ستنتهي، ولن تجرف التاريخ معها، ومن حسن حظ اليمنيين أن تاريخهم ما زال حاضرًا، ويرافقهم بتفاصيلهم؛ أي إن نوع حياتهم تاريخية، وكذلك الأمكنة التي يسكنونها
ومع ذلك لا يخلو تاريخ الحروب من تدمير المدن والآثار، وفي المنطقة العربية، أثناء الحرب على تنظيم "داعش" في العراق، أظهرت لقطات تلفزيونية بعض عناصر التنظيم وهم يدمرون قطعًا أثرية يعود تاريخها لآلاف ومئات السنين، وراجت تجارة الآثار أكثر من أي وقت مضى.
وفي العام ٢٠١٦، صوّت الكونجرس لفرض قيود على تهريب الآثار من سوريا، بعد أن وجد أن "الجماعات الإرهابية" تربح من بيعها لدفع ثمن الأسلحة، والتجنيد. أما في اليمن فلا يوجد حصر كامل حتى الآن للآثار المدمرة والمهربة، على الرغم من جهود بعض المنظمات المحلية، ومتابعة منظمة اليونسكو ودعواتها لحماية التراث الثقافي اليمني.
وفي العام 2018، أصدرت منظمة "مواطنة" تقريرها بعنوان "تجريف التاريخ؛ انتهاكات أطراف النزاع للممتلكات الثقافية في اليمن"، والتي تذكر فيه عشرات الانتهاكات التي طالت المعالم التاريخية والدينية، وتقول فيه إن كل الأطراف "ارتكبت العديد من الاعتداءات المباشرة وغير المباشرة في حق التراث اليمني". وصرّحت رئيسة المنظمة رضية المتوكل، حينها، بأن "الحرب الدائرة في اليمن أتت على كل شيء ولم تدخر، بعيدًا، حياةَ اليمنيين وممتلكاتهم الثقافية، بما في ذلك ماضيهم التليد، وذاكرتهم الجمعية. ليس ذلك خسارة لليمنيين فحسب، بل للتراث الثقافي لجميع الشعوب".
عن جناية الحرب بحق التراث الثقافي اليمني، يقول الناشط المقبلي، إن "الحرب أثرت بطريقة مباشرة، وغير مباشرة، وهناك الكثير من المعالم الحضارية تضررت"، مضيفًا أن اليمن "بحاجة عند استعادة الدولة، لإعادة بناء الذاكرة الأثرية لليمنيين، واستعادة ما يمكن استعادته والذي تضرر في مناطق حساسة من براقش، وزبيد، وبعض مناطق الآثار في إب، وأيضًا ما طال المتحف في تعز". بينما يرى محمد عطبوش أن "الحرب ستنتهي، ولن تجرف التاريخ معها"، ويسند رأيه هذا بالقول: "من حسن حظ اليمنيين أن تاريخهم ما زال حاضرًا، ويرافقهم بتفاصيلهم؛ أي إن نوع حياتهم تاريخية، والأمكنة التي يسكنونها كذلك، حتى التراث غير المادي ما زال مستمرًا ومعاشًا، ولم يختفِ من حياة اليمنيين".
الجدير بالذكر، أن العبث بالإرث التاريخي اليمني لم يكن وليد اللحظة، أي أنه لم يرافق الحرب فحسب، بل ابتدأ منذ زمن بعيد، وبعدة طرق، منها تهريب الآثار، والذي استمر بتواطؤ من قبل السلطة الحاكمة آنذاك، عندما أُقرت تشريعات قانونية تعمل على تشجيع المهربين، بدلًا من ردعهم، وذلك من خلال قانون ينص على عقوبة كل من ثبتت ضده جريمة تهريب للآثار، بدفع مبلغ يتراوح بين 150 و10 آلاف ريال. وقد أشار إلى هذا القانون وزير الثقافة الأسبق عبدالله عوبل، في تصريح صحفي عام 2013، وقال حينها إن الوزارة تبنت قوانين جديدة، قد تم إقرارها، لكن القانون المذكور، يدل على مدى التهاون مع العبث بالآثار.
هذا التراث الكبير، المادي منه واللامادي، والذي كان من المفترض أن يكون عاملًا مساعدًا في تقدم البلد، أصبح عبئًا ثقيلًا عليهم، يتطلب منهم أن يدافعوا عنه ضد الحرب والتهريب، والتجريف، لكي يبقى قائمًا، ولو بحده الأدنى.