وقفتُ ورأيتُ -فيما يرى النائم- أن عددًا كبيرًا من العلماء والأدباء والشعراء قد وقفوا في صفوف منتظمة؛ منهم في اللغة والأدب، ومنهم في الفلسفة وعلم الكلام، ومنهم في التاريخ وعلم النفس، ومنهم في الجغرافيا وعلم الفلك، وقليل منهم في السياسة والاقتصاد، وبينهم العلَّامة والبحَّاثة/ مطهر بن علي بن يحيى الإرياني، مددت يدي إليه وسلَّمتُ عليه.
سألته: ما بال هؤلاء يقفون في هذه الصفوف؟ قال: إنهم ينتظرون مرتاديهم من طلبة العلم والراغبين بالتنزه في عقولهم.
ضحكت ملء شدقيَّ قائلًا: وكيف يتنزه المرء في عقول الناس؟
قال: على رسلك يا بُنيَّ؛ أما قرأت أو سمعت قول المأمون حين سُئلَ من أحد ندمائه: ما أحب الأشياء إليك، يا أمير المؤمنين؟ قال: التنزّه في عقول الناس، قيل وكيف ذلك؟ قال: بالقراءة. وأردف الإرياني بالقول: أما تحبَ مصافحة هؤلاء الرفقة؟ قلتُ: بلى، ولكنّ الجمعَ كبيرٌ وقد جئتك اليوم تخصيصًا لأحظى بشيءٍ من دُرَرِك وجواهرك!
قال: وما حاجتك منها؟
قلت: أحتاجها جميعًا، ولكن كيف لتلميذ مثلي أن يحملها مجتمعةً؟
قال: خذ ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
قلت: هات من "هيَّا نغني للمواسم".
قال:
عِمْ صباحًا يا موطني، عِمْ صباحًا ** أيها الموطن الأبيّ السّخيُّ
عِمْ صباحًا (تهائمًا) و(جبالًا) ** و(سهولًا) جمالها سندسيُّ
يا بلادي تصرَّم الليل إلا ** بعضه، والسكون عذب نقي
توقف. قلت: زدني من هذه الجواهر التراثية.
قال: يا الله طلبناكْ نور الفجر في الأفق لاحْ ** فتَّاح رزاق قاضي كل حاجهْ ودينْ
الطير صدَّاح في الأدواح والديك صاح ** والزهر فوَّاح والبِيْض الحسان أوردينْ
وكل فلاح بكَّر واسعد الله الصباح ** يعمل من اصباح لوما العيل يتروحين
يا رب كلل جهوده بالظفر والنجاح ** وأعطه وضاعف عطاه في موسمه مرتين
***
من (زبيد) لا (عدن) ** لا (ارحب) و(صعدة) و(صرواح)
تشهد أرض اليمن ** في مطلع الموسم أفراح
عاد عبر الزمن ** (نيسان) من بعد ما راح
راعد الصيف حنّ ** والخير جاء بارقه لاح
يا شويق الحِجَنْ ** يا سُعد من كان فلاح
دان والليل دان ** سيلاه وامروَح السيل
توقف عن سكب جواهره إلى محفظتي.
قلت: ما بالك، سيد الحرف، تقتِّر عليَّ هذه الجواهر!
قال مبتسمًا: خذ منها قدر حاجتك، واترك لغيرك ما تبقى.
قلت: سيد العارفين! أما سمعتَ الحديث القائل: "ناهمان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال"، وقولي الذي نشرته في بدعة العصر- النت: "المعرفة كالماء، كلٌّ يشرب منه بقدر ظمئه".
قال: قاتلك الله، ما أنفذ حُجَّتَكَ! فاطلب أيها المكار.
قلت: هات لي شيئًا من "البالَة" (ملحمة غنائية يمنية، كتبها مطهر الإرياني).
قال:
"واللَّيلة البال، ما للنسِّمهْ الساريهْ ** هبَّت من الشرق فيها نفحة الكاذيهْ
فيها شذى البُن فيها الهمسهْ الحانيهْ ** عن ذكريات الصبا في أرضنا الغاليهْ
(والليلهْ العيد وأنا من بلادي بعيدْ) ** ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيدْ
قلبي بوادي (بنا) و(ابيَن) ووادي (زبيد) ** هايم، وجسمي أسير الغربة القاسيةْ
خرجت أنا من بلادي في زمان (الفنا) ** أيام ما موسم الطاعون قالوا: دنا
وماتوا أهلي ومن حظِّي النكد عشت أنا ** عشت أزرع الأرض وأحصد روحي الذاوية
ذكرت أخي كان تاجر أينما جاء فرشْ ** جُو عسكر (الجنّ) شلّوا ما معه من بُقش
بكر غبش: أين رايح؟ قال: أرض الحبشْ ** سار، واليوم قالوا حالته ناهيهْ".
توقف. نظرتُ إلى عينيه، ونظر إلى عينيَّ، أدركَ أني ما زلتُ راغبًا بالمزيد.
قال: من أي الدرر تريد؟
قلتُ: ما المسؤول أعلم من السائل!
قال: لمحت في عينيكَ طربًا وغزلًا.
قلتُ: ألست القائل: "اعشق ويا الله"؟
قال: قاتلك الله! من أدّبك فأحسن تأديبك؟
قلتُ: أسرتي أولًا؛ ثم أنت ورفقتك ممن يقف في هذه الصفوف المنتظمة في مكتبتي؟
قال: لك من اسمك نصيب، فخذ. وطِفِقَ يقول:
اعشق ويا الله ** خلِّ اعتمادك على الله ** واعشق ويا الله
الحُبّ أجمل هديِّهْ ** للنَّاسْ من الله
كرَّم به الآدميهْ ** من كلِّ ملِّهْ
يا اهل القلوب الهويهْ ** معاكم الله
من جاء الطريق السويهْ ** فما يضلَّه
والحُبّ نعمة هنيّهْ ** والمنعم الله.
أطلقتُ نهدةً كانت قد اجتاحت صدري.
قال: ما بالك؟
قلتُ: لا شي، فقط هيّجني طربك، فعدت بذاكرتي إلى زمن الصبا.
قال: وأي مضارب عشتَ فيها؟
قلتُ: كما قال الشاعر الشعبي صالح السعيدي:
"أصلي من القوم ذي ما حدْ خدع في زميلهْ ** حصونها مانعهْ
أرض البطولات يحصب والفروع الأصيلهْ ** علومها شايعهْ"
التفتَ إلى من بجواره، ابتسمتُ قائلًا: أمَللت من كثرة طلبي؟
قال: معاذ الله! ففهمت أنه يريد أن يعطيني دررًا أخرى؛ قلتُ: المعذرة عن إلحاحي في الطلب! فقد أثقلتُ عليك بطلبي، إنما هي حيلة المريد، وبغية المستزيد، في طلب المزيد.
قال: وأنا على استعدادٍ للتمديد فيما تحب وتريد.
قلتُ: أريد من استطرادك في المعجم اليمني في اللغة والتراث.
قال: سأعطيك ما تريد.
قلتُ: حسبي ما قل ودل.
قال: خذ هذه ولا تزد، وأطنَب يقول:
(ل.و.ه)
"تلوَّه فلان للشيء الخفي، بمعنى فطن له وانتبه، وأرى أن أصلها: لاهَ الشيء على خفاء أو عن خفاء يلوهُ لوهًا ولَوْهةً فهو لاوهٌ أو لاهٍ، أي ظهر وبدا أو تجلى للمتأمل".
قلت: زدني من هذا.
قال: ليس في الوقت والمساحة متسعٌ يا بُني، لكني أحيلك إلى كتابي المعجم اليمني في اللغة والتراث، ففيه الكثير المفيد من هذا.
توقف وأخذ نفسًا عميقًا ثم قال: أما اكتفيتَ؟
قلتُ: والله ما يكتفي الإنسان من دررك، لكن أخشى أن أشقَّ على قارئي الكريم، إنما هو الوطن يدعوني إليه.
قال: اطلب ولا تطل في الطلب.
قلتُ: إنه ذو شجون! نظر إليّ بشق عينيه وحملق إليَّ وقال: ما هو؟
قلتُ: الوطن... الوطن؛ يمرُ بمأساة عصيبة، وقد سمعت أستاذي الدكتور المقالح يقول:
"ما ليس مقبولًا ولا معقولا ** أن يُصْبحَ اليمنُ الحبيب طُلولا
أن يشتوي بالنار من أبنائه ** ويناله منهم أذًى وذبولَا
ثوراتهم موءودةٌ ودماؤه ** مسفوحة تروي الثرى المشلولا
ونساؤه مأسورةً ورجاله ** يتطلّبون لدى الغريب حلولا
الراكعون لكل عِلْجٍ أجربٍ ** والخاضعون أذلةً وخمولا
يتقاتلون على سرابٍ خادعٍ ** ويرون فيه المَغنمَ المأمولا".
وأعرف أنك رائدٌ من رواد القصيدة الوطنية، خاصة في مثل هذه الظروف العصيبة، فما هي الرسالة التي تريد إيصالها لأبناء اليمن؟
قال: سأتلو عليك من "المجد والألم" هذه الأبيات:
"أيا وطني جعلتُ هواكَ دينَا ** وعشتُ على شعائرك أمينَا
إليك أزفُّ من شعري صلاةً ** ترتَّل في خشوع القانتينا
وفي الإيمان بالأوطان برٌّ ** وتقديسٌ لرب العالمينا
ومن يفخر بمثلك يا بلادي ** فما يعنيه لوم اللائمينا
بلادي كعبةٌ للحق تهفو ** لقبلتها البرية أجمعينا"
إلى أن قال:
وترفع هامة (اليمن) المفدّى ** بأعظم نهضة في السالفينا
و(حمير) حينما ظفروا وأبنوا ** (ظفارًا) للمعالي يرفعونا"
حينئذٍ كحّ كحّتين، وجثا على ركبتيه، رافعًا رأسه وقال: يا بُنيّ؛ أبلغ البحَّاثة والمريدين مثلك: أن يُكْمِلوا التنقيب عن كنوز اليمن التراثية، التي أورثها لهم أجدادهم، فلم نغترف منها سوى القليل.
شخص ببصره إلى السماء وأجاب نداء خالقه، فسالت من عينيَّ دمعتان قَبَّلتْ خديه، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، تلفتُّ حولي، رأيتُ من حوله قد ارتدوا ثياب حزنهم، ونظرت إلى ما أعطاني من التراث، فألفيته قد ارتدى عباءة الحزن أيضًا.
قلت: رحمة الله عليك أيها العالم الجليل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.