بجسده النحيل، ووجهٍ حفرت فيه السنين علاماتها الواضحة، يلبي يحيى العزي الذماري، طلبات زبائنه، منذ ساعة الصباح الأولى وحتى الثامنة مساءً، وبينهما ساعات قليلة للاستراحة. تلك هي يومياته على امتداد أربعين عامًا.
قهوة يحيى الذماري، بحي الأمير (وسط مدينة ذمار)، من أشهر المقاهي الشعبية التي تُواصِل أداء وظيفتها وتقديم الشاي والبُنّ للزبائن، وفي جدرانها تحضر وجوه السياسيين والزعماء، وأيضًا المتوفّين من البسطاء من أهالي المدينة الذين كانوا يرتادون المكان قبل وفاتهم. يجد العشرات من أهالي مدينة ذمار المكانَ فرصةً لشرب الشاي وتجاذب أطراف الحديث على الكراسي القليلة للقهوة أو الرصيف المقابل لها، وفي المساء يكتظ المكان بالزبائن أو الذين يلعبون "الدمنة" (الدومينو) أو "الكيرم".
يقول عبدالله الشرفي - أحد سكان المدينة بالقرب من المقهى، لـ"خيوط": "قهوة الذماري، شهيرة بنكهة الشاي المميز الذي يصنعه العم يحيى، ويجد أهالي المدينة فرصة للقاء أصدقائهم وقضاء الوقت في التواصل الاجتماعي وتبادل الأحاديث، خاصة الذين لا يتناولون القات".
الصباح الباكر وبعد الغداء وبعد المغرب، هي أوقات الذروة لهذا المقهى، وفق مالكه يحيى الذماري، الذي يؤكد في حديث مقتضب لـ"خيوط"، أنه يصنع الشاي والبن بمقادير محددة، ويحرص دائمًا على شراء أجود أنواع الشاي والبن منذ السنوات الأولى لافتتاح المقهى قبل أربعة عقود.
كان يحدثنا، وهو منشغل بتلبية طلبات الزبائن الذين توافدوا إلى المكان، عندما قاطعه أحدهم بسؤاله عن عدم وجود صورة في الحائط للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، ليكتفي العم يحيى برسم ابتسامة بريئة، ومواصلة عمله في صنع الشاي.
في العام 1971، افتتح مقهاه في حي الأمير، قبل أن يُهدم المبنى الذي كان فيه المقهى القديم، لينتقل إلى مبنى مجاور قبل نحو 17 سنة، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لا يزال مقهاه عامرًا بالرواد صباحًا ومساءً.
في زمن التلفزيون العادي -أسود وأبيض- كان المقهى مقرًّا رئيسيًّا بعد "التخزينة" (مضغ القات) للكثير من سكان مدينة ذمار، لكنها اليوم باتت مهجورة، باستثناء بعض الذين قضوا سنوات عمرهم فيها.
المدوّن والصحفي علي الورقي، يجزم بأن من يفكر في شرب الشاي في مدينة ذمار، فإن الخيار الأول الذي يتبادر إلى ذهنه "شاي العم يحيى". ويضيف في حديثه لـ"خيوط": "المقاهي الشعبية في ذمار قليلة، لكنها متميزة بتاريخها وحضورها في يوميات أهالي المدينة، حتى من غادروها يتذكرون تفاصيل تلك الأماكن لارتباطها بذكرياتهم".
ويؤكد الورقي على أن "قهوة الذماري"، تتميز عن غيرها بمذاق خاص، مرجعًا هذا التميز لحرص العم يحيى على تحضير طلبات الزبائن بنفسه وإيكال مهام تقديم الطلبات وإيصالها، إلى العمال. "في صنعاء شاي مدهش، وفي ذمار شاي الذماري، طبعًا مع فارق الإمكانيات"، يضيف الورقي ضاحكًا.
عدد قليل من المقاهي الشعبية التي صمدت حتى الآن، منها "قهوة حاري أيوب"، و"قهوة الذماري"، و"قهوة قرابش" في حيّ سوق الربوع، و"قهوة الثمري" بحيّ "الحوطة"، والكثير من المقاهي الشعبية أغلقت أبوابها وغيّر أصحابها أنشطتهم بسبب ارتفاع الإيجارات، وكذلك أسعار المكونات، وفي مقدمتها "السكر والبن والشاي"، مقابل ضَعف إقبال الزبائن.
ويرى محمد المجحمي، صاحب "قهوة حاري "أيوب"، بحي الميدان، أن التغيير طال حتى المقاهي الشعبية. يقول في حديثه لـ"خيوط": مدينة ذمار كان فيها أكثر من 15 مقهى شعبيًّا، والباقية منها لا يتجاوز عددها أصابع اليد. وعند السؤال عن السبب، قال: "البعض أغلقت بسبب الإيجارات، والبعض بسبب وفاة صاحبها، وهناك من أغلق بسبب قلة الزبائن، وبسبب ارتفاع أسعار البُن والسكر والشاي".
يعرف المجمحي أهمية وجود المقاهي الشعبية، كمكان لـ"قضاء أوقات جميلة وهادئة بعيدًا عن المشاكل اليومية التي تعكر مزاج الناس"، مشيرًا إلى أن فترات الذروة في عمله تكون متزامنة مع ارتفاع أسعار "القات"، حيث يشهد مقهاه إقبالًا كبيرًا من مختلف فئات وشرائح المجتمع، الذين يتوقفون عن مضغ القات في مواسم ارتفاع أسعاره.
في السياق ذاته، يتذكر محمد صالح الكليبي، من أهالي مدينة ذمار، ما وصفه بـ"الزمن الجميل للقهاوي". يقول لـ"خيوط": كانت المقاهي حاضرة في كل حي، وتعد ملتقى لسكان الأحياء ولاعبي أندية الحواري، وكانت تكتظ طوال ساعات النهار والمساء بالزائرين، سواء لشرب الشاي والبُنّ أو لعب ألعاب الطاولة، مثل "الكيرم، و"الدمنة"، و"الجيم"، و"البطة"، وكذلك لمشاهدة المباريات والأحداث السياسية والنشرات الإخبارية. ويشير إلى أن بعض كبار السن كانوا يتوافدون في فترة المساء إلى المقاهي للتنفيس عن همومهم وممارسة هذه الألعاب الشعبية، وكذلك مناقشة القضايا العامة التي تهم أحياءهم.
في زمن التلفزيون العادي -أسود وأبيض- كان المقهى مقرًّا رئيسيًّا بعد "التخزينة" (مضغ القات) للكثير من سكان مدينة ذمار، لكنها اليوم باتت مهجورة، باستثناء بعض الذين قضوا سنوات عمرهم فيها، بحسب الكليبي.