ليس هناك غيرنا في اليمن!

الترهيب؛ خنجرٌ في خاصرة التعايش والتنوع
July 15, 2024

ليس هناك غيرنا في اليمن!

الترهيب؛ خنجرٌ في خاصرة التعايش والتنوع
July 15, 2024
.

تحقيق: سميرة عبداللطيف & بهاء المقطري

عاشت إلهام وسط جيرانها وهي تعلم أنهم من الأقلية "البهائية"، لكنها لم تشعر بالغربة بينهم؛ كما تقول: "كنا نتبادل صحون الطعام، وأزورهم وأطمئن عليهم باستمرار، لكن هذا الوضع لم يستمر بعد اعتقال زوجها كونه من البهائيين، الأقلية التي تشكو القمع من بعض السلطات في اليمن"، إضافة إلى "الرفض" المماثل وبشكل أكبر في المجتمع اليمني لـ"المسيحين" بحسب مواطنين غادروا البلاد بسبب ذلك.

يؤمن البهائيون بأن البشرية في حاجة ماسة إلى رؤية موحدة تجاه مستقبل المجتمع البشري، وطبيعة الحياة، إذ إنّ لهذه الفئة أو الطائفة تواجد في اليمن مع تصاعد وتيرة قمعهم من جماعة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء، في حين ترتسم صورة ضبابية حول "المسيحيّين" في اليمن؛ يأتي ذلك في ظل الحاجة الماسة للتعايش الذي يشكّل الترهيب بمثابة خنجر في خاصرة التنوع في المجتمع اليمني.

يقول يمنيّون "بهائيون" إنّهم لا يحبون النظرة التي تقسّم المجتمع إلى أكثرية وأقليات بل تتمحور رؤيتهم في وحدة المجتمع، ولا ينظرون لأنفسهم بأنّهم جماعة دينية منعزلة، فلا يوجد لديهم مظهر خاص، شكلًا وملبسًا، أو طقوس خاصة، ولا هم متكتّلون في أحياء مدن محددة، بل هم جزءٌ طبيعي من نسيج المجتمع اليمني".

بينما يتفق كثيرون على أنّ الدِّين أو الثقافة لا يُشكِّلان أيّ فارق، بل على العكس فيما يتعلق بالتعايش والسلم الاجتماعي الذي يتطلب التركيز على القواسم المشتركة مثل اللغة والمبدأ الإنساني.

 من المعروف تاريخيًّا، كما تشير مراجع، أنّ الدِّين لعب الدور الأهم في حياة الأقدمين باعتباره أكثر العوامل التي أثّرت في نفوسهم؛ وذلك لاستعانتهم به ليفسر لهم أسرار الكون والحياة، من خلال تعاليمه التي يتقيّدون بها، ونواهيه التي ينهاهم عنها، والأعياد المتكررة التي تؤرخ لهم أوقاتهم.

بعد 2015، وإلى اليوم، هناك تضييق وانتهاكات طالت الجميع، حيث تعرضت النساء للاعتقال بكل وحشية بسبب معتقداتهن، كما تم سجن أمهات لديهن أطفال صغار واحتُجِزن بعيدًا عن عائلاتهن وأبنائهن، ومُورسَت عليهن صنوف التعذيب والضغوطات.

ولمّا كان للدِّين دورٌ أساسيّ في حياة اليمنيين القدماء، بحسب المراجع التاريخية، فإنّ النقوش الكتابية التي خلّفوها نادرًا ما تخلو من إشارات دينية، إذ كانت معظمها تنتهي بالتضرّع إلى إله أو عددٍ من الآلهة، وكثيرًا ما كانت تتداخل الأغراض الدينية في الموضوعات العامة.

التاريخ وضبابية الصورة

تؤكّد المصادر التاريخية أنّ بداية الدين البهائي في اليمن كانت في عام 1260 هجرية، الموافق 1844، حيث شهد ميناء "المخا"، قدوم حضرة الباب (علي محمد الشيرازي) المبشر بظهور الدين البهائي، وذلك في رحلته إلى الحج عبر موانئ اليمن في ذهابه وعودته.

تاريخيًّا كذلك، كانت بداية المسيحية والمسيحيين في اليمن بسفر وهجر دعاة النصرانية من بادية الشام إلى نجران، ومنها نحو بقية المناطق والمدن اليمنية، حيث أسّسوا في بداية الأمر ثلاثَ كنائس توزعت بين (عدن، ظفار، هرمز) بجانب مركز الدعوة الرئيسي، في حين تتحدث بعض المصادر عن كنيسة قديمة تُدعى كنيسة "القُلّيْس" التي بُنيت في صنعاء. أما بحسب مراجع أخرى تاريخية فإنّ "المسيحية" ظهرت في اليمن، في القرن الرابع الميلادي بواسطة رجل يدعى "تاوفيل"، وقد آمن بواسطته الإمبراطور قسطنسيون (361-337) الذي شيّد ثلاث كنائس؛ واحدة في منطقة الحميريين ظفار، والثانية في منطقة "فرضة" عند مدخل الخليج العربي، والثالثة في مدينة عدن على الساحل الجنوبي لليمن.

في نجران أيضًا، جاءت المسيحية مع المسافرين عبر البحر والبر بغرض التجارة أو الاستقرار من اليونان والحبشة والعديد من الحضارات الأخرى، لكنها مع ذلك شهدت تراجعًا وانحسارًا كليًّا في اليمن.

يقول جليل -وهو مواطن يمني مسيحي يعيش خارج اليمن، ومنسق في مؤسسة مسيحية- لـ"خيوط": "إن مشكلة الأقلية المسيحية في اليمن، تتمثل بعدم الاعتراف بها كأقلية، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، فالمجتمع يرفض الاعتراف بوجود أيّ يمنيين ينتمون لطوائف ومعتقدات أخرى، كما أنّ الأمم المتحدة ومقرِّرها الخاص المعنيّ بقضايا الأقليات، فرناند دي فارين، لا يعترف بالمسيحيين اليمنيين كأقلية". موضحًا أن ذلك قد يعود إلى تجنب الأمم المتحدة، تحمّل مسؤولية دعم وحماية المسيحيين اليمنيين في حالة تم الاعتراف بهم كأقلية موجودة في اليمن، وبالرغم من ذلك، لا يمكن لأي أحد إنكار الوجود المسيحي في اليمن؛ لوجود عددٍ من الكنائس والمرافق الخدمية التابع لها في اليمن؛ وفقًا لجليل، مضيفًا: "كان مسؤولون من طائفة الروم الكاثوليك ينتظرون قرار الحكومة بالسماح لهم بتشييد مؤسسات وكنائس تابعة لطائفتهم".

وتُرجِع المصادر الإسلامية التي استندت إليها بعضُ الدراسات والأبحاث، سببَ انتشار "المسيحية"، إلى الكنيسة المسيحية في الحبشة عام 320 ميلادي، ومنها حملها الراهب "فيمون" معه إلى الطرف الجنوبي الغربي من الجزيرة العربية في نجران.

النظرة إلى تقسيم المجتمع

وصلــت "البهائية" إلى المناطــق السـاحلية والجـزر اليمنيـة منتصـف القـرن التاسـع عشـر للميلا، وعُرفــت الطائفــة البهائيــة فــي صنعــاء وبعــض المحافظــات الشــمالية منــذ سبعينيات القرن الماضي، إلّا أنّ وجودهــم ظلّ طـي الكتمــان، ويمارســون طقوســهم بشــكلٍ سريٍّ خوفًا من اتهامهم بالكفر والردّة، إذ يُقدّر عدد الطائفة البهائية في اليمن بحوالي (2000) شخص تقريبًا.

تقول البهائية اليمنية، إلهام زارعي (49 عامًا)، وهي أمّ لثلاث بنات، لـ"خيوط": "لقد انتقلت مع زوجي للعيش في مدن يمنية مختلفة؛ نظرًا لعمله بالهندسة المعمارية وتنفيذ المشاريع، الذي جعله يتنقل بين عدن، وسقطرى، وحضرموت، وإب، وصنعاء، حيث جذبني التنوع والاختلاف الموجود في اليمن، ويجعله مميزًا عن بقية الدول".

تتابع حديثها: "مواجهتي للظلم والمعاناة التي عشتها مع بناتي، بدأت منذ العام 2013، بعد أن بقيت سنوات عائشة بهدوء ووئام مع جيراني رغم معرفتهم كوني بهائية؛ وذلك عندما تم اعتقال زوجي من مقرّ عمله في بلحاف، حيث كان مهندس مشروع مطار  YLNG YEMENبسبب معتقده (كونه بهائيًّا)، مدة 6 سنوات، حينها أدركت أنّ الجهل والتعصب وعدم تقبُّل التنوّع والاختلاف قد مزّق نسيج مجتمعنا".

في السياق، يتحدث نادر السقاف، مدير مكتب الشؤون العامة للبهائيين في اليمن، وهو سجين سابق لدى سلطة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء، وتم تهجيره قسرًا من اليمن، في تصريح لـ"خيوط"، أنّ البهائيّين في كل مكان في العالم جزءٌ طبيعي من مكونات المجتمع المتنوعة، ولا يرون أنفسهم جزءًا منفصلًا من مجتمعهم، يتشاركون ذات الأحلام وذات الطموحات لمستقبلٍ أجمل لليمن.

يضيف: "لا أحبّ -كوني بهائيًّا- أبدًا النظرة التي تقسّم المجتمع إلى أكثرية وأقليات، بل نرى أنّنا جميعًا أبناء مجتمع واحد. لكن إذا كنّا نتكلم على النظرة الكمية أو العددية، فمن الممكن أن نصف البهائيين بأنهم إحدى الأقليات في اليمن، ولا ننظر لهم بأنهم جماعة دينية منعزلة".

وعن مظاهر تعايش البهائيين، يقول نادر: "إنّ التراث الثقافي والتاريخي المشترك لليمن، عزّز من التعايش بين مختلف الأديان والمذاهب والأفكار، وهذا التراث المشترك ساهم في تعزيز الروابط بين المجتمعات الدينية المختلفة إلى جانب أن التسامح الديني عبر التاريخ، إذ كان هناك تقبّل واسع للأقليات الدينية في اليمن، مثل: اليهود، والمسيحيين، والبهائيين، والزرادشتيين، وغيرهم".

كانت هذه المجتمعات -وفق حديثه- تعيش بجانب المسلمين في سلام واحترام متبادل، كما أنّ الاحتفالات والمناسبات الدينية المشتركة تجمع بين أفرادٍ من مختلف الطوائف، ممّا عزّز من روح الأخوّة والتعايش السلمي، وغيرها من المظاهر التي أسهمت في التعايش الديني في اليمن عبر التاريخ.

من جانبه، يلفت جليل، إلى دور بعض الجهات وإسهاماتها العديدة سابقًا في مجال الرعاية الطبية، مثل مستشفى جبلة المعمداني، ودار راعية المسنين في عدن.

انتهاكات تستهدف التعايش

بحسب إلهام، فقد ارتفعت وتيرة الانتهاكات بعد الحرب في اليمن منذ العام 2015، إذ لم يسمع أحدٌ قبل ذلك أنّ هناك نساء تم اعتقالهن وسجنهن بسبب دينهن ومعتقدهن، لكن بعد العام 2015، وإلى اليوم، هناك تضييق وانتهاكات طالت الجميع، حيث تعرضت النساء للاعتقال بكلّ وحشية، كما تم سجن أمهات لديهن أطفال صغار واحتُجِزن بعيدًا عن عائلاتهن وأبنائهن، ومورست عليهن صنوف التعذيب والضغوطات النفسية؛ بسبب انتمائهن للبهائية، فضلًا عن ذلك فقد مرت هي أيضًا بهذه الحالة، وتشعر بعمق بما يَمرُرْنَ به حاليًّا، إذ تشعر بألمهن ومعاناتهن، وتتذكر ما كان يُردَّد على مسامعها عند زيارة زوجها: "مكانك جنب زوجك في السجن".

ترصد "خيوط"، مجموعةً من الممارسات والانتهاكات والاعتقالات بحق البهائيين منذ العام 2016، فقد تم اعتقال 45 رجلًا و6 أطفال و20 امرأة، ومصادرة منازل وإغلاق مؤسسات يرأسها بهائيون، منها  مؤسسة نداء، كما تعرض الكثير من المسيحيين في اليمن للانتهاك، ولم تسلم أيضًا دُور العبادة المسيحية في الاعتداء والتخريب.

في السياق، يوضح رئيس مؤسسة نداء للتعايش والبناء، والأمين العام للمجلس الوطني للأقليات في اليمن، وليد عايش، في تصريح لـ"خيوط"، أنّ مفهوم التعايش في اليمن ينطوي في ذاته، على حقيقة التنوع، إذ يمتلك المجتمع اليمني تنوّعًا واسعًا شأنه شأن المجتمعات الإنسانية التي أرادت لها الإرادة الإلهية أن تكون متنوعة فكريًّا وثقافيًّا ودينيًّا وجغرافيًّا وإثنيًّا وعِرقيًّا، وحتى لغويًّا، ومن ثم فإنّ هذه السمة الأساسية للتنوع في المجتمعات الإنسانية، تستوجب وتفرض التعايش والقبول بالآخر والاحترام لكل أشكال التنوع.

كما يصبح السلام الاجتماعي مهدّدًا حينما يفقد المجتمع عنصر التعايش والاحترام والقبول بالآخر المختلف، فالمشكلة من وجهة نظر عايش ليست في التنوع، بل في وعي عملية التعامل والتعاطي معه، حيث يمتلك الإنسان اليمني والمجتمع رصيدًا وتجربة عظيمة تجاه موضوع التعايش.

هناك من يشير إلى بعض المتطلبات لتعميق فكرة التعايش؛ كضرورة وجود مؤسسات خاصة للصحفيين والصحفيات الذين يعملون على التوعية بأهمية التعايش، فالمسؤولية مشتركة بين الجميع في هذا الخصوص، سواء كانوا إعلاميين وصحفيين أو منظمات المجتمع المدني، وكذا السعي الحثيث لإحداث تعديلات دستورية وقانونية تكفل وتضمن حقوق الأقليات.

ويعتبر عايش أنّ مشكلة التعايش تتعلق بتيارات التطرف الديني وجماعات الإسلام السياسي بكل صورها وأشكالها ومسمياتها، وفرض وتعميم أيديولوجيتها على المجتمع بأسره وبطرق وأساليب تستند إلى العنف والقوة، وتوجهها للوصول إلى السلطة ومحاولات السيطرة عليها، هو ما أفقد المجتمع اليمني أمنه واستقراره وتعايشه.

ويرجح سبب ذلك إلى الاختلال المنهجي في التعاطي مع الأفكار الدينية وتصور امتلاك الحقيقة المطلقة وفرض ذلك الفهم الديني الذي هو فهم نسبي في حقيقته على المجتمع والدولة ومن هنا بدأ الخلل، وما لم يتغير في نفوس وعقول الناس هذا المفهوم، فسيظل الخلل يتراكم ويزيد الوضع سوءًا.

متطلبات توعوية وقانونية

خاضت أحلام المقالح تجارب عديدة في تعزيز التعايش الديني، حيث عملت على إنشاء نادٍ للحوار، نفّذ برامج تدريبية حول المواطنة وإدارة التنوع، كما أسّست وفق حديثها لـ"خيوط"، منصة "بودكاست" لتعزيز فكرة التعايش، حيث تم عرض قصص نجاح ملهمة عن أشخاص تعايشوا بعضهم مع بعض، وهم من أديان مختلفة.

تشير المقالح، وهي صحفية مستقلة ومدربة في المواطنة وإدارة التنوع حرية الدين والمعتقد، وخريجة زمالة "صحافة للحوار" التابعة لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار العالمي (كايسيد)، إلى وجود عديد التحديات تعيق تقبل فكرة التعايش، حيث تقول: "في محافظتي، يستحيل أن أتكلم عن الطائفة المسيحية؛ بسبب عدم تقبل فكرة التعايش لدى الجماعات المتطرفة".

هناك اتفاق يوجب علينا -المسلمين- القبول بالاختلاف والسعي للتعايش؛ لأنّ هنالك "غيرنا في اليمن"، وفقًا للاستنتاج من الأحاديث والآراء التي تم استطلاعها، ما يعكس اتفاق الكثير في المجتمع إلى حدٍّ كبير.

بينما ترى أحلام ضرورة وجود مؤسسات خاصة للصحفيين والصحفيات الذين يعملون على التوعية بأهمية التعايش، فالمسؤولية مشتركة بين الجميع في هذا الخصوص، سواء كانوا إعلاميين وصحفيين أو منظمات المجتمع المدني. في حين يؤكّد وليد عايش، أهميةَ السعي الحثيث لإحداث تعديلات دستورية وقانونية تكفل وتضمن حقوق الأقليات، التي يجب أن تتضمّن تحقيق أربعة مسارات أساسية، تتمثّل بحرية الفكر والمعتقد- مواطنة متساوية، عيش مشترك، ودولة قائمة على أسس الحوكمة والشفافية، يكون فيها للأقليات دورٌ فاعل في السلام والنهوض بالتنمية في اليمن.

•••

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English