لم تعد الأزمات الإنسانية في اليمن مقتصرة على وضعها الداخلي، إنما مُهددة بوضع دولي متوتر. فتضخم أسعار الحبوب والمواد الغذائية الناجم عن الحرب الروسية-الأوكرانية، يهدّد اليمنيين بمزيد من المجاعة، خصوصًا أنّ 90% من احتياجاتهم للحبوب، يتم استيراده. ويُنبئ ذلك بمصير كارثي على اليمن، حال أدّت عوامل سياسية وأمنية في العالم إلى تناقص إمدادات الحبوب.
يُعتبر القمح ثاني سلعة، بعد الوقود، ضمن أهم الواردات اليمنية. ويتم استيراد حوالي 3.5 مليون طنّ سنويًّا من حبوب القمح وطحينه إلى اليمن. وارتفعت فاتورة القمح من 700 مليون دولار عام 2019 إلى 858 مليون دولار في 2020 ثم إلى مليار دولار في 2021. وهذا لا يعني ارتفاع كمية الواردات من القمح، حيث انخفضت من حوالي (3.1) مليون طن في 2019 إلى حوالي (2.8) مليون طن في 2020.
أي إنّ ارتفاع فاتورة استيراد القمح على علاقة بصعود أسعاره في السوق العالمي. ومن المؤكد أنّ الفاتورة سترتفع مع تضخم أسعاره الناجمة عن الصراع الروسي-الأوكراني. وهذا سيؤدي بدوره إلى تآكل موارد الأسر اليمنية، بخلاف أن شريحة واسعة انقطعت مداخيلها بسبب الحرب. كما أنّ صعود أسعاره سيكون سببًا في انخفاض ميزانية التجار موردي القمح والمواد الغذائية الأخرى، بحيث إنهم سيعجزون عن تلبية الاحتياجات الداخلية.
ومنذ انفجار الحرب في اليمن، شكّل الأمن الغذائي أكبر المشاكل اليمنية، حيث بلغ الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية حوالي 17.3 مليون يمني. وكما قالت منظمة أوكسفام، أنه بحلول نهاية عام 2022 سيرتفع هؤلاء إلى 19 مليون إنسان. ويعتمد اليمنيون على 90% من احتياجاتهم للحبوب. وتأثر القطاع الزراعي بالحرب، حيث تراجع إنتاج الحبوب في اليمن من 910 آلاف طن عام 2012 إلى 344 ألف طنّ. وتراجع إنتاج اليمن من القمح خلال تلك الفترة من ربع مليون طن إلى حوالي 92 ألف طن.
وبحسب الإحصاء الزراعي لعام 2020، الصادر من وزارة الزراعة والري، ارتفع إنتاج القمح في اليمن خلال العام 2020 إلى 127 ألف طن. وهذا الارتفاع الطفيف لا يسدّ الفجوة الواسعة التي يغطيها الاستيراد. كما أنّ الحديث عن إمكانية تحقيق اكتفاء ذاتي في القمح، قضية يتم استهلاكها في الإعلام؛ حيث إنّ الأراضي الزراعية محدودة، خصوصًا في المناطق المطيرة.
تحسين البذور هو أولوية في أي استراتيجية لتطوير إنتاج القمح في اليمن، على أن تكون ملائمة للبيئة اليمنية، وكذلك تحسين أنظمة الري. وللعلم، ذلك ما برع فيه اليمنيون منذ القدم، لاعتماد زراعتهم على أمطار موسمية، وهكذا بنوا السدود والحواجز المائية والقنوات الدقيقة.
وهناك حوالي 1.15 مليون هكتار تم زراعتها، تُشكّل فيها زراعة الحبوب 48%، ولا تتعدى المساحة التي يُزرع فيها القمح 60 ألف هكتار. وتناقصت بأكثر من النصف منذ 2012، وفي المقابل اتسعت مساحة زراعة القات الذي يستهلك حوالي 30% من مياه الآبار الجوفية المُستخدمة في الري. كما أنّ زراعة القات تسللت للأودية الرئيسية التي كانت تُعرف بزراعة القمح والحبوب. ويفضل المزارعون القات لأنه يحقق مداخيل جيدة. بينما زراعة القمح مُكلفة من جهة، وكذلك عائداتها ليست كبيرة، وتكلفة إنتاجه أكثر من تكلفة استيراده.
صعوبات الاكتفاء وتبعات الأزمة العالمية
لاستصلاح مساحات واسعة في زراعة القمح، سيواجه اليمن عدة إشكاليات؛ منها إمكانية توفير مياه لري تلك المساحات، وبانعدام وجود سدود كبيرة وأنظمة ري دقيقة، سيعني ذلك استنزاف المخزون المائي. حتى في وجود مخزون مائي كبير في منطقتي الجوف وسيئون، فإنّ استخدامه في استصلاح مساحات كبيرة سيكون على المدى البعيد خطير، وسيستنزف الكثير منه.
ويتحدث متخصصون في هذا الجانب، بأنه بدون الاهتمام بالبحوث الزراعية، في إنتاج بذور للقمح ملائمة للبيئة، ويمكنها أن تُنتج بشكل أوفر، فإنّ الحديث عن تحسين معدل الاكتفاء الذاتي بلا معنى.
في هذا السياق، نشرت صحف رسمية عن باحثين زراعيين، حيث تطرق الباحث صالح مُثنى إلى وجود أنواع مطورة من البذور، هي بحوث 3 وبحوث 13 وبحوث 37، تعتمد على سقاية محدودة حيث يمكن أن تكون سقايتين، وأيضًا يمكنها الإنتاج بشكل عالٍ، بمتوسط 4 أطنان لكل هكتار. بينما متوسط الإنتاج الحالي من القمح في اليمن يصل إلى حوالي (2) طنّ في كل هكتار. وهو أقل من المتوسط العالمي الذي يبلغ (3.2) طن لكل هكتار.
وتحسين البذور هو أولوية في أي استراتيجية لتطوير إنتاج القمح في اليمن، على أن تكون ملائمة للبيئة اليمنية. وكذلك تحسين أنظمة الري. وللعلم، ذلك ما برع فيه اليمنيون منذ القدم، لاعتماد زراعتهم على أمطار موسمية، وهكذا بنوا السدود والحواجز المائية والقنوات الدقيقة.
أثارت أزمة القمح العالمية، الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، قلق البلدان المعتمدة على وارداته القادمة من البحر الأسود، وعلى وجه الخصوص بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. حتى بالنسبة لبعض الدول التي ترى في الحبوب، وخصوصًا القمح مصدرًا أمنيًّا.
وفي مصر التي تشتري معظم واردات القمح من روسيا ثم أوكرانيا، شهدت زراعة القمح توسُّعًا خلال السنوات الماضية. ومن المتوقع وصول إنتاج القمح إلى 10 ملايين طن خلال هذا العام. وتسعى الحكومة لإضافة ثلاثة مليون طن زيادة في إنتاج القمح خلال خمس سنوات. وتستهلك مصر حوالي 18 مليون طن، جعلها الدولة الأولى في استيراد القمح عالميًّا، لكنها منذ العام السابق أصبحت في المرتبة الثالثة بعد إندونيسيا وتركيا.
أيضًا تسعى تونس لتحسين إنتاجها من القمح خلال السنوات القادمة، حيث تستورد 66% من احتياجاتها من روسيا وأوكرانيا، وتحاول زيادة مساحة أراضيها من زراعة القمح الصلب من 560 ألف هكتار إلى 800 ألف هكتار. وهذا الأمر أصبح مُلِحًّا على كثير من البلدان، حتى لا يتهدد الوضع السياسي بتفاقم أزمات غذائية.
لكن ملامح اضطرابات، بدورها ستكون بمثابة عقاب على الدول الفقيرة. فالأزمة في بحر الصين الجنوبي إذا ما تفاقمت، فسيكون لها تبعاتها المروعة على الصعيد الغذائي في اليمن. كما أنّ آثار الجفاف الذي داهم أوروبا بسبب ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، سيكون له أثرٌ على الزراعة، وهذا سيخل بالوضع الغذائي، وسيؤدي بدوره إلى تبعات على الوضع الغذائي العالمي.
ومع تفاقم الجوع خلال سنوات الحرب، ستكون اليمن من أكثر البلدان معاناة. لكن حجم التحديات أمام الاستقرار العالمي، سيجعل اليمن أمام كارثة غذائية أكبر قد تصل إلى توسع ظهور بؤر المجاعة؛ وهو ما يتطلب الوقوف أمامه من أجل تعزيز الأمن الغذائي، خصوصًا في تحسين الاكتفاء الذاتي من الحبوب.
فهل اليمن قادر على تعزيز أمنه الغذائي، وهو يمر بهذا الوقت العصيب سياسيًّا؟! ولتحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي سيكون على اليمن استصلاح مئات الآلاف من الهكتارات. لكن مشكلة كبيرة تواجهها الزراعة في اليمن تتعلق بالوسائل التقليدية، وعدم إدخال أنظمة ري حديثة، واستخدام مكائن زراعية مثل المحاريث وآلات الحصاد. كما أنّ هناك مشكلة تتعلق بشحة إنتاج القمح، وتصل في الهكتار إلى حوالي (2) طن.
تقترح السكرتارية الفنية للأمن الغذائي، زراعة 200 ألف هكتار بأصناف محسنة مع استخدام تقنيات زراعية حديثة، وبأساليب ري مقننة وحديثة، مع استخدام المُخصبات لرفع معدل الإنتاجية في كل هكتار، مؤكدة أنّ الغرض من ذلك تقليص الفجوة الغذائية من القمح إلى 75%
أيضًا، الأراضي الزراعية محدودة وهناك شحة في المياه. وتحسين إنتاج النفط يتطلب استراتيجية قائمة على أسس علمية؛ بحيث يتم توسيع إنتاج القمح عبر التوسع الرأسي من خلال زيادة متوسط الإنتاج في كل هكتار، وأيضًا استصلاح أراضٍ جديدة، خصوصًا أنّ الزراعة في اليمن ما زالت تعتمد على وسائل تقليدية. وهناك مشكلة في محدودية الأرض والإنتاج، ولتعزيز الأمن الغذائي، فاليمن بحاجة إلى زيادة متوسط الإنتاج في كل هكتار عبر الاستفادة -بحسب السكرتارية الفنية للأمن الغذائي في اليمن- من مخرجات مراكز البحوث الزراعية. ويأتي ذلك بمعالجة البذور وإنتاج أصناف محسنة عالية الإنتاجية ومقاوِمة للحرارة والجفاف، وأيضًا للآفات الزراعية والحشرات، والتوسع الأفقي باستصلاح أراضٍ جديدة ملائمة لزراعة القمح.
مقترحات لمواجهة المقصلة
ويحتاج المزارعون إلى تشجيع الحكومة من خلال دعمهم بالأسمدة وكذلك البذور المحسنة، وأيضًا توفير معدات زراعية حديثة، وتشجيع قيام التعاونيات الزراعية التي ستقوم باستخدام تلك الآلات بشكل جماعي؛ لأنّ الأراضي الزراعية مفتتة، وما يمتلكه المزارعون غالبًا من الأراضي محدود، ولا يمكن لكل مزارع توفير مثل تلك المعدات الغالية، وأيضًا دعمهم في استخدام وسائل ري حديثة مثل التقطير أو الرش، والذي سيحد من استنزاف المياه.
وتقترح السكرتارية الفنية للأمن الغذائي، زراعة 200 ألف هكتار بأصناف محسنة مع استخدام تقنيات زراعية حديثة، وبأساليب ري مقننة وحديثة، مع استخدام المُخصبات لرفع معدل الإنتاجية في كل هكتار، مؤكدة أنّ الغرض من ذلك تقليص الفجوة الغذائية من القمح إلى 75%. ويُعدّ الوصول إلى هذه النسبة بمثابة تحقيق شكل الحد المعقول من الاكتفاء الذاتي.
غير أنّه -بحسب ما تتيحه تلك البذور المحسنة- يمكن لتلك المساحة إنتاج ما بين 800 ألف طن إلى مليون طن من القمح، في حال اعتماد بذور مُحسنة متوسط إنتاجها ما بين 4 إلى 5 أطنان في كل هكتار. وعمليًّا لا يمكن أن تحقق تلك المساحة النسبة المأمولة من الاكتفاء الذاتي للقمح، لأنّ ما تم طرحه وجود بذور محسنة يبلغ متوسطها الإنتاجي 4 إلى 5 أطنان في كل هكتار، لكنه سيكون بمثابة قفزة كبيرة في زراعة القمح.
وعمليًّا لا يمكن لزيادة 200 ألف هكتار أن تحقق تلك النسبة من الاكتفاء الذاتي، لأنه بالوصول إلى معدل إنتاج 4 أو 5 أطنان أو حتى 6 أطنان، لن يكون كافيًا لتحقيق ذلك المعدل من الاكتفاء، لكنه سيحسن معدل الاكتفاء.
وأمام مخاطر الأمن الغذائي، ينبغي ترشيد الاستهلاك للقمح، وكذلك استخدام الطحين المخلوط والمعتمد على مختلف أنواع الحبوب. وأيضًا إنتاج الدقيق المركب من الذرة الرفيعة والقمح والدخن، وهذا خليط يحتوي على بروتين عالي الجودة، وسيساعد على التقليل من استهلاك القمح المستورد.
وهذا بحسب ما تطرحه السكرتارية الفنية للأمن الغذائي، إلى جانب ذلك اقترحت الزيادة في السعة التخزينية لمخزون القمح. كما أنّ السعة التخزينية الحالية لصوامع الغلال في اليمن، بلغت 746400 طن؛ أي ما يكفي اليمنيين لحوالي 3 أشهر، وهي فترة ضئيلة، حيث ينبغي وجود مخزون استراتيجي كافٍ لستة أشهر على الأقل.
وتبدو اليمن تحت مقصلة الجوع بكل تهديداتها؛ ما يتطلب من الجماعات السياسية البحث عن حلول اقتصادية، والعمل على خلق أرضية تسمح بتعزيز الأمن الغذائي. أو أنّ العواقب ستكون وخيمة، وستأتي تبعاتها أيضًا على تلك الجماعات التي تخوض صراعًا فيما بينها. وعلى أي حكومة في اليمن أن تضع في اعتبارها أنّ نجاحها محكوم أولًا فيما يمكنها القيام به في تعزيز الأمن الغذائي.