تمثل البطالة الكابوس المخيف لمعظم الدول في الاقتصادات المتقدمة والناشئة، ولذلك تسعى الحكومات جاهدة إلى الحد من معدلات البطالة إلى أدنى مستوى، وعادة ما تتباهى بهكذا إنجاز أمام شعوبها أو تجاه القوى المعارضة لها، فتخفيض معدل البطالة إلى مستوياته الدنيا عند 2 إلى 3% -اليابان وألمانيا مثالًا- يعني الكثير بالنسبة لنجاح السياسات والبرامج الاقتصادية المنفذة، ويعني أن الاقتصاد يكاد يصل إلى مستوى الاستغلال الأمثل لموارده المتاحة، سواء كانت مادية أو بشرية، أو يقترب من تحقيق التشغيل الكامل لقطاعاته الإنتاجية والخدمية، كما له دلالة في تحسين مستوى معيشة الناس وضمان توفر الدخل الملائم لكل شرائح المجتمع، فالدول المستقرة لها حروبها من نوع آخر، تتمثل في الحد من البطالة والفقر، وفي مكافحة التلوث والفساد، وفي زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وغيرها من الحروب الواعية والناعمة والهادفة إلى تحقيق مستوى أعلى من الأمان والرفاه الاجتماعي.
وفي الاقتصاد اليمني تبرز مشكلة البطالة بصورة سافرة ومخيفة، وتنشأ معها ظاهرة الفقر والفاقة وانعدام الأمن الغذائي والدوائي، وانتشار مظاهر العبث والفساد، بسبب الحرب والصراع الدامي الذي تعيشه البلاد لقرابة سبع سنوات، وهي حرب عبثية تجسد عقليات القرون الوسطى في التعاطي مع إدارة شؤون الدولة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وهذه الفجوة الزمنية قد تزداد اتساعًا وعمقًا عبر السنين والأجيال.
فالحرب قادت إلى وضع اقتصادي منهار، تراجع فيه معدل النمو الاقتصادي إلى مستويات مخيفة، وصلت إلى سالب 34%، وتقلصت الأنشطة الاقتصادية في كل القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية، وانعدمت معها فرص العمل للشباب الداخلين إلى سوق العمل، كما حرمت الآلاف من العاملين من البقاء في وظائفهم ودفعت بهم إلى نفق البطالة والضياع، أضف إلى ذلك، أن المجتمع اليمني يواجه تحديات أخرى تتمثل في التركيبة الهيكلية للسكان، وسوء استغلال الموارد المتاحة، المنظورة وغير المنظورة.
الشباب اليمني خلال فترة الحرب والصراع وقع بين كماشة البطالة ومحرقة الحرب المستعرة، ولا خروج من هذا المأزق إلا بمراجعة أطراف الصراع لمواقفهم غير الرشيدة، والجنوح للسلام، وإنهاء الحرب والصراع كمطلب ضروري وجوهري للانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، والذي يتطلع إليه المجتمع اليمني بكل فئاته
فوَفقًا للإسقاطات السكانية لليمن، بلغ عدد السكان في عام 2020، حوالي 30 مليون نسمة، وأن الشباب في الفئة العمرية (15-39) يشكلون حوالي 43% من إجمالي السكان، بينما الفئة العمرية (0-14) تشكل حوالي 40% من إجمالي السكان، ورغم التهديدات الناجمة عن الوضع السكاني، إلا أنه يمثل فرصة واعدة لو حسن تأهيلها واستثمارها، ولهذا يصنف المجتمع اليمني أنه فتيّ، رغم أن معدل الإعالة فيه عالية مقارنة بدول عربية أخرى.
وتشير التقارير أن معدل البطالة الكلي ارتفع من 13% عام 2014، إلى حوالي 34% في عام 2020، ووَفقًا لاستنتاجات الباحثين والمختصين، فإن معدل البطالة بين الشباب بلغت ضعف ذلك في عام 2020 (حوالي 70% تقريبًا)، وهذا المؤشر الخطير يعني الكثير لملايين الأسر اليمنية وافتقارها إلى مصادر الدخل اللازمة للعيش بصورة كريمة ولائقة.
فانتشار ظاهرة البطالة له تداعيات كارثية على النسيج الاجتماعي، حيث تنتشر ظاهرة الجريمة وتعاطي الممنوعات بين الشباب الفاقدين للأمل في التشغيل وبناء شخصياتهم وكيانهم الاجتماعي، كما أن ضعف نوافذ التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة يحرم الشباب من فرص الدخول إلى عالم الأعمال والمنافسة لكسب رزقهم وتحسين مستوى معيشتهم، ويزداد الأمر خطورة إذا تبين أن الداخلين الجدد من الشباب إلى سوق العمل يقدرون بحوالي 300 ألف شخص سنويًّا، معظمهم ممن لم يحصلوا على فرص التعليم والتأهيل والتدريب، وهذا يجعل واقع البطالة أكثر تعقيدًا وبحاجة إلى جهود مضنية في مجال التعليم والتأهيل.
وخلال العقود الماضية لعب الشباب دورًا مؤثرًا في رعاية أسرهم وذويهم من خلال انخراطهم في سوق العمل المحلي أو الإقليمي وتحسين مستوى دَخلهم ومعيشتهم، وهنا يبرز دور المغتربين في رفد الاقتصاد الوطني بالاحتياطيات من العملة الأجنبية، والإسهام في استقرار سعر صرف العملة الوطنية، ومثّلت تحويلات المغتربين المورد غير المنظور لدعم قيمة الريال اليمني في ظروف الحرب والحصار.
ومع اندلاع الحرب في 2015، وانعدام فرص العمل في القطاعات الاقتصادية المختلفة، اتجه الشباب نحو البحث عن العمل في صفوف الأطراف المتصارعة، وكانوا بمثابة الوقود الذي يبقي محرقة الحرب مشتعلة، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الصراع في اليمن تسبب بمقتل أكثر من 230 ألف شخص بصورة مباشرة وغير مباشرة، معظمهم من الشباب، وتصل نسبتهم إلى قرابة 67%، كما أن معظم الأسرى من أطراف الصراع هم من الشباب ويقدرون بالآلاف، إضافة إلى أن الحرب وغارات دول التحالف تسببت بأضرار جسيمة بالمؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد فنية وجامعات، مما دفع بنسبة عالية من الشباب خارج قطاع التعليم، وفقدوا فرص التأهيل والتدريب الملائم للتوظيف والتشغيل، وكل ذلك يزيد من معاناة الشباب في الحاضر والمستقبل، ومن جانب آخر، فإن ظروف الحرب أغلقت أمام الشباب مجال البحث عن فرص العمل في أسواق العمل المجاورة، والتي عادة ما تستقطب فائض العرض من قوة العمل المحلية.
وإجمالًا، فإن الشباب اليمني خلال فترة الحرب والصراع وقع بين كماشة البطالة ومحرقة الحرب المستعرة، ولا خروج من هذا المأزق إلا بمراجعة أطراف الصراع لمواقفهم غير الرشيدة والجنوح للسلام وإنهاء الحرب والصراع كمطلب ضروري وجوهري للانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، والذي يتطلع إليه المجتمع اليمني بكل فئاته من الأطفال والشباب والشيوخ، فقد حان الوقت لأصحاب القرار في الجانبين لتحمل المسؤولية وإنقاذ البلاد من الخراب والدمار، والاستفادة من طاقات الشباب في البناء والتعمير في مختلف القطاعات، وإثبات قدراتهم ومهاراتهم في إعلان الحروب النبيلة ضد الفقر والبطالة والفساد وتوسيع فرص العمل والدخل حتى يعيش الجميع بحرية وكرامة، ودخول حلبة الصراع الراقي من أجل تعزيز القوة الشرائية للعملة الوطنية، وكبح جماح التضخم، وتحقيق الاستقرار في الميزانية العامة للدولة، والوفاء بالتزامات الدولة في صرف رواتب أكثر من مليون موظف، المنقطعة منذ حوالي 4 سنوات، والدعوة إلى النفير العام بهدف توفير الخدمات الأساسية من الماء والصرف الصحي والكهرباء والتعليم والصحة وشق الطرقات وغيرها، وفتح مجالات التعاون مع الدول الشقيقة والصديقة والمؤسسات الدولية والإقليمية لحشد الموارد الخارجية لدعم جهود التنمية والإعمار، وتهيئة البيئة الآمنة والمستقرة لجذب الاستثمارات الخارجية في القطاعات الواعدة.
إن الإخفاق في الولوج إلى تلك المجالات يجعل النخبة السياسية الحالية أقزامًا أمام أجيال الحاضر والمستقبل، فالتاريخ لا يرحم.