قبل ثماني سنوات، كانت الأحلام العريضة تَبْرُقُ في مُخيِّلة الشاب اليمني العشريني (عادل الفلاحي)، الذي كان يتطلع للحصول على فرصة عمل في السعودية، مقابل التخلي عن إكمال دراسته الجامعية التي عزف عنها وفاءً لالتزاماته تجاه والديه وإخوانه، كونه أصبح عائلهم الوحيد.
كان عادل قد نجح في توفير مبلغٍ يكفي للحصول على "هوية زائر" التي كانت سبيله القانوني للحصول على فرصة للعمل في السعودية. حاليًّا بعد عشر سنوات من العمل، يرى عادل، وكثيرٌ من نُظرائه اليمنيين في السعودية، أن الواقع لا يُطابق ما كان في مخيلته، إلى الحدّ الذي تضاءلت معه أحلامه إلى توفير ما يُبْقِي أُسرته على قيد الحياة، ويحفظ له ماء الوجه عند أهل قريته حين عودته، كما يقول لـ"خيوط".
حلم الهجرة من أجل العمل
تحت تأثير تبعات الحرب وسلسلة الانتكاسات المتواترة في ملف الأزمة اليمنية، صار خيار الهجرة عن الوطن حلمًا يراود قطاعًا واسعًا من الشباب اليمني الحالمِينَ بما تيسّر من أسباب العيش التي تعذر الحصول عليها في بلادهم، كحالة من الهروب الاضطراري من إحباطات واقع البلاد الذي يزدادُ قسوةً وتعقيدًا على كافة المستويات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
ورغم أنّ هذا الواقع كان قائمًا منذ عقود، فإنه في السنوات الأخيرة تصاعد على نحو لافت أكثر من ذي قبل، رغم عراقيل السفر التي ترافقت مع اندلاع الصراع في البلاد، وما رافقه من انهيارٍ للعملة المحلية (الريال) وانقطاع مرتبات الموظفين في القطاع العام، وتقييد حركة الملاحة الجوية من وإلى اليمن، إلى أضيق الحدود.
في ظروفٍ كهذه ظلت المملكة العربية السعودية، كما في السابق، القِبلة الأولى للأيدي العاملة في اليمن، فيما التمس آخرون فرص عمل في بلدان عربية أخرى مثل سلطنة عُمان والأردن ومصر، وهم نسبةٌ أقل بالمقارنة مع يقارب مليوني يمني يعملون في السعودية، رغم الإجراءات القانونية المرهقة المتعلقة بالعمل أو الإقامة، لولا أنهم وجدوا أنفسهم أمام خيارات جميعها مُرَّة.
كثيرون ممن مرّوا بتجربة مشابهة، يتشاركون الانطباعات ذاتها إزاء التدهور غير المتوقع الذي آلت إليه اليمن خلال العقدين الأخيرين، فضلًا عن تضاؤل الفرص وزيادة التعقيدات المستجدة في قوانين العمل في دول الجوار.
وتشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى وجود نحو 5 ملايين يمني موزعين في بلدان مختلفة من العالم، منهم نحو (1,8) مليون يمني يعملون داخل السعودية، بينهم نسبة لا بأس بها من غير حاملي تراخيص العمل الرسمية (الإقامة)، نظرًا لعدم قدرتهم على دفع ثمنها الذي يصل في الحد الأدنى إلى 10 آلاف ريال سعودي، وهو مبلغ عسير بالنسبة لمعظم اليمنيين الذين تضطرهم الحاجة وعسر الحال إلى مغادرة البلاد والبحث عن فرصة عمل في الجوار الغني.
ويضطر العاملون الذين لا يملكون إقامات رسمية، إلى العمل في ظروف تتسم بالاستغلال وبأجور زهيدة، فضلًا عن عبء التخفِّي عن السلطات التي تتعقب المخالفين وتعيد ترحيلهم مرةً أخرى إلى اليمن، مع ذلك يحاول نسبة معتبرة من هؤلاء العمال التشبث الاضطراري بوضعهم غير المريح، لأسبابٍ تتعلق بالتزاماتهم تجاه أسرهم التي أصبح معظمها بلا عائل، ولا سيما مع استمرار انقطاع مرتبات موظفي القطاع العام في اليمن منذ أغسطس 2016، ومحدودية فرص العمل، فضلًا عن انهيار العملة المحلية والارتفاع القاصم في أسعار السلع الأساسية والخدمات في الحد الأدنى.
سنواتٌ بلا طائل
يقول الفلاحي في حديث لـ"خيوط": "وصلت إلى المملكة في 2013، بعد أن نصحني أحد الأصدقاء بعمل هوية زائر، التي كلفتني حينها 4 آلاف ريال سعودي إلى جانب 3 آلاف ريال مقابل الجواز، في البداية حصلت على عمل لدى مواطن سعودي، وافقت أن أعمل لديه مقابل ألفي ريال في الشهر، ومع أنه في بعض الشهور لم يكن يدفع شيئًا، إلا أني لبثت عنده قرابة عامين، كان حصادي منها 10 آلاف ريال فقط".
يضيف: "بعدها كان لا بد أن نعمل إقامات رسمية، والحصول على كفيل أو على مؤسسة، وقد كلفتني نحو 12 ألف ريال، ولأني كنت في عمل حر كنت أدفع كل شهر 450 ريالًا (للسجل وللكفيل)، استمر الحال كذلك سنة كاملة، بعدها كان لا بدّ أن أقوم بتجديد الإقامة، وبالفعل دفعت إلى الكفيل 9 آلاف ريال للتجديد الإقامة، أنا و40 عاملًا (يمنيين وغير يمنيين)، لكني تفاجأت أنه سبق أن قدم عليَّ بلاغ هروب، كوني لم أكن أعمل عنده؛ لأنّ السلطات كانت أغلقت مؤسسته لعدم سداده الديون المتراكمة عليه للتأمينات، إلا أن ما أحزنني أكثر هو أن كل المبلغ الذي دفعناه، تصرف فيه دون أن يجدد إقاماتنا المنتهية، ومع أنه لا ينكر ذلك، فإنه تذرع بعدم امتلاكه للمال لردِّ ما دفعناه له".
يستطرد: "بعدها أشار عليَّ أحدهم، أن ألتحق بمؤسسة فردية، وهو ما قمت به لاحقًا، كلفني ذلك حوالي 4 آلاف ريال (نقل وتأمينات)، وبعد استكمال الإجراءات -على أساس أنها مؤسسة فردية- حين كنت أتأهب لاستلام الترخيص من مكتب العمل، تفاجأت بطلب ضرورة تجديد الإقامة الخاصة بالسنة الماضية، أي أن أدفع 7500 ريال عن السنة الماضية، ولم يكن هذا المبلغ بحوزتي، وحين عدت في وقت لاحق لسحب كرت عمل، قيل لي لا بد أن أدفع 18 ألف ريال؛ غرامة مضاعفة جزاء تأخُّري عن دفع القسط الخاص بالسنة الماضية، أي المبلغ الذي تصرف فيه الكفيل".
يسرد الفلاحي تفاصيل أخرى كثيرة مرَّت معه على هذا النحو من التعقيد، قائلًا إنّ أكثر دخله يذهب لترتيب أموره القانونية، أو يتبدد في متاهةٍ من التعقيد أو الاحتيال أحيانًا، رغم كل ذلك كان ينجح بين فترةٍ وأخرى في إرسال مبلغٍ بسيط لا يتعدى أحيانًا 200 ريال سعودي، لأسرته في اليمن، لكن ذلك -بحسب الفلاحي- لم يعد ممكنًا الآن بسبب توقف عمله كصاحب كشك متنقل خلال المهرجانات الترفيهية التي تقام بشكل مؤقت ومتنقل بين المدن السعودية.
هذا الواقع، جعل كثيرًا من اليمنيّين خارج الوطن ينشدون العودة، إلا أنّ الفلاحي -ومن هم في مثل حالته- ما زال ينتظر انفراجة تُزيح عنه حَرَج العودة إلى أهله خاوي الوفاض، يقول: "أفكِّر كثيرًا في العودة إلى اليمن، لكني لا أملك حتى 5 آلاف ريال، قضيت سنوات في الغربة، ولا أريد أن أعود خالي الكف كيوم غادرت".
خيار العودة
في واقعٍ كهذا، غدا خيار العودة إلى الوطن، خيارًا اضطراريًّا، لدى نسبة معتبرة من القوى اليمنية العاملة في السعودية أو سواها من دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصًا في الفترة الأخيرة التي أعقبت تشديد الإجراءات القانونية بشأن العمالة الوافدة خلال السنوات العشر الماضية، إلا أنّ قطاعًا كبيرًا منهم ما زال يتوخى عدم المجازفة، خشية انتكاس وضعهم المعيشي، ولا سيما في ظلّ التردي الكارثي الذي انحدر إليه اليمن، والذي جعل كثيرين يتطلعون مجددًا للعودة إلى أعمالهم في بلاد المهجر دون أن تساعدهم الظروف والإجراءات التي تشهد تغيرًا سريعًا وديناميكيًّا بمرور الوقت.
في حديثه لـ"خيوط"، يقول سعد (74 عامًا)، الذي غادر اليمن للعمل في السعودية في بداية مراهقته، ومنها انتقل إلى الكويت التي قضى فيها العشرية الأولى من شبابه الباكر: "لم نكن على الإطلاق نشعر بتمايز في الحقوق أو التعامل عن أبناء البلد، كانت من أجمل فترات حياتي وأوفرها دخلًا".
يضيف بنبرة مشحونة بالشجن والحنين إلى الماضي: "أتمنى أن تعود تلك الأيام، كان خطأً أنّي قررت العودة إلى اليمن، بينما كانت الظروف مواتية حينها لإحضار عائلتي والبقاء هناك، لكن لم أكن أتوقع أن يتردّى الحال في اليمن إلى هذا النحو الذي نحن عليه اليوم".
كثيرون ممن مروا بتجربة مشابهة، يتشاركون الانطباعات ذاتها إزاء التدهور غير المتوقع الذي آلت إليه اليمن خلال العقدين الأخيرين، فضلًا عن تضاؤل الفرص وزيادة التعقيدات المستجدة في قوانين العمل في دول الجوار.
يروي محمد السعيدي (43 عامًا)، لـ"خيوط"، رحلته بحثًا عن فرصة عمل في سلطنة عُمان، التي وصل إليها منتصف 2017، حين كانت الإجراءات ما تزال مخففة نسبيًّا أمام اليمنيين في حينها، إذ يقول: "حين وصلت، قررت أن أبني مشروعي الخاص، وخطرت لي فكرة فتح مطعم صغير، وبالفعل تمكنت من جمع بعض المال، واستدنت ممن أعرفهم، وحين انتهيت، وأصبح كل شيء جاهزًا تقريبًا قررت أن أعود إلى اليمن لزيارة أهلي وإحضار بعض الشباب من قريتي للعمل لديّ في المطعم، وكان هذا خطأً فادحًا؛ لأنه في الأسبوع نفسه الذي وصلت فيه اليمن، شددت السلطات العمانية إجراءاتها بشأن دخول اليمنيين إلى أراضيها، وخسرتُ كل شيء".
إخفاق حكومي
خلال أكثر من ثلث قرن، فشلت النخب السياسية الحاكمة في اليمن، في تصحيح وضع المغتربين اليمنيين في دول مجلس التعاون، وبشكل خاص في السعودية، فضلًا عن كونها تسبّبت بشكل مباشر في أكبر أزمة قاصمة للعمالة اليمنية إبان حرب الخليج الأولى، عام 1990، على خلفية موقف الحكومة اليمنية الذي وُصف بـ"المتواطئ" تجاه غزو النظام العراقي للكويت، عقب امتناع الخارجية اليمنية عن التصويت في الجامعة العربية بشأن قرار تشكيل حلف عسكري لتحرير الكويت؛ الأمر الذي أفضى بعد ذلك إلى إلغاء الامتيازات التي كانت تتمتع بها العمالة اليمنية في السعودية والخليج، حيث كانت تحويلاتهم المالية تزيد عن مليارَي دولار في تلك الفترة، وهو مبلغ كبير بالمقارنة مع ناتج اليمن القومي في تلك الحقبة المفصلية.
وقد بدت آثار الموقف السلبي للحكومة اليمنية في ذلك الحين، وما تلاه من ترحيل مئات الآلاف من المغتربين اليمنيين، في هزة اقتصادية مفاجئة أعقبها تعثر مزمن ومتلاحق عن التعافي، وهو ما اعتبره بعض المراقبين تصرفًا غير مسؤول من قبل السلطة الحاكمة، ومجازفة بالعلاقة مع الكويت التي كانت أسخى الداعمين لليمن على الإطلاق، خصوصًا في قطاعي التعليم والصحة، والأهم أن كل ذلك الدعم، كان غير مشروط وبلا مَنٍّ ولا أذى.