على الرغم من معدل عدد الزيجات المرتفع في محافظة تعز، المحافظة اليمنية الأعلى كثافة سكانية، والتي تمتد فيها الأعراس والليالي الملاح على مدار العام، إذ تحولت زفة منى علي (ساعة الرحمن ذلحين) إلى أيقونة مرتبطة بالفرح والبهجة والسعادة والحب، فإن هذا المعدل المرتفع لم يَحُل دون ارتفاع مؤشر العنوسة لكلا الجنسين لأسباب مختلفة بينها الفقر وارتفاع نسب البطالة، إلى جانب الركود العام الذي يشهده القطاع الخاص بسبب الحرب الدائرة منذ قرابة عقد من الزمن.
الطاعة؛ وسيلة ضغط
فيما تبرز أسباب إضافية لارتفاع معدل العنوسة في أوساط الفتيات تحديدًا، علاوة على الأسباب العامة سالفة الذكر، تتعلق بمصادرة حق الفتيات في حق الخيار وتقرير المصير تحت مبررات الطاعة وتقديم حق الأب والأم على حقوقهن في تكوين أسر خاصة بهن. "أنا سعيدة لأني أخدم والداي مع تقدمهما في السن، أغسل ملابسهما، وأحضّر طعامهما، وأرعاهما تمام الرعاية، وأشعر من خلال هذه الخدمة أني أرضي ربي ووالداي، لكني كلما تقدم السن بهما، وشاهدت ضعفهما، أودّ لو أن الموت يأخذني قبلهما، خشية أن أبقى وحيدة، لا أجد من يعتني بي في شيخوختي، أو أن أكون عالة على الأقارب والجيران"؛ تقول أماني عبدالله (43 عامًا)، لـ"خيوط". أماني فتاةٌ من أرياف تعز، تسرد حكايتها قائلة: "كنت المولودة الأولى لوالداي، كبرت واعتمدت الأسرة عليّ في أعمال البيت، والزراعة، ورعي الأغنام، وجلب المياه، أتذكر كيف كان أبي يرفض كل متقدم لي للزواج، وكيف كان يحيلهم إلى طلب الزواج من إحدى أخواتي الصغار؛ كي أظل متعهدة بخدمة البيت والعائلة، كوني عمود البيت؛ حدّ تعبيره".
وتضيف أماني: "يمنع بعضُ الآباء من أرباب الأراضي والأملاك ومربي المواشي في اليمن بشكل عام، فتياتِهم من الزواج وتحقيق حقوقهن الشرعية والقانونية ورغباتهن الفسيولوجية؛ لإبقائهن في خدمتهم، نظرًا لكثرة المهام والالتزامات داخل المنزل وخارجه".
وتتابع: "تزوجَت أخواتي الثلاث، وأصبحن أمهات، كل واحدة منهن لها أسرتها الخاصة، إلا أنا، بقيت مسؤولة عن إدارة شؤون بيت العائلة، رغم تقدم ثلاثة شباب لخطبتي عندما كنت في العشرينيات من عمري، وآخر وأنا في مطلع الثلاثينيات، لكنهم وُوجِهوا جميعًا بالرفض؛ إما مباشرة عبر أبي، أو بإجباري على الرفض تحت مبرر من سيخدم أبي وأمك إذا تزوجت".
أماني ما هي إلا نموذج واحد لمئات الفتيات اللواتي فاتهن قطار الزواج بناء على رغبة آبائهن، وأُجبرن في المقابل على البقاء في بيت العائلة للعمل في الأرض وخدمة أسرهن.
"الخوف من فقدان أيدٍ عاملة شبه مجانية، والتفاني الذي لن يجده (الرعوي) صاحب الأرض عند أي عامل من خارج الأسرة، إلى جانب رفض زوجات الأبناء خدمةَ أهل الزوج، المسنين خاصة، يدفع بالأب، وأحيانًا الإخوة الذكور إلى حرمان الطرف الأضعف (الفتاة) من حقها الشرعي في الزواج وتكوين أسرة خاصة بها، من أجل تأمين الخدمة للوالدين"؛ تقول الناشطة الحقوقية وئام المقطري، في حديث لـ"خيوط" عن الأسباب.
ترسخ بعض القناعات الموروثة، وضعف إدراك الأهل عواقب حرمان بناتهم من الزواج، وقلة وعي الفتيات بكيفية انتزاع حقوقهن الشرعية والقانونية، يُسهم في استمرار المشكلة، من وجهة نظر المقطري.
فجوة الممارسة والتنظير
تعدّ اليمن واحدةً من الدول المصادقة على الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، إلا أن هذا الالتزام ما يزال يواجه فجوة كبيرة بين النظرية والتطبيق، كما أنه ينصدم بوعي اجتماعي متدنٍّ، خاصة في المناطق الريفية، حيث تستمر عمليات سلب حقوق الفتيات عنوة بشكل أو بآخر.
للمرأة نفس الحق الذي للرجل فيما يتعلق بعقد الزواج وحرية اختيار الزوج، وفي عدم عقد الزواج إلا برضاها الحر الكامل، إلى جانب ذات الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج، وفي حال فسخه؛ بحسب المادة السادسة عشرة من الاتفاقية.
تعد منظمات المجتمع المدني أحد أهم الملاذات حين يتعلق الأمر بقضايا المرأة والعنف الممارَس عليها، تبعًا لنوعها الاجتماعي، لكنْ ثمّةَ أمرٌ غير مفهوم حين يتعلق الأمر بالعنوسة الإجبارية.
تقول آمال محمد، رئيسة مؤسسة مدافعات للحقوق والحريات، إنّ منظمات المجتمع المدني تبدو كما لو أنها تتجاهل أو تُغيب العمل حول هذه القضية، موضحة: "لم أسمع عن منظمات عملت على هذه المشكلة، لكنها تعمل كثيرًا حول زواج القاصرات".
ينظر المجتمع للفتيات اللواتي بلغن سنّ الزواج ولم يتزوجن، إما نظرة تعاطف تصل إلى حد الشفقة، وهو ما يجعل المرأة تشعر بالضعف وبنقص ثقة في نفسها، وإما السخرية منها على افتراض وجود نقص فيها لم ينَل إعجاب شريك الحياة المحتمل، وذلك ما يجعلها عرضة للانسحاب الاجتماعي.
القليل من الهدوء النفسي
ترفض الأربعينية سعاد علي، الخروج إلى حفلات الأعراس تجنبًا لتلك الأسئلة القاسية، على شاكلة: "أنتِ ليش ما تزوجتِ؟ متى بنفرح بك؟ ما لك كذا؟ لا متى بتجلسي بدون زواج؟!" أسئلة بحسب سعاد، لا يتم الرد عليها سوى بإجابة واحدة، تعتقد أنها خاطئة (النصيب).
تطرح هذه الأسئلة بمسحة من الشفقة، السخرية وأحيانًا الظنون السيئة، ولذلك تفضل سعاد ومثيلاتها، الانعزال قدر الإمكان بحثًا عن القليل من الهدوء النفسي.
"يُسقط المجتمع أحكامه السلبية على المرأة التي تجاوزت سن الزواج المتعارف عليه اجتماعيًّا، ودخلت فيما يسمى العنوسة"؛ تقول الأخصائية النفسية، كريمة الصمدي، وتضيف: "ينظر المجتمع للفتيات اللواتي بلغن سن الزواج ولم يتزوجن، إما نظرة تعاطف تصل إلى حد الشفقة، وهو ما يجعل المرأة تشعر بالضعف وبنقص ثقة في نفسها، وإما السخرية منها على افتراض وجود نقص فيها لم ينَل إعجاب شريك الحياة المحتمل، وذلك ما يجعلها عرضة للانسحاب الاجتماعي".
في سياق متصل، يقول محمود البكاري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز: "في مجتمع تسيطر عليه ثقافة العيب، تحرم الفتاة من الإفصاح عن رغبتها في الزواج، فضلًا عن حرمانها من الحق في قبول أو رفض شريك الحياة، إذ تعد هذه الأمور من اختصاصات وصلاحيات الأهل فقط، هم من يقرِّرون كيف ممكن تمضي حياتها".
البكاري يتابع: "يتم شيطنة وتحقير الفتاة في حال قررت أو حاولت التعبير عن حقها أو انتزاعه، إذ يتم معاملتها كأنها انتهكت الآداب والأعراف العامة، ويمكن أن تجد نفسها منبوذة ومضربًا للسوء، ولذلك فإنّ ما على الفتاة سوى الامتثال وقضاء حياتها أو معظم حياتها -إذا حظيت بفرصة زواج متأخرة- في خدمة أنانية الأسرة وعاداتها الجائرة".
تدخل الفتاة في حالة من العدوانية والانفعال المفرط، وعدم القدرة على تحمل الضغوط، والأهم هو دخولها مرحلة الاكتئاب، الذي يتطور تدريجيًّا للتفكير في الانتحار، أو التفكير في الهرب إن سنحت لها فرصة مواتية.
مآلات الكبت الكارثية
قد ينتهي عنف الأسر بحق الفتيات اللواتي لم ينلن حظًّا أوفر من التعليم عند حدٍّ معين، لكنه أكثر قسوة وتطلبًا في حال نالت الفتاة قسطًا جيدًا من التعليم، "يصل الأمر ببعض الأسر إلى رفض زواج بناتهم، خاصة إذا كن موظفات، ويتقاضين راتبًا، مخافة أن تحرم أسرهن من الحصول على رواتبهن هذه، وهو ما يمكن وصفه بالعنف الاقتصادي إلى جانب العنف النفسي"؛ يؤكد البكاري.
لا يستسيغ المجتمع في اليمن، فكرة أن تطالب الفتاة علنًا بحقها في الزواج، لكن هذا الكبت له تداعيات تدمر نفسية الفتاة تمامًا: "يسبّب كبت الفتاة لحنقها إزاء منعها من الزواج إلى تراكم للمشاعر السلبية في نفسية الفتاة تجاه والديها -تحديدًا- كونهما السبب في حرمانها من حقوقها، إضافة إلى نقص تقديرها لذاتها، حيث تشعر أنها مجرد آلة يجب عليها تنفيذ الأعمال المجدولة دون تقصير"؛ تقول الصمدي. وبحسب تأكيدها، يؤدّي الشعور بالغبن لدى الفتاة إلى مآلات غير محمودة: "تدخل الفتاة في حالة من العدوانية والانفعال المفرط، وعدم القدرة على تحمل الضغوط، والأهم هو دخولها مرحلة الاكتئاب، الذي يتطور تدريجيًّا للتفكير في الانتحار، أو التفكير في الهرب إن سنحت لها فرصة مواتية".
جبهة المناصرة العائلية
ترى محمد أنّه يجب عمل دراسات بحثية تدرس هذه الظاهرة من جوانب مختلفة للخروج بنتائج وتوصيات تساهم في وضع حلول للحدّ من استمرارها، إضافة إلى تصميم حملات توعية ومناصرة لحقوق الفتيات في الخيار والقرار، وإيقاف أيّ خطاب تمييزي ضد المرأة".
وتقترح الصمدي الآتي: "إدراج الفتيات ضمن برنامج الإرشاد النفسي، الذي يتضمن توعية الفتاة بكيفية التصرف في حال وقعت في مشكلة من هذا النوع، وكيف يمكنها التعبير عن رغبتها بالزواج دون حرج، ثم كيفية تكوين جبهة مناصرة عائلية لمواجهة القهر في حال رفض الأب أو ولي الأمر تزويجها، من خلال البحث بين الأقارب عن شخص متفهم ومؤثر يمكنه مواجهة الولي ودفعه إلى الموافقة".
ونوّهت الصمدي إلى أنّ اللجوء للإجراءات القانونية يظل خيارًا قائمًا ومكفولًا لانتزاع الحق وتوفير الحماية الكاملة للفتاة حال فشلت الجهود داخل دائرة الأسرة والعائلة الكبيرة.
هذا ويعتبر الزواج -شرعًا وقانونًا- حقًّا مشروعًا لكل فتاة بلغت سن الزواج، ولا يوجد مسوغ يمنعها من هذا الحق، ما دامت الشروط والضوابط الشرعية توافرت في المتقدم لخطبتها.
محمد مهيوب، أمين سر محكمة الخوخة يقول: "امتناع الولي عن تزويج من تقع تحت ولايته كانت ابنة أو أخت أو أم أو أي من بنات الإخوة والأعمام اللواتي لا أولياء لهن، يسمى قانونًا عضل الولي الشرعي".
وحول الطرق التي يمكن أن تتبعها المرأة في مواجهة هذه الحالة يوضح مهيوب، بالقول: "كفل القانون للمرغوب الزواج بها، أن تختصم وليها بدعوى تسمى (دعوى عضل) أمام القاضي المختص، فإن امتثل الولي وحضر أمام المحكمة وبيّن للمحكمة سبب عضله، وكانت مقنعة للمحكمة كأن يكون الشخص المتقدم من ديانة غير دين الإسلام أو أنه مشهور بالشر أو بإدمانه المُسكرات أو من طبقة اجتماعية أقل شأنًا في المجتمع...إلخ، فإنّ المحكمة ترفض دعوى العضل، وتأخذ ضمان الولي بعدم إلحاق الأذى بمقدمته".
ويضيف: "وإن لم يأتِ الولي بأيّ سبب مقنع، تأمر المحكمة بإجراء العقد أو تقرر نقل الولاية لولي آخر، كأن تنقل الولاية من الأخ الأكبر إلى الأخ الذي يليه أو من الأب إلى الجد أو من الأب إلى الابن، فإن تعذر ذلك لأي سبب؛ كوجود ولي واحد أو رفض من نقلت له الولاية إجراء العقد، يقرر القاضي نقل الولاية إليه وتزويجها بمن ترغب به، بمهر أمثالها، ويصدر حكمًا بذلك".
الجدير بالذكر أنّ اليمن تأتي في المرتبة الـ(14) عربيًّا من حيث تأخر سن الزواج، وذلك بنحو 30%، وفق دراسة أجراها (مركز الخليج للبحوث والدراسات).
وبحسب آخر تقرير أعدّه جهاز الإحصاء في اليمن، في العام 2014، تبيّنَ أنّ عدد الفتيات اللواتي لم يتزوجن رغم بلوغهن سن الزواج يزيد على مليونين، بينهن أكثر من نصف مليون فتاة تجاوزن سنّ الثلاثين. ما يعزّز أثر بعض العادات والتقاليد التي يفرضها المجتمع على حرمان الفتاة من حقوقها وممارسة التمييز ضدها.
- (تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع تعزيز أصوات النساء من خلال الإعلام الذي ينفذه مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي).
(*) أسماء الناجيات مستعارة؛ احترامًا للحق في الخصوصية وعدم التعريض للخطر.