على هامش إحدى ورش العمل حول قضايا النساء في اليمن، دار بيني وبين أحد الزملاء حديث عن عدد من النساء اليمنيات "الناشطات في المجتمع المدني"، سألني عن إحداهن وكانت قد اعتزلت العمل الحقوقي منذ ما يقرب من 5 سنوات بسبب زواجها وارتباطها بمهام الأسرة وتربية الأطفال، قائلًا: كيف لناشطة يمنية صنعت لها بصمة وحاصلة على شهادة عليا أن تقرر العودة للأدوار التقليدية في المنزل؟ وفي نقاش آخر جمعني مع إحدى قيادات المجتمع المدني النسائية في اليمن، أخبرتني أنها تكاد تنهي إجراءات الطلاق من زوجها بعد زواج دام 5 سنوات، وعندما سألتها عن السبب أجابت ضاحكة: "كانت عقدته أنني لا أتقن عمل خبز الطاوة".
تقود مجموعة من النساء اليمنيات الدفاع عن حقوق المرأة في اليمن، يطلق عليهن في الوسط المدني "الناشطات"، نسبة إلى نشاطهن في مجال حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق النساء بشكل خاص، ولتفاعلهن مع القضايا والأحداث السياسية، وتنتمي جميعهن بشكل أو بآخر إلى منظمات مجتمع مدني أو شبكات وتحالفات تختص بقضايا النساء وحقوقهن أو بالعمل المدني بشكل عام.
محطات أولى
تقود عددٌ من النساء اليمنيات حركة تغيير الوعي الجمعي للمجتمع اليمني، وتفعيل القوانين والنصوص الدستورية التي تكفل حقوق النساء منذ سنوات عدة، "ففي العام 1953، افتتحت أول مدرسة للبنات في عدن، كان الفضل في ذلك للسيدة نور حيدر، والتي ناضلت وعدد من زميلاتها ضد الاستعمار البريطاني فيما بعد، وفي الشمال خرجت أول مظاهرة نسوية في العام 1961 بقيادة عاتكة الشامي، التي خرجت مطالبة بافتتاح مدرسة للفتيات، وفي عام 1956 قامت السيدة رضية إحسان بتأسيس جمعية المرأة العربية في عدن، والتي كانت نواة الاتحاد العام لنساء اليمن الذي تأسس لاحقًا عام 1974، وفي عام 1990 دُمِج الاتحاد العام لنساء اليمن مع جمعية المرأة اليمنية التي كانت نظيرته في الجمهورية العربية اليمنية آنذاك، في كيان موحد اسمه اتحاد نساء اليمن وأصبح منظمة غير حكومية في عام 2001، وفي العام 1996 أسّست الأكاديمية النسوية الدكتورة رؤوفة حسن مركزًا لدراسات المرأة والنوع الاجتماعي بجامعة صنعاء، وقام المركز بتقديم برامج للدراسات العليا المعترف بها محليًّا ودوليًّا التي التحق بها عدد لا بأس به من الرجال والنساء، لكنه أغلق عام 1999، بعد دفع شخصيات دينية بإغلاقه، وبقي المركز مغلقًا حتى إعادة افتتاحه مجددًا عام 2003، وقد غيّر اسمه إلى مركز أبحاث ودراسات النوع الاجتماعي". وعلى العموم، ازداد نشاط النساء في اليمن بعد صدور قانون إنشاء الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، والتي سمحت للنساء بالعمل بشكل أكثر تنظيمًا، ونتيجة ذلك النشاط ظهر تغير واضح في أدوار النساء في اليمن ومشاركتهن السياسية، ومحاولة الخروج بنصوص قانونية تكفل تلك الحقوق؛ فبحلول العام 2009، قدمت اللجنة الوطنية للمرأة مشروعًا قانونيًّا مهمًّا ينص على تحديد سنّ الزواج للفتيات، حماية للقاصرات من أخطار الزواج المبكر، لكن برلمانيين محافظين أعاقوا تعديل المقترح، كما تم خلال الفترة الماضية تعزيز الفجوة بين الجنسين، وزيادة التحاق النساء بسوق العمل، وشهدت المشاركة السياسية للنساء في اليمن مرحلة ذهبية إبان انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، حيث شاركت فيه النساء من كافة التيارات الفكرية بنسبة تقترب من 30%، ورغم سنوات الحرب فإنّ المطالبة بحقوق النساء والدفاع عن قضاياهن لم تتوقف، ورغم أن تلك الجهود لا تقوم بها النساء بمعزل عن الرجال لوجود عدد لا بأس به منهم يقفون إلى جانب تلك القضايا ويناصرونها، فإنّ الناشطات في اليمن يتصدرن حملات المدافعة عن قضايا النساء، بالأخص تلك التي تتحول إلى قضايا رأي عام.
سيتساءل أحدكم: وهل كل تلك الإنجازات تُنسب للناشطات اليمنيات؟ ولن أكون مخطئة إن أجبت بنعم، ولو بشكل غير مباشر، ويستطيع من يقرأ طبيعة الحياة الاجتماعية في اليمن أن يدرك أن وضع المرأة اليمنية كان سيبدو أسوأ في غياب نشاط حقوقي وسياسي تقوده النساء، بالأخص اللواتي يقفن مع الحقوق العادلة، فلا يدافعن عن الحقوق التي تُفصل على مقاس توجه بعينه، وبالتالي يجعلن للمرأة نفسها الحق في تحديد الطريقة التي يمكن أن تمارس بها حياتها، ولا يقللن من أدوارها، سواءً كانت ربة منزل تعكف على تربية الأبناء وتنظيم شؤون الأسرة أو وزيرة تحضر جلسات مجلس الوزراء لوضع الخطط العامة للدولة.
إذا كان المجتمع التقليدي البسيط ينظر للناشطات في اليمن على أساس أنهن خرجن عن الأدوار التقليدية، ويقيم إنجازاتهن مقارنة بتلك الأدوار، فإن مواقع التواصل الاجتماعي تضج بتهم شتى توجه لهن من رواد تلك المواقع، بل للأسف يقود تلك الصور الذهنية غير المنصفة في كثير من الأحيان عددٌ من الكتّاب والصحفيين والمواقع.
الصورة الذهنية عن الناشطات
تتضارب في ذهنية المجتمع اليمني في الوقت الحالي، صورتان ذهنيتان للناشطات اليمنيات، إحداهما تلك التي رأى من خلالها زميلي عدم أحقية الناشطة اليمنية العودة إلى دورها الأساسي كربة منزل، فهؤلاء يرون أنّ المرأة الناشطة امرأة تخلت عن أنوثتها وأصبحت ندًّا بل خصمًا للذكور تقود ضدهم معاركها لنيل حقوقها التي لن تنتصر فيها إلا بهزيمتهم جميعًا، ويناصر هذه الصورة الذهنية للأسف اتجاهان مجتمعيان؛ فالأول يجد في عمل الناشطات اليمنيات حقًّا مطلقًا للتمرد على الثقافة المجتمعية والعادات والتقاليد، وصولًا إلى الدين والقيم الإنسانية الراسخة، بينما يرى الاتجاه الآخر أن عمل الناشطات اليمنيات امتداد لمؤامرات دولية وغربية تحديدًا، تقوم من خلالها الناشطات اليمنيات بسلخ النساء من المعتقدات الدينية والقيم السلوكية السوية والعادات والتقاليد الأصيلة، وكلا الاتجاهين متطرفين في تقييم عمل الناشطات اليمنيات من وجهة نظري، وفي مسار آخر يظهر اتجاه ثالث في المجتمع اليمني يرسم صورة ذهنية ثانية للناشطات اليمنيات، كزوج صديقتي الذي يقيم كل إنجازاتها في الحياة بمدى إتقانها لصناعة "خبز الطاوة"، وهذا الاتجاه ينسف كل إنجازات المرأة في مجالات متعددة، فلا يهمه مدى قدرتها على توصيل رسالة إلى مجلس الأمن حول معاناة النازحين في اليمن مثلًا، ولا عدد البرامج التي تنفذها هذه الناشطة أو تلك في مجال مكافحة الفساد أو تعزيز البُنى التحتية أو عودة الأطفال إلى المدارس أو وضع رؤى لإنهاء الحرب في اليمن، بل يرمي بكل ذلك عرض الحائط ليقيم مدى نجاحها في الحياة بقدرتها على إعداد وجبة طعام أو مشروب معين. تقول لي أمل بنت عدن التي انتقلت للعمل مع إحدى المنظمات الدولية في صنعاء، أنها تعلّمت صناعة بنت الصحن، والتي لم تذقها من قبل حتى تزوجت زوجها المحويتي، والذي تعد بنت الصحن أحد أهم مكونات وجبة الغداء بالنسبة له، وبينما تعتبر أمل أنّ ذلك أحد واجباتها الزوجية، رغم أن عملها ينتهي قرابة الخامسة مساءً، وهي تصرف على أسرتها منه وتساهم مع زوجها أيضًا في مصاريف البيت واحتياجاته، يعتبر زوجها وأسرته أن نجاح زواجهما مرهون بإتقانها لصناعة بنت الصحن، وكأمل تعمل عدد كبير من النساء في اليمن في التوفيق بين إنجازاتهن العملية وإنجازاتهن الخاصة، في محاولة لإحداث توازن مقبول يستطعن معه ممارسة رغبتهن في العمل العام، وإحداث تغيير مجتمعي، وغريزتهن في أن يصبحن أمهات وزوجات يحقّقن رضا مجتمعيًّا مقبولًا.
وإذا كان المجتمع التقليدي البسيط ينظر للناشطات في اليمن على أساس أنهن خرجن عن الأدوار التقليدية ويقيم إنجازاتهن مقارنة بتلك الأدوار، فإن مواقع التواصل الاجتماعي تضج بتهم شتى توجه لهن من رواد تلك المواقع، بل للأسف يقود تلك الصور الذهنية غير المنصفة في كثير من الأحيان عدد من الكتّاب والصحفيين والمواقع، حيث يُتهمن بأن "الهدف الأساسي لهن ليس تعليم المرأة وإيجاد الوظيفة المناسبة لها، بقدر ما هو تعرية المرأة ونزع الحجاب عنها!"، كما تشير عدد من الكتابات إلى أن لديهن خطابًا متطرفًا تجاه الرجل، وأنهن يأخذن بأدبيات المنظمات النسوية الغربية بصفتها مُسلَّمات ومنطلقات أساسية في عملهن، ويرى عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن الناشطات "يشيطن الزواج وأنهن يعانين من حياة زوجية فاشلة أو متمردات على نظام الأسرة والزواج، ويعشن في الغرب ويتنقلن من دولة إلى أخرى".
تحديات مضاعفة
تشن هجمات ضد الناشطات اليمنيات، بشكل ممنهج أو غير ممنهج، بدعوى الحفاظ على التقاليد والآداب العامة أو حماية النساء والمجتمع من أفكارهن، وخلال سنوات الحرب زادت تلك الهجمات لتتحول إلى مواضيع لخطب الجمعة في الكثير من مساجد الجمهورية، بل ومُنعت النساء من السفر إلا بمحرم، بقرار رسمي في بعض المناطق، وبقرار غير رسمي في مناطق أخرى، وفي العادة تسافر النساء العاملات في المجتمع المدني أكثر من غيرهن لارتباط أعمالهن بالأنشطة الميدانية، وحتى لا أدخل في جدل ديني حول موضوع المحرم فإني أجد هذا الإجراء مستحدثًا على الثقافة اليمنية، فالنساء قبل الحرب كان منهن من لا يسافرن إلا بمحرم، بينما منهن من تسافر بدون محرم، وهذا كان يعد شأنًا خاصًّا تقرره الأسرة لا الدولة، ويعد ذلك إحدى القواعد العرفية التي كان يحتكم إليها الشعب اليمني تاريخيًّا، "فقد كانت سلطة الدولة في المجتمع اليمني هي سلطة على المواطنين الذكور، فيما السلطة على المواطنين الإناث كانت خاصة بالعائلة والقبيلة، فالتشريعات التي كانت تصدرها الدولة تعنى بتنظيم المجال العام فقط، أما تنظيم المجال الخاص فقد كان يتم وفقًا للعُرف القبَلي"، إضافة إلى ذلك شنّ متشددون هجمات وحملات ضد (مصطلح النوع الاجتماعي)، وتم تشويه مفهومه بشكل مغلوط -على الأقل عن ذلك المفهوم المتعارف عليه ويتم من خلاله العمل في المجتمع المدني اليمني- ممّا يهدّد عمل النساء ومنظمات المجتمع المدني العاملات في هذا المجال.
من المهم في وسط دوامة الضبابية والصراعات التي تسود العمل المدني في اليمن، أن تقود الناشطات اليمنيات حوارات مفتوحة مع القوى التقليدية والدينية وحتى القوى السياسية، للوصول إلى مفاهيم مشتركة للعمل المدني، إضافة إلى ضرورة قيام مراكز الأبحاث والدراسات اليمنية بإنتاج دراسات بحثية تيمنن المصطلحات الفلسفية التي أنتجتها المدارس النسوية العالمية، وتنتج مقاربات لها مع واقع وثقافة النساء في اليمن.
إجراءات لا بد منها
تابعت خلال الفترة السابقة، حملات تم شنّها من قبل متشددين دينيين في عدة دول عربية، كفلسطين والعراق، ضد مفهوم النوع الاجتماعي، لكن ذلك تم تداركه بحوار بين القوى الدينية وناشطات مدنيات، للخروج بتعريف مشترك لمفهوم "النوع الاجتماعي" للبناء على ذلك التعريف في العمل المدني وقضايا النساء، ولا ننكر أنّ في اليمن "يبدو النشاط المتعلق بقضايا النساء، متواضعًا ومرتبكًا وبلا أي أطر تنظيمية أو رؤية مصاغة بطريقة واضحة"، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت ظهور بعض الأصوات التي حُسبت على الناشطات اليمنيات ممن وجدن في النشاط الحقوقي مجالًا رائجًا للعمل، بغض النظر عمّا يقدمنه من محتوى أو يطرحنه من قضايا، إضافة إلى الجهل المجتمعي وأحيانًا جهل بعض الناشطات أنفسهن بمصطلحات فلسفية وفكرية مأخوذة من مدارس غربية، خلط الحابل بالنابل تجاه قضايا النساء في اليمن، كالنسوية والنسائية والتقاطعية والجندر، وظهور تساؤلات عدة حول هل هناك حراك أم حركة نسوية في اليمن، وهل هي نسائية أم نسوية؟ إضافة إلى تطرف الفكر الغربي في دعوته للاعتراف بتنوع الجنس البشري، فلم يعد يقتصر على "الذكر" و"الأنثى"، واعتبار ذلك التنوع حقًّا طبيعيًّا لا استثناءً مرَضيًّا، وهذا ما دفع بالكثير من القوى في العالم، وليس في اليمن والدول العربية فحسب، إلى التطرف مؤخرًا في قضايا النساء، محاولة للدفاع عن خصوصيتها الثقافية، وهذا الجدل ليس وليد اللحظة بل نشأ بنشأة حقوق الإنسان ونظرياته "العالمية" التي تعتبر الحقوق ذات صبغة عالمية يصيغها الغرب لتصبح لصيقة بكل البشر، باختلاف أعراقهم وأديانهم وثقافاتهم، ونظرية "الخصوصية الثقافية"، التي تعتبر أنّ الحقوق ليست عالمية، وأن من حق الشعوب أن تعترف بما يتوافق مع ثقافتها من تلك الحقوق فحسب.
من المهم في وسط دوامة الضبابية والصراعات التي تسود العمل المدني في اليمن، أن تقود الناشطات اليمنيات حوارات مفتوحة مع القوى التقليدية والدينية وحتى القوى السياسية، للوصول إلى مفاهيم مشتركة للعمل المدني، إضافة إلى ضرورة قيام مراكز الأبحاث والدراسات اليمنية بإنتاج دراسات بحثية تيمنن المصطلحات الفلسفية التي أنتجتها المدارس النسوية العالمية وتنتج مقاربات لها مع واقع وثقافة النساء في اليمن، كما يتعين على منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق النساء، العمل على إنتاج رؤية للعمل الحقوقي في اليمن، يشرح أهدافها واستراتيجيتها بما لا يدع مجالًا لأي ثغرات يتم من خلالها استهداف الناشطات اليمنيات، بينما يجب على الناشطات اليمنيات -وأنا واحدة منهن- أن يدركن أن قضايا النساء في اليمن قضايا عادلة، لأنهن الفئة الأكثر ضعفًا؛ بالتالي نحتاج ونحن نؤدي رسالتنا تلك، إلى العدالة والإنصاف مع كافة أفراد وفئات المجتمع، وليس النساء وحدهن، كما نحتاج أن نقود عملنا المدني من خلال تحديد احتياجات وأولويات من نقوم بمناصرتهن من النساء، أيًّا كان توجههن، وفقًا لاحتكاك مباشر بهن في المجتمعات المحلية، وليس وفقًا لما نراه من مكاتبنا المغلقة، إذا أردنا تغييرًا حقيقيًّا يدعم حقوق وشراكة اليمنيات على المدى الطويل.