المجتمع اليمني وثقافة الحوار

غير المتأصل في ممارسة النخب السياسية والثقافية
د. إحسان شاهر
January 17, 2025

المجتمع اليمني وثقافة الحوار

غير المتأصل في ممارسة النخب السياسية والثقافية
د. إحسان شاهر
January 17, 2025
.

الحوار شكل أدبي أو مسرحي لتبادل العبارات (أسئلة وأجوبة) بين شخصين، ويمكن أن تكون تلك العبارات شفهية أو مكتوبة، وقد يكون الحوار بين أكثر من شخصين من المتخاصمين، المشاركين في مناقشة حول شيء معين أو موضوع معين.

ومن الجدير بالذكر أن نميز بين الحوار والتواصل، حيث إنّ الأول هو نوع فريد من العلاقات الطوعية المتساوية بين الأفراد، حيث يقوم الشركاء المتفاعلون بتوليد معلومات جديدة في عملية الاتصال؛ ولهذا السبب يتغيرون في عملية الحوار، مع الحفاظ على استقلالهم وفرديتهم، أما الثاني فلا يفترض تساوي العلاقات بين الذوات المتفاعلة، ومن ثم قد يكون أحادي الاتجاه، أي قد لا يكون عملية تفاعلية، بل مجرد نقل معلومات من المرسل إلى المتلقي، وزد على ذلك أن التواصل لا يكون بالضرورة، على أسس طوعية.

فن خوض الحوار

في الأدب، يعد الحوار سمة عضوية للأنواع الدرامية، ولكنه في بعض الأحيان يكون أيضًا أساس الأعمال غير الدرامية، ويتخذ أشكالًا عديدة، على سبيل المثال: في الشعر الروسي «محادثة بين بائع كتب وشاعر»، وهي قصيدة كتبها أ. س. بوشكين في 1824، ونُشرت أول مرة عام 1825، باعتبارها مقدمة للرواية الشعرية «يفغيني أونيغين»، وفي الشعر العربي هناك العديد من الأمثلة على استخدام الحوار كأسلوب فني، ومن أقدم من استخدمه امرؤ القيس.

وقد يستخدم الحوار كطريقة لتوليد الأفكار، وفي هذا الخصوص من الممتع أن نشير إلى أن المعنى الأول لكلمة اليونانية «ديالكتيك» (الجدل) هو فن خوض الحوار، وشكل هذا الفهم أساس المنهج السقراطي، وعلى إثره سار أفلاطون، الذي اعتمد عليه للتعبير عن آرائه الفلسفية في شكل محاورات.

وبوجه عام يمكن أن تجد الجذور التاريخية للحوار في التقنيات الفلسفية والتعليمية والأدبية في اليونان القديمة والهند القديمة، وبخاصة في البلاغة والمنطق، واستُخدم أيضًا في العصر الحديث والعصر الوسيط؛ لأن الممارسة أثبتت بأنه وسيلة فعّالة لتصوير الأحداث والمواقف الحياتية، وعرض الأفكار وتبسيطها والبرهنة عليها.

وفي وقتنا الحالي، تزايدت أهمية الحوار في المراكز الاجتماعية في أوروبا الغربية، التي ينضم الناس إليها طوعًا، والتي تعمل على تنفيذ العديد من المهام المتنوعة، مثل التنشئة الاجتماعية، والمساعدة المتبادلة، وخلق الظروف الملائمة لقضاء بعض الوقت في صحبة ودية، وصولًا إلى حقوق الإنسان، وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، ومن الأمثلة على ذلك: «دوائر الإبداع»، ومراكز الترفيه (والرعاية) للمسنين أو الأطفال، والمراكز الاجتماعية الجامعية، والوطنية والثقافية والدينية، والعديد من الأصناف الأخرى. 

قصارى القول؛ لا تنحصر أهمية الحوار على الجانب العلمي والأدبي، فالحوار هو لغة عصرنا الحالي؛ لأنه هو النهج المثالي لحل الخلافات بين الناس في المجتمع والأمم، وتعبير عن رفض الصور النمطية، ويبني الثقة بين الناس، ويسمح لهم بالانفتاح على الآراء المختلفة عن وجهة نظرهم.

المجتمع اليمني ما زال في العديد من جوانب حياته الاجتماعية مجتمعًا تقليديًّا، والمجتمع التقليدي في اختلافه عن المجتمع الصناعي، يتميز بالحفاظ على مؤسسات ثقافية واجتماعية واقتصادية مستقرة ودائمة على أساس التقاليد والعادات وتوقعات الدور الاجتماعي.

هيمنة البنى التقليدية

نركز في هذه المقالة، بالدرجة الأولى، على الحوار العلمي؛ أي النقاش الذي يدور حول القضايا النظرية والعملية، أو حول قضايا الشأن العام، أي القضايا ذات الاهتمام المشترك، مثل القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهلم جرًّا.

هذا النوع من الحوار غير متأصل في ممارسة النخب السياسية والثقافية اليمنية، فقلّما يُستخدم في حل الخلافات الجوهرية، وإذا ما استخدم لا يقدم النتائج المرجوة؛ لعدة أسباب؛ بعضها ذاتية، وبعضها موضوعية، ولذا لا بد أن نتناول عناصر كل مجموعة على حدة.

هناك جملة من الأسباب الموضوعية التي تحد من شيوع وفعالية النهج الحواري، وأولها هو هيمنة البنى التقليدية (الاجتماعية والسياسية والفكرية)، ومن ثم يتعين علينا أن نعالج كل بنية من تلك البنى على حدة، بما يخدم غرض بحثنا.

فيما يتعلق بالبنية الاجتماعية، يمكن القول إن المجتمع اليمني ما زال في العديد من جوانب حياته الاجتماعية مجتمعًا تقليديًّا، والمجتمع التقليدي في اختلافه عن المجتمع الصناعي، يتميز بالحفاظ على مؤسسات ثقافية واجتماعية واقتصادية مستقرة ودائمة على أساس التقاليد والعادات وتوقعات الدور الاجتماعي.

وعلى الجملة، يتميز المجتمع التقليدي بالسمات التالية:

1) تمسكه بالتقاليد والعادات، التي تشكل أساس البنية الاجتماعية والممارسات الدينية والعلاقات الأسرية وما إلى ذلك.

2) الحراك الاجتماعي المحدود، حيث إنه غالبًا ما تتحدد فيه الفرص من خلال الانتماء الإرثي إلى طبقة أو طائفة معينة.

3) الاقتصاد القائم على الزراعة والعمل اليدوي والإنتاج الحرفي.

وقد يقول قائل إن سمات المجتمع التقليدي لا تنطبق على سكان الحضر في اليمن، لكن هذا الاعتراض ضعيف الحجة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن نسبة سكان الحضر وصلت في عام 2004 إلى حوالي (28,64%)، (انظر: ويكيبيديا، «سكان اليمن»، ومن ثم فالحياة الريفية هي نمط الحياة السائد.

علاوة على ذلك، الكثير من سكان الحضر في اليمن ينحدرون من أصول ريفية وقبَلية، بل وما زالوا يملكون أراضيَ ومنازل وعلاقات قربى في الأرياف، حيث شهد اليمن هجرة داخلية واسعة من الأرياف إلى المدن بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، وهي مستمرة بوتائر سريعة إلى وقتنا الحالي.

تزداد الحاجة إلى الحوار البنّاء في ظل الوضع الحالي لليمن، التي أصبحت ميدانًا لصراع عسكري طويل بين مكوناته المحلية، المستنجدة بالأطراف الخارجية، المتنافسة على النفوذ السياسي والاقتصادي والأيديولوجي في المنطقة العربية.

وهكذا هناك العديد من القواسم المشتركة بين سكان الحضر وسكان الريف، وتتجلى، بدرجة أساسية، في نمط الحياة، وفي نفسية الناس، وطريقة تفكيرهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وهذا هو الذي يفسّر لنا عدم التحرر الكامل للنخب السياسية والثقافية من النفسية والعقلية الريفية والقبَلية. 

وفيما يخص النظام السياسي، لم يعرف اليمن في القرون الوسطى والعصر الحديث سوى شكلين من أشكال النظام السياسي، وهما: الاستبداد، وهو نوع من النظام السياسي غير الديمقراطي القائم على السلطة المركزية الدائمة (الاستبدادية) لشخص واحد (رأس الدولة) أو مجموعة من الناس (على سبيل المثال: حزب سياسي)، والنظام الشمولي، الذي تسعى فيه السلطة السياسية إلى السيطرة الكاملة (الشاملة) على الناس والمجتمع، وتقمع فيه كل مظاهر المعارضة.

عدم نقد العقائد

تعكس الحياة الفكرية للمجتمع حياته الاقتصادية والاجتماعية؛ ولذا ليس من الغريب اتصاف أفراد النخب السياسية والثقافية بالتعصب الفكري، وأعني بالتعصب الحماسة التي لا جدال فيها لشيء ما (فكرة معينة، موقف سياسي معين أو قضية معينة)، وفي الغالب يكون ذلك مشروطًا بالمصلحة أو الانتماء الطبقي أو القبَلي أو الطائفي، أو التقيد بالتقاليد والعادات والأعراف القديمة.

يضاف إلى ذلك، أن معظم أفراد النخب السياسية والثقافية في اليمن يعانون من مرض الدوغمائية، التي تتميز بعدم النقد تجاه العقائد، وعدم القدرة على إدراك المعلومات الجديدة التي تتعارض مع العقائد، والإيمان الأعمى بالسلطات، وعدم مراجعة السياسة المرسومة إذا تبين عدم تناسبها مع تغيرات الوضع السياسي. 

وإلى جانب تلك العوامل الموضوعية، التي تحد من شيوع وفعالية النهج الحواري، هناك جملة من العوامل الذاتية، ولعل أهمّها: عدم معرفة ثقافة الحوار، ونعني بثقافة الحوار القدرة على التحدث بوضوح، والقدرة على الإقناع والجدال، والتأثير على وجهات نظر ومواقف وسلوك شخص معين، أو الجمهور، وامتلاك روح التسامح، التي بدونها لا يمكن الاستماع بهدوء لآراء المعارضين.

يمكن القول إن مفهوم ثقافة الحوار يصف الطريقة التي يتفاعل بها الناس بعضهم مع بعض أثناء التواصل لتحقيق التفاهم المتبادل وحل المشكلات الخلافية، ويتطلب ذلك: الاحترام المتبادل، والاستماع إلى الطرف الآخر، وفهم موقفه، والتخلي عن روح المكابرة، وبذل الجهود لإيجاد حل وسط أو تقريب وجهات النظر، أو الوصول إلى موقف مشترك حول بعض قضايا الشأن العام.

ومن أجل زيادة فعالية الحوار، يجب التحرر من الخوف وعدم الثقة، وتنظيم الحوار تنظيمًا عاليًا، وإعطاء قيمة اجتماعية لنشاط المتحاورين من خلال الدعم المادي والمعنوي، وتجنب التعبيرات غير اللائقة والقوالبية في الحوار، والعمل على مراعاة مبدأ تكافؤ فرص المتحاورين، والحرص على أن يكون الحوار بين أناس متقاربين في مستوى التطور الفكري.

إن امتلاك ثقافة الحوار ليس نتاجًا للتطور الذاتي للفرد فحسب، بل أيضًا ثمرة للعملية التعليمية والتربوية في التعليم ما قبل الجامعي؛ ولذا يجب ألّا تغيب هذه المسألة عن أعين واضعي الفلسفة التعليمية والسياسة التربوية في اليمن.

تزداد الحاجة إلى الحوار البنّاء في ظل الوضع الحالي لليمن، التي أصبحت ميدانًا لصراع عسكري طويل بين مكوناته المحلية، المستنجدة بالأطراف الخارجية، المتنافسة على النفوذ السياسي والاقتصادي والأيديولوجي في المنطقة العربية.

لا يمكن لمكون من المكونات اليمنية أن يُقصي المكونات الأخرى، أو يلغي وجوده الثقافي والسياسي؛ لأن مثل هذا الغرض لا يمكن تحقيقه في الواقع إطلاقًا حتى باستخدام القوة العسكرية؛ ولذا تقتضي الحكمة السياسية أن نستبدل حوار البنادق بحوار الأفكار، وكلما سرنا قُدمًا في هذا الطريق، اقتربنا من عالم الحضارة.

•••
د. إحسان شاهر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English