على كرسيّ خشبيّ متهالك، يجلس العم سعيد، وهو موظف مدنيّ متقاعد منذ سنوات، بمقهى شعبيّ في حيّ السلام، بمدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت (جنوب اليمن)، نظراته متعبة وتحمل الكثير من الحنين والبهجة المختطفة؛ فقد انقضت أربعة عقودٍ من عمره بعد إحالته إلى التقاعد، مليئة بالهواجس والعزلة، ما عدا ساعاته التي يقضيها في هذا المكان.
أغلب روّاد المقهى من المتقاعدين وكبار السنّ، وأجواء المكان والكراسي والطاولات وأكواب الشاي المنقوطة بعلامة زرقاء في أسفلها، تأخذك إلى ما قبل نصف قرن، وكأنهم أمسكوا بسنوات ذلك الزمن بعد أن أرهقهم الجري خلف سرعة إيقاع الأيام، وضاعوا بين الإهمال وقلّة التقدير.
كان العم سعيد مُعلِّمًا لمادة الرياضيات أيام السلطنة القعيطية في مدرسة (البلاد الجديدة)، وعمل في وظائف عدة بعد أن تخرّج من المدرسة الوسطى ذائعة الصيت -التي انتقلت من المكلا إلى الغيل في أربعينيات القرن الماضي، وتخرّج منها جمعٌ من رجال السياسية والاقتصاد وعلماء الدِّين وغيرهم- وانتهى به الأمر محالًا إلى المعاش بعد سيطرة الجبهة القومية في 1967م، وسقوط السلطنات في محافظات الجنوب، ومنذ ذلك الحين بات كآلاف الموظفين، في دائرة الإقصاء من العطاء.
خبراتٌ لا مكان لها
سنوات ما بعد التقاعد باتت كمغارةٍ تلتهم القدرات والكفاءات، وتغيّبهم عن المشهد بصورة مروّعة، ومناجم من الخبرات والتجارب، ينهال عليها الإهمال والعزوف.
بعد استقراء نخبة من المتقاعدين اتضح أنّ أكبر تحدياتهم هي المستحقات المالية غير المستوفاة، إذ زادت الحرب معاناتهم بشكل كبير، فبعد أن كان راتب الموظف يعادل 550 دولارًا تقريبًا في 2014، أصبح اليومَ بعد تدهور العملة وتراجع سعر الريال اليمني، يساوي 160 دولارًا.
ويرى الإعلامي محمد عبدالله الحداد، لـ"خيوط"، أنّ هناك ضرورة للاستفادة من كوادر المتقاعدين وخبراتهم التربوية بصورة خاصة، في ظل التحديات التربوية والأخلاقية التي يمرّ بها واقع التعليم اليوم، قائلًا: "رفد المدارس بشخص أو اثنين من ذوي الخبرة، سيُشكِّل فارقًا إداريًّا ومعرفيًّا بكل تأكيد، لا سيّما أنّهم ما زالوا قادرين على العطاء، وبهذا الكمّ من الخبرة والنضوج".
في ذات السياق، يبدي عبدالله المفلحي– مسؤول سابق في مصرف حكومي، استغرابه من عدم الاستفادة من خبرات المتقاعدين كاستشاريين للمشاريع الصغيرة والبرامج المختلفة، سواء حكومية أو خاصة، في حين يأمل أن يتم العمل على إنشاء نادٍ أو جمعيّة تلمّ شمل المتقاعدين، وتقيم حلقات نقاشيّة وأنشطة مختلفة تعود لهم وللمجتمع بالفائدة.
في واقع الأمر، تمّ إنشاء بعض الجمعيّات والنقابات الخاصّة بالمتقاعدين، وكانت المطالبات بحقوقهم المالية أبرزَ مهامهم، لكنها لم تنجح في معظمها.
ويعتقد عبد الإله هاشم- شخصية تربوية شغلت العديد من المناصب، أبرزها رئيس شعبة التعليم بمكتب وزارة التربية والتعليم بساحل حضرموت، بأنّ أغلب الكيانات التي أنشِئت للمتقاعدين لم تكن بمستوى تطلعات هذه الفئة المخضرمة، فالكثير منها وقعت ضحية تجاذبات سياسية، ولم تصمد لخدمة الأهداف الرئيسية التي أُنشِئت من أجلها.
بخصوص واقع المتقاعدين في ظل هذا التشتّت وغياب الكيانات الحقيقية لهم، يضيف هاشم لـ"خيوط"، أنّ "المتقاعدين بأجنحة مكسّرة، وتراجعت مكانتهم وتأثيرهم في المجتمع للأسف، فالمعلم على سبيل المثال اختلفت صورته تمامًا عمّا كان عليه بالأمس، والأسباب اجتماعية وثقافية، وسياسية أيضًا".
عند المرور على قوائم المتقاعدين، تجد الخبير في العلوم الذي لزم منزله دون أن يطرقه طارق لاستشارة أو نصيحة، والرجل العسكري والقائد الأمني بعد أن تصدّعت رأسه بالتجارب وبلغ رصيده النضالي مبلغه، تم مكافأته بعبارة "كثّر خيرك، وخليك في البيت"، ورجل الاقتصاد الذي عرف حيثيات المعادلة المالية والمصرفية بعد سنوات من الخبرة والنضج في التحليل واتخاذ القرار، لكنه آثر الجلوس "محتبيًا" على دَكّة منزلة بعد تقاعده، في الوقت الذي تغرق فيه البلاد، في أزمات اقتصادية خانقة وأمنية معقّدة وعلمية بالجملة، كان من الممكن أن تكون حلولها أو مداخلها لدى هذه الكوادر المعطّلة.
ظروف معيشية قاهرة
بعد استقراء نخبة من المتقاعدين اتضح أنّ أكبر تحدِّياتهم هي المستحقات المالية غير المستوفاة، إذ زادت الحرب معاناتهم بشكل كبير، فبعد أن كان راتب الموظف يعادل 550 دولارًا تقريبًا في 2014، أصبح اليومَ بعد تدهور العملة وتراجع سعر الريال اليمني، يساوي 160 دولارًا، وفقَ حديث المفلحي.
وبحسب الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات بساحل حضرموت، فإنّ (4784) من المتقاعدين الأحياء يتقاضون شهريًّا أجورهم التي تصل في حدّها الأدنى إلى (25-30 ألف ريال يمني)؛ ما يعادل 26 دولارًا شهريًّا تقريبًا، أي أقل من دولارٍ واحدٍ يوميًّا، وهي واحدة من أصعب الظروف الاقتصادية التي مرّت بالبلاد من سنوات بعيدة، ونحن هنا نتحدث عن المتعاقدين المنتظمة أجورهم من الموظفين لدى الدولة، غير المنقطعة معاشاتهم والمجتزأة والمؤجلة.
وعن المشكلة ذاتها، يضيف الموظف المتقاعد (س.ح)، في السبعين من عمره، بالقول؛ إن لديه أربع بنات متزوجات، ويعيش حاليًّا مع زوجته في بيت إيجار، "راتبي 45 ألف ريال يمني، لا أعرف كيف أدير بها شؤون حياتي في حدّها الأدنى بين تسديد الإيجار أو سدّ جوعنا وسط هذا الارتفاع الجنوني للسلع الغذائية، أو نحضر بها الدواء الذي نحتاجه؟!"، ثم أطرق وعيناه مغرورقتان بالدمع والانكسار، وتمتم قائلًا: "أحيانًا صرنا "نشحت"، وأهل الخير ما يقصرون".
بين مطرقة الحاجة وسندان الإهمال، يقضي أغلب المتقاعدين ما تبقّى من خريف أعمارهم، بعد أن انقضى ربيعه في خدمة البلاد وأهلها.
عاد العم سعيد للانتظام في طابور استلام المعاشات، ولسانه يلهج بالدعاء بألّا تزدحم بوابة البريد ويتدافع الناس، فيصاب في رأسه ويسيل منه الدم، فيضطرّ لإنفاق نصف راتبه في معالجة ذلك الجرح، كما حدث ذات مرّة.