اليوم الأول من إجمالي 16 يومًا اجتمعوا فيها لتلقي تدريبات مكثفة وتشكيل مجالس للأطفال، بدأ بتعريف كلّ طفل بنفسه وطرح قضية واحدة على الأقل يعاني منها الأطفال اليوم في اليمن. كانوا 24 طفلًا وطفلة من 4 مديريات مختلفة يلتقون للمرة الأولى. خبراتهم قليلة لدرجة أن هذا البرنامج التدريبي قد يكون أبرز تجاربهم، ومع ذلك يمكن ملاحظة قصة مختلفة في صوت كل واحد منهم وهو يعرّف عن نفسه. يقفون على شكل حرف (U) بالإنجليزية، ووصل الدور عند رقم (7)؛ فتاة هادئة وأنيقة يبدو أنها في الثالثة عشرة من العمر. نهضت من كرسيها لتخبر البقية بأنها فرح، طالبة في الصف التاسع، ولتقول إن قضايا الأطفال ليست كثيرة فحسب، بل إن جميعنا نعرفها، وإنها تعتقد أنه بدلًا من تضييع جزء من الوقت في الحديث عما نعرفه، من الأفضل لو تحدثنا مباشرة عن الحلول. ثم اقترحت بأن تتعاون كل مدرسة مع مجالس الآباء فيها من أجل أن يشكلوا لجنة لجمع الكتب من الطلاب السابقين للتغلب على مشكلة نقص الكتاب المدرسي. يا لها من حماسة ومن بداية لهذا البرنامج التدريبي!
يستمر التعارف، وبدلًا عما هو متفق عليه بطرح كل شخص قضية واحدة على الأقل بعد التعريف بنفسه، بدأ بعضهم فعلًا بالحديث عن حلول ممكنة لمعالجة بعض القضايا التي تهم الأطفال. ثم وصل الدور عند رقم (13)؛ ولد يافع أسمر البشرة، أنيق المظهر، يبدو كما لو أنه في الخامسة عشرة من العمر. اتضح من حديثه بأن اسمه خليل، وأنه طالب في الصف الأول الثانوي. وبدلًا من أن يطرح قضية أو يتحدث عن حل، ذهب خليل للحديث عن حلمه وما يتمنى أن يكون في المستقبل. ثم وجّه سؤالًا للجميع: "ألا تعتقدون بأننا يجب أن نركز على أنفسنا وما نريد أن نكون، وأن نعمل على ذلك بجد بدلًا من مناقشة أمور ليست في أيدينا؟".
أثار خليل جلبة بين بقية الأطفال الذين عرّفوا عن أنفسهم بعده. بعضهم اتفق معه، وبعضهم اختلف وشدّد على أن يكون للأطفال بصمة في معالجة القضايا التي تهمّهم. وبمجرد أن اكتمل التعارف، بدا واضحًا أن بعض القلق قد ظهر على وجه المدرب والقائمين على البرنامج التدريبي، رغم سعادتهم الواضحة بهذه الطريقة التي بدأ فيها البرنامج. وبدلًا من أن يبدأ المدرب مباشرة عمله، طلب من مدير المشروع أن يبدأ الحديث ليقدم للأطفال نبذة سريعة عن مشروع "تعزيز حوكمة الأطفال في المناطق المتضررة من النزاع بمحافظة تعز"، الذي يأتي هذا البرنامج التدريبي ضمن أنشطته.
حوكمة الأطفال
دخل مفهوم الحوكمة على نطاقٍ واسع إلى القطاعين العام والخاص منذ مدة طويلة، وأصبح هدفًا تسعى إليه الحكومات وكبرى الشركات، وظهرت معه الحاجة إلى تشكيل أطرٍ إجرائيّة لتمكين أصحاب القرار من اتّخاذ القرارات الصائبة. ويشمل إطار الحوكمة مجموعة من العلاقات التنظيميّة التي توفّر منظومة متكاملة وأساسيّة لتنفيذ الأعمال وتنمية البيئة الداعمة واستدامتها بما يخدم مسار التطوّر. فالحوكمة تستند إلى القوانين والإجراءات واللّوائح المنظّمة وتتّسم بمشاركة الأطراف كافّة بما يضمن تحقيق الرؤية والأهداف.
هناك أكثر من مليونَي طفل وطفلة في سن الدراسة خارج المدارس؛ بسبب الفقر والصراع وانعدام الفرص. ويرى اليوسفي أن الوصول الشاق إلى الخدمات الأخرى، مثل الصحة والمياه والأمن وما إلى ذلك، أثر على حياة الأطفال؛ فالزواج المبكر، والاستغلال، والعنف، وعمالة الأطفال، وتجنيد الأطفال، والصدمات النفسية، بعضٌ من آثار الصراع على الأطفال في اليمن.
وتتكون مؤسسات الدولة والمنظمات من إدارات وأقسام متعددة، لكلٍّ منها مسؤوليات وأهداف مختلفة، تعمل جميعها مع بعضها، وتتداخل مسؤولياتها من أجل تحقيق أهداف المؤسسة أو المنظمة. ولتنظيم أدوار تلك الأقسام مع بعضها وتقليل الفجوة بينهم، تأتي أهمية الحوكمة. وحوكمة الأطفال تعني ضمان أن تعمل القوانين والسياسات والموارد لصالح الأطفال من خلال مؤسسات الدولة المفتوحة والشاملة والخاضعة للمساءلة.
"وفي حين أثر الصراع الدائر في اليمن على الجوانب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد"، يقول عمر اليوسفي- مدير مشروع تعزيز حوكمة الأطفال في المناطق المتضررة من النزاع بمحافظة تعز، مخاطبًا الأطفال: "بسبب هذا الصراع عاشت البلاد وتعيش أسوأ أزمة إنسانية في العالم. انهارت مؤسسات الدولة، وحصل تدمير واسع النطاق للممتلكات العامة والبنية التحتية وتقديم الخدمات، بالإضافة إلى وقوع خسائر فادحة في الأرواح، ونزوح واسع النطاق، وتدهور الأمن وإغلاق الطرق". وتابع: "تفاقم هذا الوضع بشكل كبير بسبب الاقتصاد المزدوج السائد بحكم الأمر الواقع، الذي يتميز بارتفاع معدلات التضخم، وانتشار البطالة، ومستويات الفقر المثيرة للقلق".
"هذه الآثار المتعددة الأوجه للنزاع المسلح"، بحسب اليوسفي، جعلت الأطفال ضعفاء ومتأثرين بشكل لم يحدث من قبل في تاريخ اليمن الحديث. وفي حين تقول اليونيسف إن: "هناك أكثر من مليونَي طفل وطفلة في سن الدراسة خارج المدارس بسبب الفقر والصراع وانعدام الفرص"، يرى اليوسفي أن الوصول الشاق إلى الخدمات الأخرى، مثل الصحة والمياه والأمن وما إلى ذلك، أثر على حياة الأطفال؛ فالزواج المبكر، والاستغلال، والعنف، وعمالة الأطفال، وتجنيد الأطفال، والصدمات النفسية، بعضٌ من آثار الصراع على الأطفال في اليمن.
"في مثل هذه الحالة، تتراجع أصوات الأطفال، ولا يوجد آلية للتعبير عن احتياجاتهم ومعاناتهم"؛ يقول اليوسفي ويضيف مخاطبًا الأطفال: "لكن هناك من لا يقبل بأن يتم تهميشكم، ومن ضمنهم منظمة شباب بلا حدود التي أطلقت هذا المشروع من أجل ضمان مشاركتكم وسماع أصواتكم، رغم محدودية السبل لسماع أصوات الأطفال وحماية حقوقهم".
برنامج تدريب
في فندق تاج شمسان بمدينة تعز، اختتمت منظمة شباب بلا حدود، الخميس ٨/٨/٢٠٢٤، برنامجًا تدريبيًّا استمر ١٦ يومًا، وهدف إلى بناء قدرات 24 طفلًا وطفلة، يمثلون خلفيات جنسانية واجتماعية متنوعة، ويشكلون 4 مجالس للأطفال في مديريات القاهرة وصالة والمعافر وصبر الموادم بمحافظة تعز.
صمّمت الدورات التدريبية لتزويد مجالس الأطفال بالمهارات الأساسية لتمكينهم من التعبير عن آرائهم وأفكارهم، وتقديم مقترحاتهم حول القضايا التي تهمهم. يقول المدرب حسين الحميدي إن الأطفال من خلال البرنامج، اكتسبوا المهارات اللازمة لتمثيل أقرانهم في مدارسهم ومناطقهم في المدينة والريف، وهي خطوة في سياق تعزيز مشاركة الأطفال في صناعة القرار وتطوير مهاراتهم وقدراتهم. مضيفًا أنّ البرنامج تضمّن مجموعة من المواضيع التنموية التي تلبي احتياجات واهتمامات الأطفال، شملت التنمية الاجتماعية والعاطفية، والتفكير النقدي، وحل المشكلات، ومهارات الاتصال، والإبداع.
يهدف مشروع "تعزيز حوكمة الأطفال في المناطق المتضررة من النزاع بمحافظة تعز" إلى تعزيز إدارة الأطفال من خلال تمكينهم وبناء قدراتهم، ومن ثم الدعوة إلى إشراكهم في التخطيط والتنفيذ للمشاريع والقضايا التي تخصهم. وبعد إنشاء مجالس للأطفال، يسعى المشروع إلى تمكين هذه المجالس لتكون منصة للأطفال، للمشاركة في عمليات صنع القرار، وضمان سماع أصواتهم.
وفي أثناء سير البرنامج التدريبي وتحديد يوم الخميس 18 يوليو2024 اقامت منظمة شباب بلا حدود فعالية احتفالية لتدشين مجالس الأطفال في مدينة تعز بحضور فاعل من قيادات السلطة المحلية ممثلة بوكيل أول محافظة تعز، الدكتور عبد القوي المخلافي، ومدير مكتب الشؤون الاجتماعية، الأستاذ عبده علي، ونائب مدير مكتب التربية التعليم، ونائب مدير مكتب التخطيط والتعاون الدولي.
وخلال الافتتاح أعرب الوكيل المخلافي، عن سعادته ودعمه لهذه المبادرة الهامة قائلا: "أن الأطفال هم المستقبل وعلينا أن نسهم في بناء مجتمع يسمح لهم بالمشاركة الفاعلة فيه"، فيما أشاد الأستاذ عبده علي، بهذه الخطوة وعبر عن امله في أن يكون لمجالس الأطفال دور واضح في تعزيز حقوق الأطفال وتمكينهم من المشاركة في صنع القرارات المحلية.
"ستوفر هذه المجالس منصة للأطفال للتعبير عن آرائهم، والمشاركة في عمليات صنع القرار، والمساهمة في الأمور التي تؤثر عليهم بشكل مباشر" يقول مدير المشروع عمر اليوسفي. وفيما يعتقد اليوسفي أن "تشكيل مجالس الاطفال خطوة هامة لتعزيز التواصل بين الأطفال والسلطات المحلية وايصال القضايا التي تهم الأطفال الى صناع القرار في المحافظة"، يقول شوقي العليمي وهو ولي أمر أحد الأطفال من أعضاء المجالس أن البرنامج التدريبي الذي تلقاه الأطفال تجربة رائعة ومثمرة: "استطاع ابنائنا اكتساب مهارات جديدة وأساليب فعالة لتطوير قدراتهم ومهاراتهم، وقد مثل هذا البرنامج نقطة انطلاق مهمة وادفعا قويا لهم في مشوارهم نحو تمكينهم وبناء مستقبل مشرق لهم".
قادة المستقبل
يهدف مشروع "تعزيز حوكمة الأطفال في المناطق المتضررة من النزاع بمحافظة تعز" إلى تعزيز إدارة الأطفال؛ من خلال تمكينهم وبناء قدراتهم، ومن ثم الدعوة إلى إشراكهم في التخطيط والتنفيذ للمشاريع والقضايا التي تخصهم. وبعد إنشاء مجالس للأطفال، يسعى المشروع إلى تمكين هذه المجالس لتكون منصة للأطفال، للمشاركة في عمليات صنع القرار وضمان سماع أصواتهم.
تقول فرح الأديمي، وهي عضوة في مجلس الأطفال في المعافر، أنها أثناء التعريف بنفسها في أول أيام البرنامج التدريبي لم تكن ترغب في أن يستمر الحديث عن قضايا الأطفال بتلك الطريقة؛ أي طرح القضايا فقط، لذا فضّلت أن تتحدث بطريقة مختلفة؛ أن تركز على الحلول: "ما الذي نريده؟ جميعنا نعرف ما هي قضايا الأطفال أو يمكننا عمل استبيانات وسنعرف قضايا الأطفال؛ لذا الأهم أن نقول نحن الأطفال ما هي الحلول التي نرى أنها ممكنة لبعض المشكلات والقضايا التي نعاني منها".
وجهة نظر فرح، لاقت ترحيبًا كبيرًا بين أقرانها في مجالس الأطفال في المديريات الأربع، وأصبح الجميع يطرح القضية، ويحاول البحث لها عن حل. يقول المدرب حسين الحميدي: "شخصية فرح قيادية؛ لذا لم أستغرب أنه كان لها هذا التأثير في بقية الأطفال". وأضاف: "في الحقيقة الجميع هنا لديهم ملامح أشخاص قادة، انظر إلى خليل مثلًا، في أول يوم كان لديه رأي، وهو أن يركز الأطفال على أنفسهم فقط، صحيح لم يعُد لديه نفس الرأي الآن، ولكنه كان يطرح رأيه كما يفعل أيّ قائد".
تُوفي والد خليل قبل عام تقريبًا؛ لذا تحمل هو المسؤولية مبكرًا؛ كونه الابن الأكبر، وهذا قد يفسّر ميله إلى التركيز على ما يمكن القيام به "بدلًا من مناقشة أمور ليست في اليد"؛ كما قال عندما عرّف بنفسه أول مرة. تقول والدته: "صحيح أنه لا يزال طفلًا، ولكن منذ أن تُوفي والده ظهرت عليه شخصية قيادية، يعمل كل ما بوسعه لكي تكون الأمور على ما يرام".
وفرح، بحسب والدها، عاشت طفولتها منذ نعومة أظافرها؛ كانت أسرتها مستقرة في العاصمة صنعاء حيث يعمل أبوها، ولكن بسبب التبعات الكارثية للحرب فقدَ الأب عمله واضطر إلى أن يأخذ أسرته ويعود بها إلى مسقط رأسه في مديرية المعافر. الفتاة التي بدأت حياتها الدراسية في مدرسة خاصة نموذجية، أصبحت نازحة في قرية والدها، واضطرت إلى أن تواصل تعليمها في مدرسة القرية التي تعاني من نقص المدرسين، وعدم حصول الموجودين على تأهيل وتدريب، ومن نقص الكتاب المدرسي، ومن الاكتظاظ في الفصول، ومن تسرب بعض الأطفال من المدرسة. رأت بعينها مشكلات كثيرة خلال السنوات الأخيرة؛ لذا عندما أصبحت في مجالس الأطفال، آمنت بأنه يفترض أن يكون لها دور، وألا يقتصر دورها على إحصاء المشكلات بل المساهمة في التفكير بحلول لها.
شهدت المناطق التي أنشئت فيها مجالس الأطفال، العواقبَ المباشرة للصراع، بما في ذلك محدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية، وتعطل التعليم، وعدم وجود فرص للأطفال للمشاركة في عمليات صنع القرار، وفي حين كان لا بد من المساهمة في جهود إعادة بناء وإنشاء مجتمع أكثر شمولًا ويتمحور حول الطفل في مواجهة التحديات المستمرة؛ أطلقت (شباب بلا حدود) هذا المشروع من أجل إيصال صوت للأطفال، وتمكينهم من المشاركة في جهود إعادة بناء المجتمع بشكل أكثر شمولًا. بكلمات أخرى؛ مضت شباب بلا حدود في صقل قيادات المستقبل.