تتعرض صنعاء القديمة لإهمال وتشويه لا حدود لوصفه، يطال المدينة العريقة التي أصبحت تعاني نتيجة لذلك من تهالك مبانيها ومنازلها مع بروز مجموعة من المشاكل والتحديات التي تؤثر على القيمة التراثية والحضارية للمدينة العتيقة. إذ يشكل انتشار الأوساخ والنفايات في المدينة، أحد أهم المشاكل التي تشوه المدينة وتزيد هشاشة أساساتها، وتتسبب في تدمير تدريجي لهويتها ومنظرها الجمالي.
على الرغم ممّا يبذله عمّال النظافة من جهد كبير في تنظيف أزقة المدينة وشوارعها بشكل يومي، فإنه وخلال ساعات قليلة بعد انتهاء عملهم، يمكن مشاهدة النفايات والقمامة والأوساخ متراكمة من جديد في كل مكان، وكأنّ أياديَ وعربات نظافة لم تمر لالتقاطها منذ ساعات قليلة.
التخلص الخاطئ من النفايات
يتحدث الموظف في صندوق النظافة والتحسين، محمد علاية، لـ"خيوط"، متحسرًا من عدم استجابة المواطنين للتعليمات المتكررة بعدم إخراج القمامة إلى خارج المنازل إلا وقت مرور سيارة النظافة، بالرغم من حملات التوعية المتكررة للحفاظ على المدينة التاريخية كي تكون في أجمل صورها الجاذبة.
يضيف: "نواجه مشكلة حقيقية تتمثل في عدم قدرة دخول سيارة النظافة إلى الحارات الضيقة لرفع النفايات والأوساخ، ولهذا يسعى الصندوق إلى استخدام الدراجات النارية للدخول إلى الحارات الضيقة، لرفع المخلفات والأوساخ خلال الفترة القليلة القادمة".
فيما يشير مدير الصندوق، ميثاق أحمد، لـ"خيوط"، إلى جانبٍ آخر من معاناة عمّال النظافة في الأسواق الشعبية في المدينة، وعلى وجه الخصوص سوق الملح وسوق البقر وسوق الزُّمر، التي تكتظ بالبسطات والعربات والباعة المتجولين، إضافة إلى مشكلة أخرى تتمثل بانتشار محلات تجارية وسكنية ومحلات (حوانيت) لأعمال وأنشطة متعددة بدون حمامات، يتخلص أصحابها من نفاياتهم في الأزقة الجانبية.
ويؤكد ميثاق أنهم قاموا بوضع أكثر من 50 برميلًا (صناديق خاصة بوضع القمامة بداخلها)، لكن المفاجأة تكون برميها في الشوارع وفي سائلة صنعاء، وهو وضع يجب أن يتوقف، ويُدرك الجميع أهمية اتباع مثل هذه الطرق والوسائل الحضارية للحفاظ على جمال ومنظر مدينة صنعاء القديمة ووضعها البيئي.
ويضيف: "قمنا بإنزال فريق للتوعية ميدانيًّا، وأيضًا للمنازل، شملت جميع الحارات، ووزّعنا إشعارات بمواعيد مرور سيارة النظافة في اليوم ثلاث مرات، وجعلنا المواطنين هم من يحدد الموعد المناسب لهم، ونقوم بالعمل على أكمل وجه، إضافة إلى أن الحملات مستمرة في كل مديريات صنعاء القديمة وغيرها".
ورش الحديد وورثة المنازل
وتشكّل الورش المختلفة في سوق الحلقة (شمال شرق الجامع الكبير)، مثل ورش النحاس والمعدن والحديد، نوعًا آخر من التهديدات التي تعاني منها صنعاء القديمة؛ لأنها بحسب حديث أمجد عبدالمغني، اختصاصي الترميم بقسم الآثار في جامعة صنعاء، لـ"خيوط"؛ تسبب صعود غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى الملوثة، حيث إنهم يستخدمون الأفران لإذابة هذه المعادن غير المعالجة، يضاف إلى ذلك أنّ المدينة القديمة برمتها محاطة بحزام صلب من الشوارع المكتظة بوسائل النقل ومواقف السيارات التي يترتب عليها انتشار العوادم في فضاء المكان؛ مما يشكّل ضغطًا بيئيًّا مضاعفًا على المدينة.
يتزامن كل ذلك مع مغادرة أغلب السكان الأصليين للمدينة القديمة إلى الأحياء الجديدة، مع قيامهم بتأجير بيوتهم لمستأجرين من خارج المدينة لا علاقة لهم بثقافة المكان وخصائصه، فتتعرص البيوت للإهمال والتشويه بشكل كبير، إضافة إلى أن هناك منازل أخرى مهجورة غير آهلة بالسكان، تعود ملكيتها لأسر معروفة، في الفليحي، والأبهر، وغيرها.
يقول محب الدين، ناشط ومختص اجتماعي، لـ"خيوط"، إن هناك أسبابًا كثيرة حالت دون الاهتمام بالبيوت والمساكن، ومنها أن كثيرًا منها يعود لورثة يتنازعون على ملكيتها، مما يقود إلى إهمالها لتضيع معها قيمتها التاريخية والجمالية، فضلًا عن أنّ الأمطار والمناخ المتطرف الذي يجتاح البلاد منذ سنوات، سرّعا من تهالك وتساقط المنازل، وضياع قيمتها وإرثها التاريخي.
ويرى أنّ الحل لمواجهة ذلك، يكون في تفعيل دور القانون؛ أي تمكين الدولة عن طريق المجلس المحلي والجانب الحكومي في الهيئة، بالتواصل مع القائمين أو على هذا المنزل أو ذاك لعمل اتفاق مع الورثة والهيئة للبحث عن تمويلات تُخصَّص لإجراء الصيانة الأساسية في بيوت صنعاء المدمرة جزئيًّا، أو المعرضة للدمار.
مواد عضوية وبكتيريا ضارة
في السياق، يؤكد اختصاصي الترميم بجامعة صنعاء، أمجد إسماعيل، لـ"خيوط"، أن انتشار القمامة والمخلفات وتراكمها، وعدم وجود مكبات محددة لها في المدينة، يتسبب بالعديد من الأضرار الفادحة للمدينة. ويقول: "عادة ما تكون محتويات هذه المخرجات المنزلية عضوية، مثل بقايا الطعام والمشروبات، وأنّ بقاءها ساعات دون رفع وإزالة يجعلها عرضة لعبث القطط والكلاب ومرتعًا للحشرات الضارة، فضلًا عن تكاثر البكتيريا والفطريات وانتقالها إلى شقوق الجدران، حيث تبدأ بتكوين بيئة حامضية لتعيش فيها، ومن ثم تؤثر على المنشآت في عملية تعرف بالغزو البيولوجي أو التلف البيولوجي؛ ولذلك يجب أن يكون هناك قوالب بلاستيكية لوضع القمامة بداخلها. إضافة إلى ضرورة استخدام قوالب متخصصة للمواد العضوية والبلاستيك والزجاج، وذلك بهدف وقاية المدينة ومنظرها الجمالي، وتدوير للمواد العضوية".
يتحدث عرفات شمهان، مدير عام التخطيط في الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، لـ"خيوط"، عن التدهور الذي أصاب المدينة التاريخية بسبب الإهمال، بقوله: "صنعاء القديمة مدينة تاريخية أثرية، لكن للأسف ليس هناك وعي كافٍ للمحافظة عليها لدى أهلها والساكنين فيها؛ لأنهم يجهلون قيمتها التاريخية الكبيرة وخصائصها الثقافية والمعمارية.
خلخلة بسبب التمديدات العشوائية
في حين تلفت الدكتورة منى القاضي، اختصاصية الصيانة والترميم بقسم الآثار- جامعة صنعاء، لـ"خيوط"، إلى جانب من عمليات التدمير التي تطال البنية التحتية، منها على وجه الخصوص، التمديدات الكهربائية العشوائية، وتمديدات التليفونات وشبكات النت الخاصة، وتمديدات الصرف الصحي التي تعمل مجتمعة على خلخلة الشوارع وصولًا إلى خلخلة المباني.
إضافة إلى ذلك -كما تقول القاضي- تعاظم ظاهرة المركبات والسيارات بأحجامها المختلفة التي تدخل إلى المدينة وتتسبب باهتزاز في المباني، ومع التقادم تتخلخل أساسات المباني القديمة، فتتعرض للسقوط، واحدًا تلو الآخر؛ والأمر الكارثي -على حد قولها- وأنّ من يقوم بحماية المدينة أو ما يسمى بهيئة المدن التاريخية، لا هم لها إلا الانتفاع المادي دون العمل.