لليمن تاريخ طويل من المعاناة مع الفقر والمجاعات، فالتجويع ظلّ حليفًا للاستبداد وتُراثه الأثير، الذي حفر ندوبه على اليمنيين. وعبّر عن إرث المُعاناة الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني؛ "عرفته يمنيًّا في تلفّته خوف/ وعيناه تاريخ من الرمد". صورة بليغة يتمثل فيها اليمني بركام من الخوف والرمد يحفر عينيه. وفي الموروث الثقافي اليمني والفني صورٌ توثق تلك المُعاناة بوصفها بيوغرافية حسية لآلامه.
شكّلت آلة القمع في اليمن، صنوفًا من العذابات، كان التجويع أكثر ممارساتها تعسفًا وتعنتًا. يمكن أن نطلق على ممارسات القمع مع المجتمع اليمني وصف "كافكاوي"، تتضمن علاقة سوريالية لا تحتكم إلى أي قواعد قانونية أو أخلاقية. ويتكشف المشهد السوريالي في قصة "العسكري ذبح الدجاجة" للأديب اليمني زيد مطيع دماج.
تبدأ القصة بخبر صاعق يتلقاه "الرعوي" عن وجود عسكري في بيته يريد من زوجته أن تذبح له الدجاجة. وبينما يهرع نحو بيته، فكر بأن الشاكي به "مُصلح" بسبب خلاف حدث مؤخرًا بينهما، شاعرًا بالحقد عليه. لكنه يكتشف أن الشاكيَ جارُه الطيب "مُسعد"، ولم تسعفه حيرته عن إيجاد سببٍ للشكوى.
وفي المنزل تخبره زوجته باقتراض أُجرة العسكري من العدل، ريالَين ليعفيهما من ذبح دجاجتهما الوحيدة. كان الحوار سورياليًّا، فالعسكري لن يقبل بأن يكون غداؤه "عصيدة"، وحين حاول الرعوي التملص من ذبح الدجاجة، كونه وعد ولده بأن يشتري له من ثمنها رداءً جديدًا، هدّده بذبح بقرته الوحيدة، لكن المواطن الريفي لا يمكنه الاستغناء عن بقرته، فبدونها يُصبح شبه مُعدم، ليرضخ أخيرًا.
العسكري؛ آلة إفقار
يتعمق المشهد السوريالي للقهر، عندما يلجأ المزارع للعدل، وهذا يقابله "المُختار" في بلاد الشام، من أجل الحصول على "قات" للعسكري. يتعرض لاستغلال العدل الذي يفرض عليه ريالَين قيمة القات، رغم اعتراض "الرعوي" بأنه لا يساوي ريالًا. لكن الأخير يرضخ للأمر الواقع، ويقترض منه ريالَين أجرة للعسكري، فيخبره العدل بأن مجموع ما اقترضه "خمسة ريالات"، ولم يجد المواطن الذي لا يملك شيئًا سوى الرضوخ لهذا الاستغلال.
تُصوِّر القصة نسيجًا اجتماعيًّا واسعًا، وإن اختزلته في كوميديا سوداء. موضحة العلاقة بين الحكومة ورعاياها أو مواطنيها، حيث جعلت المواطن مُلزمًا بالفقر والجوع تحت أكثر من ذريعة عُرفية، فيصبح أشبه بشجرة تقتات منها الطفيليات.
غير أنه يبدو أكثر قسوة، في مشهد تناوُل الأسرة وجبة الغداء مع العسكري، فتضطر للنهوض عندما يحين وقت تناول الدجاجة، ليتناولها الأخير وحيدًا. قد يبدو المشهد فيه مبالغة من صنع الخيال، لكنها من صميم الواقع. وكما يقول غابرييل غارسيا ماركيز: "الواقع أكثر ثراء من المخيلة"، في إشارة إلى أن الجانب السحري من أعماله، استلهمه من الواقع.
المنبع المُستلهم منه واحد، وهو الواقع اليمني المُثقل بالاستبداد، حيث شكّل مصدرًا للتعبير الفني، سواء بأسلوب خطابي حفلت به قصائد الزبيري، المدفوع بروح ثائرة فرضتها ظروف عصره، أو فيما اتخذه لدى دماج من نسيج سردي أقرب إلى الكوميديا السوداء والتهكم المُثقل بالمأساة.
وفي المشهد يتجلى الواقع الكابوسي بصورة فانتازية من صميم الواقع، فما يمتلكه اليمني، قليلًا كان أو كثيرًا، عُرضة لاستيلاء أدوات الحكومات القمعية. تنتهي الكوميديا السوداء بعد أن يرفض العسكري أثناء ذهابه الريالين، بوصفها الأُجرة المُقررة له من الحكومة، مُطالبًا بزيادتها ريالين، مستضعفًا الرعوي الذي ظلّ يُهدده بذبح بقرته.
وبعد جدل، يقبل بزيادة ريالين إلا ربع يقترضها المواطن من العدل، لكن هذا الأخير، يؤكد أن ما اقترضه منه هو سبعة ريالات، ويكتمل المشهد الكابوسي بخضوع المواطن المسكين لاستغلال مُركب، يضاعف جوعه.
بيدَ أن الكوميديا السوداء تتضح في نهاية المشهد، حين يسأل عن سبب شكوى جاره. فيخبره العسكري وهو مُغادر، بأن دجاجته نقرت عين ابن جاره مُسعد. فيرد "الرعوي" بأن ابنه هو الذي ذهب لنداء المُختار أو العدل، وكما رآه سليمًا. لكن الإجابة تأتي دون مبالاة؛ بأن لا علاقة له بالأمر.
روح الزبيري الحُرة
حين كان الزبيري في لواء تعز، عايش تلك المظاهر الفظيعة من المظالم التي يعاني منها المواطنون. وعبّر عن ذلك بألم ظاهر؛ "أول نبضة من نبضات الوطنية أحسستها جياشة في قلبي، فوارة في دمي، كانت في قضاء "القماعرة"، حيث رأيت مشاهد من الظلم والاضطهاد والسلب والنهب تشمئز لها نفس الحر الكريم".
أبت روح الزبيري الحُرة أن تقبل تلك المظالم، ودفعته إلى ركوب موجة النضال، فكرّس شِعره ضد الاستبداد. وفي إحدى قصائده المسرحية، بعنوان "العجوز والعسكري"، يصور الزبيري تلك المأساة في حوار بسيط يدور بين شخصيتين؛ الضحية "العجوز"، والباغي "العسكري"، وهذه الثنائية تثير عُرفًا عميقًا كرسته سياسة الاستبداد في اليمن، جسّدتها تلك الحوارية.
العجوز: "يا رب كيف خلقت الجند ليس لهم/ عندي طعام ولا شاة ولا نعمُ/ ويلاه ما لي أرى وحشًا وبندقه/ أذلك العسكري الغاشم النهم؟".
فيرد عليها العسكري: "نعم، أنا البطل المغوار جئت/ إلى عجوزة لم يهذب طبعها الهرمُ"، وينتهي بقوله: "أين الدجاجة؟ أين القات فابتدري/ إنّا جياع وما في حيكم كرمُ".
ويمضي الحوار بحيث تحاول العجوز تأكيد فقر حالها، عله يعطف عليها ويثنيها من البغي، حتى تبلغ بها الحيرة متسائلة: "ماذا يريدون من جوعي ومسغبتي/ إني لك الحمل المشوي بينهم/ يطلبون زكاة الأرض ليس بها/ إلّا الحمام وإلّا الحجر والرخم".
تذهب كل توسّلاتها دون جدوى في إثارة تعاطف العسكري، لكن وحشيته شكّلتها أداة مُمنهجة لقمع يقوم على التجويع. فيأتي الردّ من الجندي بأنه عائد لهدم كوخها. هنا الكوخ يحل محل البقرة في قصة زيد مطيع دماج.
لكن المنبع المُستلهم منه واحد، وهو الواقع اليمني المُثقل بالاستبداد، حيث شكّل مصدرًا للتعبير الفني، سواء بأسلوب خطابي حفلت به قصائد الزبيري، المدفوع بروح ثائرة فرضتها ظروف عصره، أو فيما اتخذته لدى دماج من نسيج سردي أقرب إلى الكوميديا السوداء والتهكم المُثقل بالمأساة.
يأكلون طعام الفقراء
ويمضي الزبيري في وصفه الوضع؛ "جهل وأمراضٌ وظلم فادحٌ/ ومخافة ومجاعة وإمام"؛ فالتجويع أبرز علامات الاستبداد التي مثّلتها سلطة تمارس بغيها عبر إطلاق جيشها على مواطنيها. فيصف الزبيري الجيشَ بالمُحتل، مضيفًا: "يسطو وينهب ما يشاء كأنما/ هو للخليفة معولٌ هدامُ".
وهذا الوصف نجده لدى القاضي عبدالرحمن الإرياني، وهو أحد الشخصيات البارزة التي انخرطت في الثورة ضد الإمام يحيى وولده أحمد مع الزبيري ومحمد أحمد نعمان. ويقول: "معاول الهدم في البلاد/ والجند تنفيذهم بلية/ قد ناء من حملها العباد/ "خِطاطهم" في القرى رزية".
وبحسب أحمد محمد النعمان، فإن تلك المُمارسات لم يقُم بها سابقوهم العُثمانيون. لافتًا إلى المُفارقة مع الدول الأجنبية، بحيث "لم يتخذوا الجند لمحاربة الرعية بل للدفاع عنهم" في إشارة إلى السلوك الوحشي والبدائي تجاه اليمنيين، وما فيه من إذلال لهم.
والخِطاط، مفردة دارجة تصف إجراء يُعرف بـ"تنفيذ البقاء"، وفيه "يبقى العسكري أو العساكر المنفذون في منزل "الرعوي" مدة طويلة حتى يستجيب لطلبات السلطة". (حرب العصيد، 418).
وتختلف دوافع "الخِطاط" فإما أنها من أجل جبايات "تعسفية"، أو أوامر قضائية ضد مواطن، أو شكل من العقاب ضد قرية أو إحدى القبائل. ويحل خلالها العساكر المنفذون في بيوت الأهالي، ويحتلون غرفهم الخاصة، ويعبثون بحاجاتهم ويأكلون طعامهم.
وسبق لأحد ثوار 48 التي أفضت إلى مقتل الإمام يحيى عام 1948، أحمد عبدالرحمن المُعلمي، نشر مقالة في جريدة الشورى المصرية، تصف "الخِطاط" وما يمارسه الجنود بأن "عساكر الإمام يسكنون في بيوت "الرعية" ويفترشون فرشهم ويكلفونهم في المأكل فوق طاقتهم". كما أنه عرض على ممارسات تحل على نساء البيت، مثل دخولهم عليهن دون استئذان.
وبحسب أحمد محمد النعمان فإن تلك المُمارسات لم يقم بها سابقوهم العُثمانيون. لافتًا إلى المُفارقة مع الدول الأجنبية، بحيث "لم يتخذوا الجند لمحاربة الرعية بل للدفاع عنهم"، في إشارة إلى السلوك الوحشي والبدائي تجاه اليمنيين، وما فيه من إذلال لهم.
وهو ما عبرت عنه إحدى بنات مشايخ مدينة إب، في حديث شيق نقله لنا الرحالة التونسي عبدالعزيز الثعالبي، أثناء زيارته اليمن عام 1924. فعندما استقرت به إحدى الليالي للمبيت في إحدى قُرى "السياني" التابعة لمحافظة إب، جرت محاورة لطيفة بينه وبين عدد من نساء المنطقة، على وجه التحديد فتاة وصفها بابنة "الحاج مُحسن".
سألته الفتاة ما إذا كان الأتراك عائدين حتى ينقذوهم من الإمام؛ مؤكدة أن "الأراضي التي كانت تُزرع "أصبحت أرضًا مواتًا بسبب مبالغة المُحققين في تقدير الأعشار"؛ أي الضرائب. إذ يقدرونها بأضعاف ما يحصل منها. (الرحلة اليمنية، الثعالبي، 58-59).
الهجرة ومغامرة الموت
ترك كثير من اليمنيين أراضيهم، فتحولت بوارًا؛ كما قالت الفتاة للثعالبي، لأنهم حين يزرعونها تجلب عليهم الويل، من جبايات مُتعسفة، وتدفع تلك المظالم المواطنين لخسارة أملاكهم ومزيد من الفقر.
يصف تلك المُعاناة الشاعر اليمني محمد أنعم غالب، في قصيدة "الغريب": "طارده الجُباة/ وباع نصف ثروته/ ليدفع الزكاة". ويختم قصيدته بالسؤال "متى تعود؟"، في إشارة إلى ركب المهاجرين الذين يعمرون كل أرض وأرضهم خراب.
في السيرة الذاتية لأحد رجال الأعمال الثائرين، عبدالغني مطهر العريقي، يصف دوافع الهجرة في مذكراته: "من ينكر اليوم أن سيل الهجرة الجارف يجتاح الرجال والأطفال والشبان، وعصي الجوع تسوقهم وسوط الظلم يشردهم ويُنفرهم،...".
وبشكل عام، هاجر اليمنيون وعملوا في كل شيء، بما في ذلك الانخراط في القتال لدى جيوش أجنبية، فانضموا للقتال مع الإيطاليين وفي صفوف الإنجليز والفرنسيين، أثناء الحرب العالمية الثانية. وهكذا يصور الشاعر محمد أنعم غالب مُجددًا درب آلامه الموزعة على ثكنات العالم. "حاربت لا دفاعًا عن وطن/ حاربت من أجل الرغيف/ بجانب الفاشيست/ وفي الليالي السود بين الدم واللهب/ رأيت لي صحابًا... كانوا من اليمن/ في الجانب المُضاد/ حاربتهم وحاربوني".
يعد السهمي ثالث يمني يُعلن مقتله في الحرب الأوكرانية، لكن صفته الدبلوماسية تركت تأثيرًا عميقًا على اليمنيين. فالسهمي الهارب من الموت جوعًا اختار موتًا آخر هو الموت في حرب ليست له، إنما لتبقى عائلته، طامعًا في أمل للنجاة، لم يحدث.
تعود عناصر المأساة نفسها إلى الحضور، كما لو كانت قدر اليمنيين. تلك الصورة تعود برداء آخر، ففي يونيو الفائت صدم اليمنيين خبرُ وفاة دبلوماسي يمني في أوكرانيا حارب في صفوف الجيش الروسي. كان أحمد السهمي دبلوماسيًّا يعمل في السفارة اليمنية في روسيا، وجرى تسريحه عام 2017، فانقطع عليه مصدر عيشه، ما دفعه للانضمام إلى الجيش الروسي.
يُعد السهمي ثالث يمني يُعلن مقتله في الحرب الأوكرانية، لكن صفته الدبلوماسية تركت تأثيرًا عميقًا على اليمنيين. فالسهمي الهارب من الموت جوعًا، اختار موتًا آخر هو الموت في حرب ليست له، إنما لتبقى عائلته، طامعًا في أمل للنجاة، لم يحدث، لكنها الظروف التي خلفتها الحرب، ففي "رحلة رأفت"؛ وهي رواية قصيرة، يسرد الكاتب اليمني صقر الصنيدي مغامرة شاب يمني خاض مخاطرة الهرب مخترقًا الحدود، ومتجاوزًا الدوريات العسكرية، وكادت مغامرته أن تفشل بعد وقوعه في قبضة دورية عسكرية بعد تجاوزه الحدود التركية البُلغارية، واقترب من الموت الذي انتزع منهم رفيقًا من إحدى البلدان العربية.
وفي الرواية القصيرة التي صدرت العام الفائت، كانت الصورة المفزعة للرحلة، تتقاطع مع بيان ذاتي لرأفت بطل القصة، تطل اليمن كخلفية من الحنين والماضي المُثقل بسياج شائك من صور الحرب والموت، وذاكرة متقطعة تستعيد طفولته وعائلته. لعله الحنين الذي سيظل مُلتصقًا به طوال عمره في منفى اختياري اختاره مئات الآلاف من الشباب اليمني، الهارب من مأساته وسط مأساة شخصية، خوفًا من جوع أزلي يطل على عيون هي "تاريخ من الرمد"؛ كما صورها البردّوني. الأمر ذاته الذي عاينه الكاتب خالد باعزب في روايته "على أسوار بولندا"، حين تتبع حلم الهجرة لشاب يمني سدت الحرب كل الدروب أمامه، فاختار هذا الطريق الشاق الذي أوصله إلى الأسوا الشائكة في شرق أوروبا، وليس إلى نعيم الحياة في غربها كما كان يحلم.
أغانٍ توثق المُعاناة
لم تكن الأغنية اليمنية بمعزل عن توثيق المُعاناة الوطنية، تحالف الجوع والاستبداد في مشهد مأساوي يتلوه الهرب من جحيم إلى حنين. تستحضر لنا أغنية "البالة" من كلمات الشاعر اليمني الراحل مطهر الإرياني، المشهد المأساوي للواقع اليمني، وتشكل حفرًا بصوت إنسان يصف مأساة غُربته، بصور من الحنين المُثقل بالحُزن.
"والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد/ ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد"؛ هكذا يصور بُعده مستذكرًا محطات كثيفة من سيرة رحيله. "خرجت أنا من بلادي في زمان الفنا/ أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا/ وماتوا أهلي ومن حظ النّكد عشت أنا".
تناوبت على اليمنيين الأزمات ولاحقَته، فكانت الأوبئة تتسبب بفناء كثير من الأهالي. وهو ما تصوره البالة باستحضار وباء الطاعون. فكان اليمنيون يسمّون الأعوام بتلك الكوارث، مثل: "سنة الجوع" أو "سنة الطاعون"، أو أي ذكرى مُهمة، إن لم تأتِ الكوارث مثل المجاعات والأوبئة الفتاكة، أو الجفاف والآفات التي تقضي على الزراعة. وإذا كان عامٌ يحمل للأرض الخير الوفير، يجيء الهلاك عبر عساكر التنفيذ أو الجبايات.
ولم تغفل "البالة" التي تُعد من أشهر أغاني الفنان اليمني الراحل علي السمة، تلك المشاهد وإن كانت عبر تذكر الأخ؛ "ذكرت أخي كان تاجر أينما جا فرش/ جوا عسكر الجن شلوا ما معه من بُقش/ بكر غبش: أين رايح؟ قال: أرض الحبش/ وسار... واليوم قالوا حالته ناهية/ بكرت مثله مهاجر، والظفر في البكر".
استعارت الأغنية عددًا من العلامات لمشاهد القمع والآلام، وكانت الهجرة حلًّا لهروب اليمنيين من واقعهم المزري. فكما يقول السارد في الأغنية، أصبح حال أخيه جيدًا في بلاد الغُربة. فعلامات التجويع والاستبداد تجعل اليمني يعاني اغترابًا أمَرّ في وطنه، لتصبح الهجرة حلًّا أو أملًا للنجاة.
قصص وحكايات الجوع
لم تقترن الهجرة بفترة واحدة، بل ظلّت حلًّا مستمرًّا حتى بعد سقوط حكم الإمامة، إذ استمرت كثيرٌ من الممارسات المذكورة سلفًا، وإن بطرق أقل فظاظة. فاستمرت المظالم والأعباء المفروضة على المواطن، مثل أجرة العسكري، وحُكم الأهواء. وشكّلت أسبابًا للمآل الذي أنتج الوضع الراهن، وما فيه من علامات تَمزُّق وأزمات، ومزيدًا من التجويع.
ولم تكن أغنية "البالة" سوى مثلٍ وسط العديد من الأغاني. ولعل أغنية محمد عبده زيدي "الجوع كافر"، تنقل صورة واقعية بليغة، في وجهين؛ أحدهما نقد لواقع، وآخر رثاء له؛ "الجوع كافر لا يخاف الله/ لو كان رب العرش ينجي/ لو كانت أرضك خير يا بن الناس/ كان الجوع ما يقتل أخيك".
هل كانت رثاء ساخرًا يكفر بالأرض؟ ليس ذلك ما تعنيه، بقدر أنها مُثقلة بمرارة النقد، بوصم هذا الإنسان الذي شوّه أرضه بكفر الجوع.
وللجوع قصص وحكايات وجداريات نسجها اليمنيون من عبراتهم، فكانت تنويعًا على مأساة يختلط فيها الواقع المُعاصر بقصص الماضي، وفي علاقة شائكة، مصدرها تلك الكوميديا السوداء، فيكون الجوع حافزًا لمن عمل أداةً للمُستبد، سلبًا وتجويعًا وهتكًا.
وفي التراث الشعري والثقافي اليمني، لا تنقطع مشاهد الجوع. فهذا الإمام محمد بن علي الشوكاني يُعبر عن قسوة الجوع المروعة بإحدى قصائده: "جف الزرع والضرع قد شكا/ وضاقت الأرزاق واشتد البلا". وكم اشتد البلاء على اليمنيين، لكن بفعل الإنسان. وحتى في إحدى أغاني الحرب، تطفو ظاهرة الجوع "صامدون رغم الجوع/ صامدون رغم الظلم".
ويتجلى مشهد الجوع في إحدى قصائد البردّوني بوصفه هراوة الاستبداد التي بغت بحق اليمنيين على مر الأزمان، يقول: "العابثون بقوت شعب حين مزقه النظام/ قبضوا بشرعنة المناصب في دهاليز الظلام/ والفقر يفترش البطون الجائعات بلا صيام/ والحاكمون تلبسوا ثوب المذلة كالنعام".
إنه الجوع القابض على اليمنيين في ثوب إمام أو رئيس أو أمير حرب. وقبل البردوني بأكثر من قرن، يصيغ الشاعر أحمد القارة، الذي عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، قصيدة حُمينية عنوانها "ضاعت الصعبة على الخلفاء"، ولفظ "الصعبة" في الدارج اليمني هو أُنثى الحمار.
وتعبر بتهكم وسخرية لاذعة ضد ممارسات التجويع، ففيها يقول: "والخلايق كلهم رغبوا/ وبني قيس احتبوا جدبوا/ والضريبة كل يوم ضربوا/ كم دسوت لا إله إلا الله". وهكذا تنقسم أشطارها، ويتصاعد التهكم في وصفه للإمام: "والإمام محسن إمام عظيم/ بالخلافة والشروط عليم/ وهو في حصن الغراس مقيم/ منتظر لا إله إلا الله". ووصف الإمام بالمُحسن القصد منه النقيض؛ لأنه ينتظر كل تلك المظالم، باسم الضريبة التي تُختلق بشكل يومي.
وللجوع قصص وحكايات وجداريات نسجها اليمنيون من عبراتهم، فكانت تنويعًا على مأساة يختلط فيها الواقع المُعاصر بقصص الماضي، وفي علاقة شائكة، مصدرها تلك الكوميديا السوداء، فيكون الجوع حافزًا لمن عمل أداةً للمُستبد، سلبًا وتجويعًا وهتكًا.
صوّر أيضًا، الفنان اليمني هاشم علي، علامات الجوع في بعض رسوماته على الحبر الأسود، على سبيل المثال: صورة الراعي وجسده شبه العاري يبدو جلدًا على عظم، وفي مشهد يحني فيه ظهره، كما لو أنه يعكس الأحمال المُثقلة على كاهله؛ أعباء الحياة. وفي سيرة الجوع اليمنية، نرى كافرًا يستحل أرضها بلا رحمة، وتتعدد استخداماته باختلاف العصور.